عدسة الأيام

غانم الصالح.. «نهاش» فتى الجبل والبراري والقفار

ت + ت - الحجم الطبيعي

مرّت أخيراً الذكرى الـ8 لوفاة نجم كبير من نجوم الفن في الكويت والخليج والوطن العربي، دون أن نسمع أو نقرأ كلمة يتيمة عنه في وسائل الإعلام، ولكأنما لم يكن هذا الفنان «الإنسان» يوماً مالئ الدنيا وشاغل الناس، بفضل أعماله الكوميدية والتراجيدية المتميزة في التلفزيون والمسرح، ناهيك عن خصاله ومناقبه الحميدة في تعامله مع زملائه وجمهوره.

حديثنا هنا عن الممثل الكويتي «غانم صالح الغوينم» الشهير بغانم الصالح، الذي وافته المنية في لندن يوم 19 أكتوبر 2010 عن عمر ناهز 67 عاماً، متأثراً بمرض سرطان الرئة، وهو الذي سجل عنه قوله ذات يوم: «الدراما الكويتية سفيرنا إلى العالم العربي، وهو أمر يُشرفنا ويُحمّلنا مسؤولية إضافية نعتز بها ونفتخر، ولهذا تجدنا أكثر حرصاً أمام أي إنتاج يقدم.. لقد استطاعت الدراما المحلية التلفزيونية أن تحتل دورها ومكانها وتُرسّخ وتُؤكّد صورتها في ذاكرة ووجدان المشاهد محلياً وخليجياً وعربياً، وهو أمر ما كان ليتحقق لولا دعم الجهات الرسمية والخاصة على حد سواء».

وصاحب جملة «أنا نهاش فتى الجبل» التي أضحكتنا كثيراً في مسرحية «باي باي لندن».

صعوبات

ولد غانم في مارس 1943 بـ«صيهد العوازم»، بالقرب من قصر «السيف» لعائلة تعود أصولها إلى الإحساء بالسعودية، وكان ربها بحاراً أمياً قبل أن يكتسب من مخالطته لعلماء الدين ورجالات البلد الشيء الكثير، ويتجه للتجارة عبر بقالة لبيع التمور والمواد التموينية.

عاش وسط أسرة متوسطة الحال بحي المرقاب الشعبي، داخل بيت كبير ضم الأعمام وزوجاتهم وأولادهم، فتعلّم كيفية التأقلم مع الصعوبات، وقيمة الطيبة والعشرة الحسنة المتأتية بالاختلاط والتعاون.

وبهذا السياق، تحدث في حوار مع مجلة «عالم اليوم» (18/‏‏‏‏‏11/‏‏‏‏‏2009) فوصف طفولته بالسعيدة، مضيفاً: «حتى الحياة كانت صحية أكثر من الوقت الحالي، فلم يكن لدينا ثلاجات لحفظ الطعام. كان هناك «الملال» يعلق في الشجر، نضع فيه الطعام بعيداً عن القطط والفئران.

أذكر أننا كنا نأكل السمك كل خميس، والدجاج نربيه في البيوت، كذلك كان لدينا «حوش الدبش» بكل بيت، يربى فيه البقر والأغنام والدجاج، وهو حوش منعزل عن البيت بعض الشيء. أتذكر الوالدة رحمها الله، حيث كانت تحلب البقر صباحاً وتجهز الحليب.

وفي الصيف.. كنا ننام على السطح، وفي الشتاء داخل البيت. القائم على البيت هي الوالدة، أما الأب فهو المسؤول عن توفير أسباب الراحة والمعيشة الطيبة. الرجال يعملون بالبحر، يغيبون عن زوجاتهم 3 و4 شهور، والأمهات هن من ربين الأجيال، لذا كان للمرأة دور كبير في النهضة بالأبناء بتلك الفترة».

تميّز مُبكّر

درس غانم بمدرسة «المرقاب»، ثم في «المباركية القديمة» بالسوق الداخلي، ثم في «حولي» الثانوية، لكنه ترك تعليمه بمجرد حصوله على الشهادة المتوسطة. وخلال أعوام دراسته لم يعرف عنه أنه كان طالباً شقياً أو كسولاً بل العكس، أثبت للجميع أنه مُتميّز بدليل مشاركته المكثفة بالنشاط الكشفي، ناهيك عن نشاطه الإذاعي والمسرحي بالمدرسة، الذي قاده إلى عمل «اسكتشات» واستعراضات خفيفة أثناء حفلات السمر والرحلات المدرسية.

ذكر في حواره مع مجلة «عالم اليوم» (مصدر سابق) أن رحلة الألف ميل عنده باتجاه الفن بدأت أثناء الدراسة عام 1951 - 1952 حينما كان يتابع الأفلام القديمة بـ«الأسود والأبيض» من تلك التي كانت تُعرض في ساحات البيوت، وهو في سن الـ8. يقول: «كنا كأطفال نتأثر بالصور، ونحب التقليد، فمثلاً فيلم عنترة وعبلة (إنتاج 1948) كنا نقوم بتقليده وعمل «إسكتش» أو مشهد منه بين عنترة وشيبوب.

هذا الانبهار، ولّد لديّ حب هذا الشيء كصناعة، فبدأت عام 1952 بالمسرح المدرسي، كما توليتُ الإذاعة المدرسية؛ أنظم فقراتها بادئاً بالقرآن الكريم، ثم الأناشيد والأغاني وأصرف الطلبة إلى صفوفهم. استرعى هذا الأمر الناظر خالد المسعود بمدرسة «قتيبة» فجعلني عريف المدرسة بالطابور الصباحي، وخصص لي مكتباً في مكتبه لفضّ مشاكل الطلبة الصغيرة، وهو ما ولّد لديّ حبي للفن والقيادة».

عمل

تقول سيرته الذاتية المنشورة، إنه بعد تركه للدراسة عمل بوزارة العدل عام 1959 بوظيفة سكرتير في محكمة الاستئناف، مختصاً بقضايا الأحوال الشخصية والجنايات، فكان يستمع يومياً لمشكلات الزواج والطلاق والنفقة والضرر والمخدرات والقتل وغيرها من القضايا الواقعية في المجتمع، الأمر الذي أغراه بتناول هذه القضايا وعرضها فنياً.

وفي عام 1960 تزوج زواجاً تقليدياً بإحدى قريباته التي كانت في سن الـ13، بينما كان هو في سن الـ18. وقد أثمر زواجهما عن 5 أبناء: (صلاح، وبسام، وطلال، وصفاء، وإقبال)، ليس لأي منهم علاقة بالفن.

وصف زوجته بالغيورة، مضيفاً أن الكثيرين حاولوا الإيقاع بينهما لكنهم فشلوا؛ بسبب صمودهما وعدم اهتمامهما بالشائعات، بينما قالت هي بعد وفاته في حوار مع صحيفة «الرأي» الكويتية (8/‏‏‏‏‏11/‏‏‏‏‏2010) إنها كانت تغار فعلاً عليه في البدايات، مضيفةً: كان «ريال سيده، وحافظ بيته وعياله، وراعي صلاة ومسجد، وما عنده خرابيط».

وحينما ظهر التلفزيون في الكويت عام 1961، التحق غانم به مقدماً لبرنامج «مشكلة وحلها»، وفي العام نفسه ساهم بتأسيس فرقة «المسرح العربي». أما في عام 1964 فقرر أن يترك وظيفته بوزارة العدل ليتفرغ كلياً للتلفزيون، حيث تم تعيينه مساعداً لرئيس قسم التمثيليات، الذي كان وقتها الفنان سعد الفرج، ثم صار رئيساً لقسم التمثيليات إلى حين تقاعده عام 1983.

تأسيس

وهكذا صار الرجل بقلب الدراما، زميلاً للرعيل الأول من مؤسسي الأعمال التلفزيونية. يقول غانم (بتصرف) حول هذا المنعطف المهم في حياته: «كان التلفزيون يمثل إبهاراً للناس، فهو صندوق صغير يخرج منه الناس والصور، وكان المونتاج والتصوير والإمكانات مأساة.

في البدايات لم نكن نعرف أنه سيكون هناك تقنيات وتكنولوجيا كاليوم. كنا نتعب جداً في التصوير. فالتمثيلية التي مدتها نصف ساعة تصور مرة واحدة، وإذا أخطأ أي شخص تعاد كلها مرة أخرى.

ثم كانت هناك مشاهد أو «شوتات» تستغرق من 10 إلى 12 ساعة لتسجيل نصف ساعة، والممثل هو من يتحمل كل هذا العناء؛ لأنه يعيد أياً كان المخطئ؛ مصوراً أو مخرجاً. بعدها تطور الأمل قليلاً، وأصبح هناك دخلات ومونتاج إلى أن جاء العمل المريح الآن، والمونتاج يقوم بالباقي.

نحن عاصرنا الأبيض والأسود وبدايات التلفزيون، وكان زملائي: عبدالحسين عبدالرضا، ومحمد جابر، وإبراهيم الصلال، وخالد النفيسي، وجعفر المؤمن، وعلي البريكان، وأحمد الصالح، وجاسم النبهان، وسعاد عبدالله، وحياة الفهد، ومريم الصالح، ومريم الغضبان أو مريم (أ) ومريم (ب) كما كان زكي طليمات يطلق عليهما».

ويتذكر الرعيل الذي سبق رعيله فيأتي على ذكر محمد النشمي، ود. صالح العجيري، وعقاب الخطيب، ويصفهم برُوّاد المسرح الارتجالي الذين قدموا مسرحاً لاذعاً وساخناً، وتناولوا موضوعات جريئة بعيدة عن السياسة، لكنها ناقدة للوزارات المُقصّرة وبعض جوانب الحياة الاجتماعية دونما تجريح أو إسفاف، أي على خلاف مسرح اليوم الذي «ليس فيه نقد صريح.

فقد اختلط الحابل بالنابل، وأصبح السيئ مسيطراً أكثر من الجيد. للأسف كثيرٌ من القضايا تُرفض بحجة أنها ليست من المجتمع، بينما المجتمع مليء بالصالح والطالح. نحن لسنا مجتمعاً «أفلاطونياً»، والدليل «المخافر» وصحافتنا المليئة بالمشاكل».

مشاركات

قلنا: إن غانم عضو مُؤسّس في «المسرح العربي» الكويتي، وكانت أول مسرحية شارك فيها «صقر قريش» تأليف محمد تيمور وإخراج زكي طليمات، لتكرّ بعدها السبحة ويشارك بمجموعة من المسرحيات المحفورة في ذاكرة الجمهور الكويتي والخليجي، لعل أشهرها: «ابن جلا»، و«مضحك الخليفة»، و«عشت وشفت»، و«اغنم زمانك»، و«الكويت سنة 2000»، و«حط حيلهم بينهم»، و«القاضي راضي»، و«طار الطير»، و«مطلوب زوج حالاً»، و«عالم نساء ورجل»، و«علي جناح التبريزي وتابعه قفة»، و«عائلة بوصعرورة»، و«فرحة أمة»، و«بيت العزوبية»، و«باي باي لندن»، و«برلماني حكومي»، و«فرسان المناخ»، و«أرض وقروض»، و«بيت العزوبية»، و«مضارب بني نفط»، و«حرم سعادة الوزير»، و«ممثل الشعب»، و«البيت المسكون»، و«بيت بوصالح» (من تأليفه)، و«دكتور صنهات»، و«خيران رايح جاي»، و«هلا دولي» (إنتاج كويتي مصري مُشترك).

حاز فناننا الكثير من الجوائز وشهادات التقدير من جهات رسمية وشخصية وصحافية؛ منها شهادة إعلام من محطة «بي بي سي» البريطانية (1969)، ودرع من «المسرح العربي» (1980)، ودرع المبدعين (‮‬2003‮‬)، وشهادة تقدير من مهرجان القاهرة الـ6، وشهادة تقدير من مهرجان الخليج الـ9 للإنتاج الإذاعي‮ ‬والتلفزيوني (2003)، ‬وشهادة تقدير من قناة «سما دبي» وتلفزيون دبي (2008)

في حفل تأبينه في نوڤمبر 2010 ألقيت قصيدة للشاعر الغنائي الكبير عبداللطيف البناي بصوت الفنان المُبدع سليمان الياسين جاء فيها:

عمر النخل ما عطش

واليوم هو عطشان

والورد كله ذبل من فارق الساقي

غانم وغانم رحل عنا بلا استئذان

ولما تروح الروح بالروح وش باقي

راح الأبو والعم والفن والفنان

وان كان باقي فن في عمره الباقي

كل شي فراقه سهل إلا أعز انسان

مثل اخونا اخو ماكو ولا نلاقي

واللي يبي غانم هذا هو العنوان

ساكن في دار الخلد دب الدهر باقي

قالت عنه رفيقة دربه في الأعمال المسرحية والدرامية الفنانة حياة الفهد بتأثر شديد: «تمنيت ألا تأتي اللحظة وأرثي الأخ والزميل والصديق الذي كانت صفاته الإنسانية تتخطى مواهبه الفنية وقدراته على أداء أدواره وتقمصه للشخصيات التي يجسدها سواء على المسرح أو في التلفزيون، كان ودوداً وحنوناً وإنساناً قبل أن يكون فناناً، كما أنه لم يبخل على من حوله بما يحتاج إليه من عون ونصيحة ورأي، وكان يضفي خلال وجوده مع جميع العاملين، معه سواء في كواليس المسرح أو في استوديو ومواقع التصوير، جواً أبوياً وعائلياً».

وأضافت الفهد: «كان يتفقد ويسأل عن جميع العاملين من فنيين وفنانين وإداريين، وكان متعاوناً مع فريق العمل المشارك فيه إلى أبعد الحدود، وكان ملتزماً بمواعيد العمل، فهو أول الحاضرين وآخر المغادرين. لقد عاش بصدق، ملاكاً، وعمره لم يغلط على أحد، وكان رده على من يغلط عليه: الله يسامحك.

أتمنى أن تكون سيرته الحياتية ومسيرته الفنية مثلاً وقدوة لجيل الشباب، لأنه كان نموذجاً نادراً بين فناني جيله من الرُوّاد». ثم كشفت حياة الفهد عن أمر لا يعلمه أحد عن الفقيد، بمن فيهم أفراد عائلته، وهو أنه كافل لعدد من الأيتام.

أما زميله وصديقه الفنان محمد جابر الشهير بشخصية «العيدروسي»، فقال: «تاريخ غانم يشهد له، وأشكر كل الفنانين والفنانات الذين أشادوا به وبمواقفه»، مُشيراً إلى أن الراحل كان حريصاً على أسرته ولا يريد لأبنائه أن يعانوا ما عاناه في حياته، وقد قال الصالح له في أواخر أيامه: «بسنا تمثيل نبي نقعد»، وكأنه يريد أن يرحل.

رثاه الشاعر الكويتي محمد قبازرد بقصيدة من أبياتها:

غانم الصالح الراضي بما قسمت

قوس السقام له من مدنف النصل

الصابر الشاكر المحمود سيرته

على لسان العدا سيان والأهل

خطت له (لندن) تاريخ مولده

واليوم (لندن) تمسي معرج الرجل

كذلك الموت ما يدريه غافله

أفي ذكا أم سما يرديه أم زحل

أبو الفنون

رغم أن غانم الصالح يؤكد أن المسرح هو أبو الفنون، ويجده الأقرب إلى نفسه؛ لأنه «يشمل المواجهة بين المتلقي والمؤدي، فإما أن يستحسنك أو العكس» حسب قوله، فإن مشاركاته في المسلسلات التلفزيونية كانت كبيرة ومُؤثّرة وتميّزت بالإتقان والجودة؛ لدرجة أنه لُقّب بـ«جوكر الدراما الكويتية».

ومن أهم الأعمال الدرامية التي شارك فيها «غرباء»، و«كامل الأوصاف»، و«الخراز»، و«إذا فات الوقت ما ينفع الصوت»، و«القلب الكبير»، و«الأقدار»، و«الرحيل»، و«خالتي قماشة»، و«عائلة أبيض وأسود»، و«أم البنات»، و«محكمة الفريج»، و«إخوان مريم»، و«البيت الكبير»، و«الطير والعاصفة»، و«قاصد خير»، و«يوميات متقاعد»، و«ليلة عيد»، و«أيام الفرج»، و«رقية وسبيكة»، و«خرج ولم يعد»، و«إليكم مع التحية»، و«حبابة»، و«بو فلوس»، و«فريج صويلح»، و«بيوت من ثلج» وغيرها.

الفن والسياسة

حينما سُئِل غانم الصالح عن العلاقة بين الفن والسياسة، كانت إجابته أن كليهما وجهان لعملة واحدة، وهما متداخلان حيث السياسة هي «فن المرافعة، ومفهومها يشمل المراوغة والمجادلة والمناقشة والخداع واللف والدوران والنفاق والكذب والمجاملة»، وهكذا فقد يُطلق على النائب البرلماني الناجح فنان، بحسب قوله.

وفي حوار أجرته معه مجلة «سيدتي» قبل وفاته ونشرته في 5/‏‏11/‏‏2010 تحدث غانم عن تجربة الإنتاج، فأكد أنه ليس متخوّفاً منها، بدليل خوضه هذه التجربة عام 1979 من خلال مسرحية «بيت بو صالح»، وبعض الأعمال الفنية الإذاعية والتلفزيونية في الثمانينيات.

لكنه استدرك قائلاً: «توصلت لنتيجة في النهاية مفادها أن هذه العملية تحتاج إلى التفرّغ، إضافةً إلى أنني كما صرّحتُ مراراً وتكراراً لا أحب لغة الأرقام، وأفضّل أن أكون فناناً فحسب وليس تاجراً؛ وذلك لعِشقي الشديد لجمهوري الذي تعوّد أن أقدّم له العمل المتميّز».

 

Email