أمس واليوم

تاريخ الإبرة وفلسفة الخياطة.. نظريات دافئة للموضة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الموضة فلسفة طويلة اللغة، منذ أفلاطون ودعوته إلى قيام دولة صحية بالتخلص من كثرة الثياب، إلى مصممي الأزياء في عصرنا الحالي ومعاهد الأزياء الكبرى ودورها المتنامي، ولأننا في دول الخليج لا نزال محافظين على زينا التقليدي الموزع بين البساطة الشديدة والزخرفة الباذخة، نبقى في الزي العالمي تابعين للأمم المتحضرة، ولذلك نتناول حكاية الموضة بدءاً من الإبرة المعدنية الصغيرة في يد جداتنا العائدة إلى زمن ارتبط بالمهارات اليدوية لنساء الأسرة، وصندوق عدة الخياطة وحتى «البوتيكات» العالمية وما تقدمه لنا من أزياء.

الإبرة المعدنية الناعمة

في الفن التشكيلي العالمي، وفيما يخص الإبرة المعدنية الناعمة والصغيرة مع الخيط الرفيع، كانت الجدة هي الرمز الذي يتكئ عليها الرسام للتعبير عن مدى حنانها وهي تدخل الخيط الملون إلى مخرز الإبرة الضيق، ووجها في الأعلى تناجي الضوء ليرمي بنوره في عينيها وفي ذلك الثقب، وتارة يقدمها وهي تتوسط عائلتها متبرعة لسد حاجة منسوجات أبنائها وإثارة الموضة لأحفادها، ولوحات أخرى كثيرة تمارس الجدة والأم والفتاة الصغيرة الخياطة كضرورة استراتيجية، واعتماداً على دور الإبرة والخيط المجسد لروح الشاعرية بينهم بالإضافة إلى الإبرة وما تقدمه من دعم مالي.

تبقى الجدة وخيوطها هي الفكرة التي لجأ لها الرسام لتقديمها بمحبة وهي تصنع أو تصلح الملابس والملاحف مع إبرتها، وتغرز طرفها لينفذ منها الخيط، وبالتالي نرى من أعماقنا مدى أهمية هذا الرمز في تفجير الصناعة وقواعدها، وفي مجمل اللوحات المتصلة بالتجارب مع توثيق الرسام للحظات المتصالحة والعفوية.

ونستطيع اعتبار الإبرة أداة متميزة ورثها الإنسان منذ العصر الحجري بهدف الدفء، فكان اختراعاً من عظام الحيوان، ليفجر ابن آدم حينها فكره عن مدى حاجته للملابس الساترة أو الدافئة، ولتتطور الإبرة وتصل إلى معدن ويعبر عن حاجة الإنسان الضرورية لصناعة الملابس الإبداعية في الزي وبأقمشة فاخرة.

بالطبع كانت الإبرة المعدنية التقليدية والناعمة التي دخلت منازل كل الأسر في العالم، دائماً توضح مدى تجربتها النابعة من الحاجة الأساسية إلى الحاجة الإبداعية، وعن مدى ما حققه الغرب وبريطانيا تحديداً من تقدم لتتحول مع الوقت إلى إبرة تكنولوجية مركبة في آلة الخياطة الحديثة ذات الجودة العالية، لتأخذ هذه التجربة السريعة إلى قيادة الدقة والسرعة معاً وهي تغزر بين أيدينا في داخل الأنسجة لتخيطها أو ترقعها، بجودتها المألوفة والفولاذية.

انتقال

وبالحديث عن هذه الصناعة لا يمكن إغفال أن الإبرة الدقيقة الصنع والتي لا تزال في منازلنا وفي علبها الخاصة، وقبل قيام انجلترا بتطويرها، وقبل رسمها من خلال الجدات والعائلة في لوحاتهم العديدة، أن إسبانيا هي من ورثت فولاذ هذه الإبرة وبأسرار صناعتها من العالم الإسلامي، فكان اللاجئون يقومون بجلب هذه المهارة إلى إنجلترا في عهد الملك هنري الثامن، الذي حكم خلال الفترة من 1509 وحتى 1547، حيث كانت لندن تعتمد على تاجر (الإبر) الإسباني، حين كانت الإبرة أثمن أشياء الأسرة الخاصة، لتأتي لبعضهن في لفائف مستوردة ومحمية في ربطة حول الخصر حتى تتحزم بها، أو في صناديق الإبر الشائعة آنذاك.

تاريخ صندوق الإبرة والخيط طويل، وهو ما زال معلقاً في ذاكرة جميع منازلنا حتى وقت قصير، حيث كان يبدو كسر من الأسرار الأسرية المقدسة وحاجة لا غنى عنها في ذلك الصندوق، الذي لا يمس إلا في أوقات الضرورة، ومهارة يبحث عن ممارستها كل أفراد الأسرة، ويشيع في ثنايا الفكر أهميتها الثقافية رغم صعوبتها وتعقيدها في بداية الأمر منذ الطفولة لمن يتعلم وضع الخيط في الغيرة، وكيفية استخدامها بإتقان، فكلما أتقنت الفتيات الصغار الخياطة بها كلما برعت في مستقبل زواجها ودقة إدارة بيتها، إذ كانت الإبرة مع الخيوط أمراً لا يمكن إهماله وكأنه مهد فني وتربوي لتقييم الشخصية والسلوك والحواس والنشاط الفكري الدقيق لنموذج عروس مطلوبة.

تراث إنساني

هذه العناصر المجتمعة منحت للإنسان سلوكاً خاصاً لهذه الإبرة لتصبح من التراث الإنساني المعبر عن الواقع المعاش، وتبقى الجدة في اللوحات الموثقة تلعب دورها الأساسي والنفسي في العائلة، كمستشارة حكيمة لديها خبرة يمكن أن تستشار وتتدخل بالمشورة المناسبة في مواقف معقدة، كعقدة طرف الخيط وهي تحاول إدخالها في إبرتها، ليعني الكثير في الأدب والفن والعلم طويلاً، ولم يتم التجاهل الثقافي والفلسفي لدورها ونشاطها الجسدي والفكري والعاطفي وهي تتقدم في السن، وحواسها الممتد في أروقة المنزل وقلوب أبنائها وأزيائهم وهي تخفف الكثير من عبء الأسرة الثقيل بصبرها وعطفها وهي تمسك بالإبرة، بعد بحثنا عن صورة الجدة في الفن العالمي، وهي تمارس الخياطة، لنتساءل عن سر الخياطة دون غيرها، لنكتشف مدى أهميتها الاقتصادية وبأنها المورد الثمين للعائلات في السابق.

صندوق الأسرة الأول

كان زمن التوسع الاستعماري الإنجليزي في القرن التاسع عشر، بفعل الدخل الاقتصادي الكبير للإبرة، بمثابة الزمن الذهبي لها، والتي بدأت انجلترا في توريدها ومن ثم وضعها في آلة خياطة تكنولوجية مع صعود التجارة العالمية لبواخر الإمبراطورية البريطانية إلى أسواق العالم، لتتوسع الإبرة عبر تلك الآلات، فكانت النتيجة أن تشتري معظم الأسر في أغلب أوطان العالم آلة الخياطة السريعة في إنتاجها، ورغم ذلك ظلت الإبرة اليدوية في صندوقها مع خيوطها الملونة، حيث لم تودع الأيادي حتى يومنا هذا.

كان السبب وراء بقاء صندوق المنزل بالمرتبة الأولى هي الجدة وتليها الأم، لتبقى أدواتها وتراثها النسيجي الدافئ، ولم تلغ الإبرة اليدوية التقليدية أمام حماس الآلة للأسرة تماماً، مهما كانت سبباً في تسهيل العمل في خياطة ملابس الأسرة أو إصلاحها، وتنتصر الجدة لتراثها.

تمضي فترة طويلة أمام براءة اختراع إبرة الآلة السريعة في نهاية القرن التاسع عشر، وخاصة في ألمانيا المنافسة الكبرى لإنتاج آلة الخياطة أمام بريطانيا، وهنا يخف صمود الإبرة اليدوية وتتغير الفكرة اللطيفة نحوها بأنها باتت سبباً لضعف نور العين وببطء غير ملحوظ، فالجدات والأمهات والفتيات تركزن كل حين في فضاء علوي مضيء لإدخال الخيط بضغط خفيف، ومنها أخذ يخفت بريق فكرة الإبرة والخيط كمعيار مهارة للفتيات الصغيرات ومن جميع الطبقات الاجتماعية.

تراجع إنتاج الإبرة اليدوية بأعداد كبيرة أمام فكرة ضعف العينين والإنتاج الكبير لآلة الخياطة، لتهيمن الشركات وينخفض التركيز على الخياطة اليدوية، وتنخفض معها المهارة المنهجية في المدرسة ودروس الخياطة، وكذلك المنزلية، لتتسلح الأم الجديدة بالآلة وترك إبرة الجدات اليدوية في العلب للعودة لها وقت الحاجة فقط وتبقى للذاكرة والتراث.

الدولة الصحية لأفلاطون

منذ العصور القديمة والفلاسفة يفكرون في طريقة ارتدائنا للملابس، والدليل الأقدم في أن الفيلسوف أفلاطون كان لديه رأي حيال الفائض من الملابس، وكل هذا السباق حول الموضة في أنه من الممكن أن يؤدي إلى حرب، وأنه يؤيد الدولة الصحية والمقتصرة على قلة عدد الهندام للفرد، ليخرج أجيال من المفكرين لهم رأي سلبي أمام الأقمشة والموضة، حتى ظن البعض ولزمن طويل أن المثقف موقفه هو الرفض أمام كثرة الثياب، وأنهم لا يفكرون بزيارة أمكنة الموضة والأزياء، وأن تطور الملابس بهذا الشكل أمر غير أخلاقي.

الزخرفة وتطور الاقتصاد

البحث عن متعة الثياب والترف غريزة في المجتمعات القديمة والحديثة، فالملوك والأمراء اهتموا بالزخرفة في ملابسهم، في المقابل زهد رجال الدين في الملبس، فكانت ألوانهم محددة، وكان ذلك مؤثراً في رأي من يستمع لهم، وأثره بالتالي أنه فقد الزي الرجالي وظيفته الزخرفية في مرحلة من المراحل، فلا يجب أن يكون الإنسان جميلاً أو متميزاً بوصفها فكرة برجوازية.

الرجل الصادق يحب الترف

كان للفيلسوف فولتير رأي آخر في الزي، ومن يتابعه يراه يفخر بملابسه ويباهي بها ويدفع الكثير من الأموال لترفه ونعومته وذوقه، مقتنعاً بأن الصدق يشبه الذوق الفاخر، وأن كل هذا الأثاث الفاخر في الأسواق والخياطة الرفيعة تنعش الاقتصاد، كما كانت تفعل الإبرة دائماً في تاريخها لإيجاد أهم وظيفة على الأرض، الخياطة ونظام الزي الذي يجب أن يتبلور في قاموس لغتنا، قاموس الموضة الجديد كل عام وباستمرار لتنتعش الأيدي الصانعة في الأسواق، بدلاً من تداول الخرافات والجهل والتجارة الضعيفة، فكان من أهم أقوال فولتير: «الرجل الصادق يحب الترف والذوق الرفيع والحلي».

1878

قدم الفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشه في ذلك العام، كتابه «الإنسان»، والذي حمل ملاحظاته حول الأزياء، وكيف للموضة أن تحبط روحاً مبدعة عبر الثياب الجلدية الثمينة.

1900

رسم الفنان الدنماركي، لويس رامسي في تلك السنة، لوحة ذات أهمية فنية كبيرة لامرأة مسنّة، وهي تخيط بالإبرة ليبدو الرسم كله في اللوحة وكأنه من نسج يديها.

1987

شهد ذلك العام طرح عالم الاجتماع الفرنسي جيلز ليبوفتسكي، نظريته عن الموضة في كتاب «الأزياء ومصيرها في المجتمعات»، وناقش التمييز الهامشي للملابس الأنيقة كمظهر اجتماعي، وكيف يسيطر الاستهلاك عليه.

Email