الوجود النّسطوري في الخليج.. نصوص وشواهد آثارية 3-1

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

عاش أهل الخليج بدياناتهم المختلفة متآلفين، متقاربين، لم يكن الدين أبداً سبباً في تفرّقهم، وتمزّق لُحمتهم بل كانوا متعاونين متعارفين، ولم يرد في أيٍّ من المصادر ما يدلّ على نشوء صراعات بين أهالي الخليج لأسباب دينيّة، فكان لليهود دينهم، وكان للنّصارى النّساطرة مذهبهم، وكان للوثنيين عبادتهم، وكان للمجوس معابدهم، وكان لمقدِّسي الخيول والإبل مكانتهم، ولم يعتدِ أحد منهم على أحد.

واستمرّ الوضع مع مجيء الإسلام، فلم يجبر المسلمون النّاس على دخول الإسلام، بل أسلم أهالي الخليج في طواعية، إلا ما جرى من اختلال واضطراب في وقت الرّدّة. وفي هذه الحلقة والتي تليها سوف نتطرّق إلى موضوع مهمّ، وهو الحضور النّسطوري في منطقة الخليج العربي منذ أن آمن كثير من أهالي الخليج بالمذهب النّسطوري إلى أن اقتنع أكثريّتهم بالإسلام.

وهم حتى في أثناء سيطرة الوثنيّة في المنطقة مارسوا ديانتهم وطقوسهم بحرّيّة تامّة. وخلال ثلاث حلقات سنقدّم للقرّاء استعراضاً حول تأريخ الوجود النّسطوري في منطقة الخليج من خلال النّصوص والشواهد الآثاريّة.

ترحيب واستقرار

منذ نهايات القرن الثاني الميلادي دخلت منطقة الخليج العربي في أتون الصراع بين المملكة الساسانيّة والإمبراطوريّة البيزنطيّة التي اتخذ أباطرتها موقفاً سلبيّاً من أصحاب المذاهب الأخرى المخالفة للمذهب الرّسمي للإمبراطوريّة.

ونتيجة للخلافات الفكريّة والعقديّة، اتّجه النّساطرة خارج الإطار السّياسي البيزنطي. ووصل دعاتهم إلى العراق، وانتبه السّاسانيون لِمِثل هذه الظّروف مِن الخِلاف لذا أفسحوا المجال للنّساطرة بالدّعوة والاستقرار في المنطقة من قبيل السياسة وليس الاعتقاد والإيمان.

وقد أصدر الملك يزدجرد الأوّل عام 409 مرسوماً يقضي رسميّاً بالتعبّد العلني للنّصارى في المملكة وسمح لهم بإعادة بناء وترميم ما تهدّم مِن كنائسهم. وفي عام 410 عقد مجمعاً في سلوقيّة تمّ فيه الاعتراف بالكنيسة السّريانيّة في فارس واختيار رئيس لكنيسة سلوقيّة/‏‏ طيسفون (المدائن)، وسُمّي بالجاثليق.

وقال المجتمعون: «إنّنا نتضرّع إلى ربّنا الرّحيم أن يزيد في أيّام النّصر واللّمعان: للملك يزدجرد، ملك الملوك، وأن تكون سنوات حكمه مديدة، لأجيال وأجيال وأعصار متتابعة».

وممّا يُذكر أنّ أحد النّساطرة، ويدعى: «عوض يشوع» من أهالي ميسان في جنوبيّ العراق، تعلّم مبادئ الديانة، ومهر فيها، ونتيجة لبعض الظروف، هاجر إلى جزر البحرين، وهناك بدأ يدعو لدين المسيح عليه السلام، فآمن بدعوته أناس من تلك المنطقة، وامتدّت دعوته إلى المناطق المجاورة، وكان ذلك في أواخر القرن الثالث وبداية الرابع الميلادي.

الكنيسة النّسطوريّة

كانت مِن سلطة الجاثليق تبعيّة نصارى فارس وجزائر الخليج العربي، ومناطقه الأخرى بطبيعة الحال. وكان للكنيسة النّسطوريّة ومقرّها في سلوقيا - المدائن سلطة دينيّة على نساطرة إقليمَي البحرين وعمان.

وقد لاقتْ النّسطوريّة في العراق والمناطق الخاضعة للمملكة الفارسيّة رواجاً، وحدث نوع مِن التّوافق بين السّاسانيين والنّساطرة في التّنظيم الإداري إذ تبنّى النّساطرة شيئاً مِن الهيكل الإداري السّاساني مِن حيث تشكيل الهيكل الإداري للكنيسة والتّسمّي بالألقاب الفارسيّة مِثل «أب الآباء» و«راعي الرّعاة» و«رئيس الرّعاة».

كما اعترفتْ الحكومة السّاسانيّة بالمجامع النّسطوريّة في مقابل تقديم النّساطرة ولائهم للحكومة الفارسيّة.

انتشار وإقامة وثقافة

لقد أحسن المؤرّخ الرّوسي يوري ميخايلوفتش كوبيشّانوف في كتابه القيّم: الشّمال الأفريقي في العصور الوسيطة المبكّرة وعلاقاته بالجزيرة العربيّة، (ترجمة: صلاح الدّين هاشم، عَمان، 1989)، عندما أطلق على منطقة شمال شرقي وجنوب شرقي شبه الجزيرة العربيّة مصطلح «الولايات السّريانيّة» إذ أضحى تأثير الكنيسة النّسطوريّة واسعاً وكبيراً في منطقة الخليج العربي.

وليس هذا بحسب بل أنّه كان للنّصرانيّة في الدّرجة الأولى حيّز كبير في شبه الجزيرة العربيّة ومواطن العرب الثّانية بصورة عامّة.

وخلال القرون الستّة الأولى للميلاد أصبحتْ النّصرانيّة راسخة الأقدام في منطقة الخليج، وبلغتْ في فترة حكم الأحباش لليمن أقصى النّجاح والتّقدّم.

كما قدّم النّصارى العرب على مدى ما يقارب الثّلاثة قرون قبل ظهور الإسلام عدداً مِن المساهمات الطبيّة والعقديّة والعلميّة المهمّة سواء في منطقة الهلال الخصيب أو في شبه الجزيرة العربيّة.

كما ساهموا في تكوين الثّقافة العربيّة في فترة ما قبل الإسلام إضافة إلى تلك المساهمات المتعلّقة تعلّقاً مباشراً بأحوال النّصرانيّة.

وكانت القرون الثّلاثة التي سبقت ظهور الإسلام الفترة الذّهبيّة في تاريخ النّصرانيّة العربيّة من حيث ضخامة الوجود النّصراني في بلاد العرب، وتنوّعه مذهبيّاً، وتباينه قبليّاً، واختلافه مكاناً.

أسفار وعلاقات

وبما أنّ منطقة الخليج العربي كانت مِن المناطق النّشطة تجاريّاً واقتصاديّاً، وكان لِأهلها رحلات وأسفار تجاريّة متوالية إلى بلدان كانت على حظّ كبيرٍ مِن الحضارة كالشّام ومصر والحبشة والعراق واليمن والهند، كان مِن الطّبيعي أن يتأثّر الذّاهبون والعائدون مِنهم ويتأسّوا بما رأوا هناك مِن أفكار وعقائد وكتابة وقراءة.

وقد نوّه الكاتب أندرو ثومپسون (Andrew Thompson) بهذا الدور الكبير الذي اضطلع به عرب الخليج في كتابه: Jesus of Arabia: Understanding the Teaching through the Culture of the Arabian Gulf، والكتاب منشور ضمن دار نشر تدعى: موتيڤيت (Motivate)، والكتاب مطبوع عام 2014، وهو مكوّن من 194 صفحة.

ويشير في كتابه هذا إلى أنّه ومنذ قرون كان للكنيسة النّصرانيّة حضور مزدهر في منطقة الخليج. وللمؤلِّف نفسه كتاب آخر بعنوان: Christianity in the Untied Arab Emirates, Culture and Heritage، والكتاب أيضاً منشور ضمن دار نشر نفسها، والكتاب مطبوع عام 2014.

وفي الفصل الثالث سمّى الكنيسة النّسطوريّة بــ«كنيسة الشرق»، وخصّص الكاتب هذا الفصل للحديث عما كان يُعرَف تاريخيّاً بالكنيسة النسطورية إضافة للحديث عن الوجود التاريخي للديانة النصرانية في جنوب شبه الجزيرة العربية. ومن العناوين الفرعيّة في هذا الفصل: «الجالية النصرانية الأولى في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية.»، وهو عنوان لطيف، له معانٍ عميقة.

علاقة نساطرة الخليج بالكنيسة النّسطوريّة في سلوقيا - طيسفون

مِن المؤكّد أنّ النّصارى كانوا أحد مكوّنات إقليمَي البحرين وعمان قبل الإسلام. وقد جاءتْ موجة التّبشير إلى شرق شبه الجزيرة العربيّة مِن العراق عبر عدّة طرق:

(1) قيام عرب الخليج بالتواصل مع إخوانهم عرب الحيرة الذين كان جزء منهم على النّصرانيّة. كما كانت منطقة الخليج تتبع إداريّاً لمملكة المناذرة التي كانت عاصمتهم آنذاك مدينة الحيرة الشّهيرة. وكان لنصارى الحيرة مبشّرون ينطلقون مِنها إلى منطقة الخليج العربي لنشر النّصرانيّة.

وكان مَن يأتي إليها تاجراً يتأثّر بنصرانيّيها ويعود إلى بلده مبشّراً. وكانت الحيرة ومحيطها يعجّان بالأديرة التي أنشأ بعضها ملوك اللّخميّين تبعاً لانتشار النّصرانيّة في المملكة. وقد دلّت التّنقيبات الآثاريّة التي أُجريت أخيراً على وجود أطلال العديد من الكنائس تمكّن الآثاريّون مِن تحديد 11 كنيسة منها.

(2) كان نصارى الحيرة يجيدون الخطّ ويعلّمونه للآخرين، ولا يُستَبعد أن عرباً من أهالي الخليج تعلّم هناك.

(3) وفي الوقت نفسه لا يُستبعد فرار أعداد كبيرة من النّصارى مِن بلاد الرّافدين إلى إقلِيمَي البحرين وعمان أثناء الحروب بين فارس وبيزنطة تلك الحروب التي كانت تستمرّ شهوراً يتبعها الدمار والهلاك والإفساد في الأرض وسفك الدماء، لذا كانت منطقة الخليج العربي ملاذاً آمناً لأولئك الفارّين.

(4) كما أنّ منطقة الخليج كانت منطقة جذب للتّجّار وبالذّات تجّار اللؤلؤ، وتجّار السلع والمنتجات الخليجيّة الأخرى فلا يمنع أن يكون مِنهم نصارى أتوا مِن العراق.

وبصورة عامّة فإنّه كان للمبشرين شأن مهم في نقل التراث اليوناني أو الهلّلينيّ والآرامي إلى شرقيّ شبه الجزيرة العربيّة في أيّام الجاهلية.

وبجهادهم المضني، وبجهدهم المتواصل، وعملهم الدّؤوب دخلت النصرانية في أماكن متعدّدة من شرقيّ بلاد العرب حتى تمكّنوا من نقل النّصرانيّة إلى قبائل وأمراء ورؤساء قبائل بطريقتهم الخاصة في الإقناع والتأثير وبالتطبيب وبالتقرب من ضعاف الحال من الناس. وممّا ساهم في ذلك التّواصل والتّبادل التّجاري بين العرب وبين الأمم المجاورة.

وهو ما عبّر عنه الدكتور/ سليمان حُزَيٍٍٍّن في كتابه: (Arabia and the Far East, Their Commercial and Cultural Relations in Graeco-Roman and Irano-Arabian Times, Cairo, 1942.) حين يقول بأنّ النّساطرة لعبوا دوراً في «الجغرافية الرّوحانيّة» لبلاد الشّرق الأدنى ووسط وشرق آسيا.

وهذا التّواصل مع المحيط الخارجي أدّى إلى غلبة النّصارى في شبه الجزيرة العربيّة في الفترة مِن نهاية القرن الرّابع إلى بداية القرن السّادس في ميدان الاتّصال مع بيزنطة وفارس والحبشة ومصر.

شبكة مواصلات متشعّبة

أقام النّساطرة شبكة مواصلات متشعّبة، واتّصالات قويّة، وأنشأوا روابط متينة فيما بينهم وبين أهالي منطقة الخليج العربي فيما يتعلّق بالتّجارة والملاحة ممّا أدى إلى حدوث ازدهار كبير في التّبادل الاقتصادي والتّعامل التّجاري في المنطقة مِن جهة ومع البلدان والأقاليم المحيطة بشبه الجزيرة العربيّة. واتّخذ هؤلاء النّساطرة مراكز تجاريّة تنطلق أو تأتي إليها التّجارة ومحطّات تنزل عندها القوافل، وترسو فيها السّفن.

وبطبيعة الحال فإنّ كلّ هذه النّشاطات والتحرّكات كانت تتمّ تحت سمع وبصر الحكومة السّاسانيّة إذ أنّ أغلب هذه النّشاطات تحدث ضمن الإطار الإداري والنّفوذ السّياسي للمملكة الفارسيّة، وهي في الوقت نفسه تجني منها فوائد اقتصاديّة، وعوائد ماليّة كبيرة. وهي أيضاً تسهم في رفد الميدان الاقتصادي السّاساني بنوعيّات جيّدة من السلع والبضائع والمنتجات.

 

 

Email