جذور

أسفار أبناء الإمارات في الخليج.. شجون الغربة تنتج الأدب

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ذكرنا في حلقتين سابقتين أن أبناء الإمارات، وإخوانهم العُمانيين سافروا إلى بلدان الخليج العربية للعمل وكسب الرزق من الوظائف التي عملوا بها في تلك البلدان.

وكما أشرنا أيضاً فقد عملوا في العديد من القطاعات العامّة والخاصّة، ومع ذلك مارسوا التجارة بأنفسهم في الكويت، وتعاملوا مع الكويتيين بكلّ ثقة وأمانة.

عمل بعضهم في تجارة الأسماك التي كان أصحابها يُعرفون بــ«اليزازيف» في أسواق بيع السمك في الكويت والمنامة.

وعمل آخرون مقاولين للحديد في الدّمّام، وفي افتتاح مصنع للحلوى العُمانيّة في الفحيحيل، إضافةً إلى عددٍ من المطاعم والمحال التجاريّة في الكويت. ومنهم من افتتح استوديو تصوير في الدّمّام، وغيرها.

وأسّس آخرون شركة لاستيراد الأدوية من أوروبا، وأخرى لاستيراد العطور من الخارج، وعملوا في بيع وشراء الأراضي. كما كان العمال من أهل الإمارات يغيّرون أماكن عملهم بناء على الرّاتب، فإذا وجدوا مكان عمل مناسباً اتّجهوا إليه كنوعٍ من تحسين الوظيفة عن طريق زيادة في الأجر، ولهذا لم يكونوا يلتزمون بعقود عمل، ولم يكونوا يلتزمون بمكان واحد إذا لاح لهم الأجر الأكبر في محلّ غيره.

ظلال البصرة

كانت البصرة تحديداً بالنّسبة لأبناء الإمارات وغيرهم متنفّساً، ومكاناً للرّاحة وموضعاً للاستجمام، وميداناً للتجوّال والنزهة، وتمضية الوقت.

ومما شجّعهم على ذلك قصر المسافة بين الكويت والبصرة، وفي جنوبيّ العراق شاهدوا مياه النّهرين وهي تتدفّق في شطّ العرب، وتفيّؤوا ظلال النّخيل الباسقة، وتواصلوا مع الأهالي، ورأوا في أهالي العراق الإباء وإكرام الضّيف ونجدة المحتاج.

وأقاموا في فنادق البصرة وتجوّلوا في متنزّهاتها، وتلمّسوا أجواءها اللطيفة. ومنها ظهر قولهم: «اللي ما يشوف (أو اللي ما يروح) البصرة يموت حسرة».

أدب المهجر الخليجي

ساهم الشِّعر في تسجيل ظاهرة الاغتراب عن الوطن بحثاً عن الرّزق، وذهب أبناء الإمارات إلى البلدان المجاورة التي تتوافر فيها فرص العمل تاركين أهاليهم في أوطانهم، ما سبّب لهم كثيراً من المعاناة وتجرّع آلام الفراق، فسجّل الشّعراء منهم ذلك في قصائدهم. والجدير ذكره أنّ كثيراً من أشعار المهجر ضاع، ولم يتمّ الحفاظ عليها أو حفظها.

ومن الشعراء الذين دوّنوا بعض أشعارهم في المهجر، الشّاعر غانم العصري الذي تغرّب في الدّمّام، فقال أبياتاً يلوم الذين أشاروا عليه بترك الدّيار والسّفر إلى الدّمّام للعمل هناك:

لي شار بالدّمّام ما شار

                بَدْعي عَسنّ الله ايجازيه

تصبح وتمسي دوم محتار

                   والقلب ما له مِن يسلّيه

اصفجْت باليمنى على ايسار

                وين الصديج اللي بَشاجيه

تعبان من فارقت لَخْيار

                 يحرم عليّه القوت ما ييه

الزّين بو زلفين وِهْيار

               مضنون عيني مِن يساويه

أشوف قلبي هُوب صبّار

                   شعبان ما ظِنّي أوفّيه

وردّ عليه الشّاعر حميد بن عبدالله (من أهل عجمان):

حيّ السّجل أوحي لَسْطار

                    يا مرحبا بالنّظم لي فيه

حيّه عِدد ما هلّت امْطار

                       وعداد برّاق ايزاغيه

المملكة: عزّت بالاقدار

                عاش الفجير ابخدمة ايديه

لشْغال عاضتنا م لَسفار

                      يوم السلف بتردّ تدّيه

كمٍّ فِجير سيّس إيدار

                     والبيت بالطابوق يبنيه

مِن عقب ما هو خوص كسّار

                       كل يوم بالكمبار يتليه

ما اتحيد ذاك الوجت لي صار

                       الله حرزَنا من بلاويه

هذا العمل يبغي له اعتار

                      لي مر عاللّيّان يطويه

وقصد الشّاعر ماجد بن علي بن سالم النّعيمي رأس تنّورة التي وصلها للعمل كبقيّة القادمين إليها من أبناء الإمارات، فلم يحتمل رحمه الله ألم الفراق، ومات هناك شابّاً لم يتجاوز 23 عاماً، وقال في إحدى قصائده:

ذِچر الوطن هيّج غرامي

               واشفجت وازداد الولع بي

أبات في همّ أو ملامي

                  والغير في غيّ أو لعبي

وهو في هذه القصيدة يشكي همومه للشّاعر الخضر.

ومن أشهر الأبيات الشِّعريّة المتداوَلة ما فاضتْ به قريحة الشّاعر سالم بن محمّد الجمري، رحمه الله، في قصيدته التي قالها عام 1956، منها قوله:

لَوْلِي بخت ما سرت الكويت

                    ولا بعد فارقت الاوطان

بِلَا ولي القلب تمّيت

                   متوحشٍ روحي وحيران

فردّ عليه رفاقه من الشّعراء معاتبين له على تذمّره وتشكّيه، ومنهم ياقوت بن جمعة:

لا تقول يا حظّي تردّيت

                    اتبع نصيبك وين ما كان

لَوْما الكويت إن كان ولّيت

           في الوصل بايضرب بك إعلان

اَخطيت يا الشّاعر وزلّيت

                    اقبض سنادك خطّ ربّان

وقيل ردّتْ عليه إحدى شاعرات المنطقة بقولها:

سوق الصخر ولا تقول عيزان

                    واصبر على حرّات الكويت

ومثل هذا الشِّعر شائع مع اختلافات يسيرة في بعض الألفاظ والنّسبة.

وهناك أبيات منسوبة لراشد بن عبدالله الظنحاني، رحمه الله:

مالي بخت بسيرة الكويت

                 ولا بعد فارقت الأوطان

وقصيدة أخرى تقول:

هذي السنة بسير الكويت

                    بسير للغالي طرنشيب

خذت الجواز وخذت ترفيت

                وإلا عزّمت أسير تهريب

وأجل ما في الايد في البيت

                وتقاطعت عني المواديب

وقول الشّاعر مطوع بن خلف البدواوي:

يا هل المرقاب روفوا بي

                مستضيق ولا لي بالي

من قبلكم ما علمتو بي

             ما بقي لي شيء من حالي

ليت اهل البوم يروا بي

                    وقابلتني ذيك ليبالي

ومما أفادني به الأستاذ جميع بن سالم بن جميع الظنحاني، أبيات على وزن «الطرايق» لأحد الشعراء، يقول فيها:

لكويت يلي بعدتني عن هلي وخوتي

                    ومذكور لي العشق بكتاب منعوتي

ومن شدت العشق بعبر لاهلي وخوتي

                          واحارمني لذيذ النوم والقوتي

قيلت هذه الأبيات وغيرها أيام الترحال والأسفار للعمل بدول الخليج العربية طلباً للرزق، وهي أبيات حافلة بعبارات الشوق للوطن، والمحبّة للدّيار، والاشتياق للأهل والأحباب. كما تزخر بنوعٍ من الأسى، ولولا طلب الرزق لمَا سافر هؤلاء إلى العمل.

ولكن قسوة الحياة تحتّم هذا السفر؛ لأنّ المُسافر من هؤلاء يعيل أسرة، وكلّ أفرادها معتمدون عليه. كما أنّ طبيعة الأعمال لها تأثير في نفسيّة العاملين، فهم يكدحون من الصباح إلى المساء، ولا يكادون يرتاحون، ولهذا تجد مثل هذه التأوّهات والآهات.

1954

رأى أهل المنطقة بأعينهم ما أصاب الكويت عامي 1954ــ 1955 من جوّ عاصف، وأمطار شديدة تهدّمتْ على إثرها بيوت الطّين، وغادر الأولاد المدارس التي لجأ إليها كثير من الأهالي، وسمّيت تلك السنة «الهدّامة»، لأنّ كثيراً من البيوت تهدّمت فيها (نحو 500 بيت)، وشُرّد نحو 18 ألفاً من الأهالي.

كما رسخت في ذكرياتهم تلك الريح العاصف التي حملتْ الغبار الكثيف فأصابت العيون والوجوه، في المنطقة الشّرقيّة من السّعوديّة.

وتحدّث أبناء المنطقة عن برد الكويت القارس، الذي كان يجمّد المياه في الخزّانات والمواسير، لِدرجة أنّهم يتفاجؤون في كلّ صباح بما يعكّر صفوهم، فلا الخزّانات بها ماء ولا المواسير تتكّرم عليهم بقطرات. كما لمسوا حرّها الشديد الجاف. وكانت الرياح مشبّعة بالأتربة تغطّي سماء الكويت وتحوّل نهارها إلى ليل.

Email