نظرة إيجابية على المحسّنات الأدبية

هل ساعدت قراءة الأدب على تحسين إنسانيتنا

منحوتة لجان جاك روسو يمسك بكتابه اعترافات

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحاول الأدب الجيد المرور بين الناس بهدف الانتصار للإنسان والحب والسلام، ويطرح القضايا الإبداعية بجمالية وتخيل؛ لتتوهج بحنين في فكر المتلقي عند الينابيع الخيالية العذبة بهدف الارتواء، فينقذه من مخاطر المحو والنسيان، مروراً بالتساؤلات التي يطرحها هذا الإبداع وبلغته العميقة والطازجة، لتلوح إجابتها في أفق المعاني الجديدة، خاصة أنه خلال القرن العشرين ازداد عدد كُتّاب الأدب في العالم، وكذلك قراء الأدب، لكن ما حدث في ذات القرن قيام الكثير من الصراعات التي أدت إلى حروب كبرى وموت الكثيرين، ليعتقد البعض عدم جدوى الأدب، وأنه سرد ميت لا يحرك شيئاً سوى الموت واللحظات المنقرضة.

تجارب إنسانية

القارئ العميق يقرأ أدباً جيداً، وما الأدب الجيد سوى تلك التجارب الإنسانية الكبرى، بأصنافها المختلفة والمكتوبة، ليصبح القارئ بعد تكرار تجاربه القرائية البطيئة التأملية، إنساناً مختلفاً في عمقه، خاصة بعد مروره بتجارب قرائية عديدة، كونه قد تخيل كل تلك المشاهد الكثيرة والبعيدة والمختلفة الثقافات، وحلل كل الظواهر المكتوبة أدباً من سياسة واقتصاد ومجتمع وتاريخ. واستطاعته وزن الكلمات المقصودة وغير المقصودة، وربطه الأفكار المطروحة كلها بين الصفحات.

والكثير الكثير في رحلته إلى عالم القراءة الأدبية الروحية العميقة، صانعاً هذا القارئ من نفسه قيمة حضارية، مؤثراً بلا شك لمن حوله رويداً رويداً، فأصبح محمياً من شرور الحياة، بعد تحسينه من مستوى إنسانيته، وتنسيقه لسلوكه وسعادته، خاصة أنه قد مَرَّ في تلك الرحلة الممتعة على روقات اللغة بدقتها، ومضى في حالةٍ من السرور والبهجة الروحية، حيث يصفهم علم النفس هذه الحالة بأنها «الحالة القرائية المسرورة».

*ديفيد هيوم يجعل القارئ ملتفتاً إلى الهوية الشخصية

قارئ الأدب

وبلا شك فإن قارئ الأدب يتفاعل مع البشر بشكل مميز، مختلفاً عن سواه ممن لا يقرأون؛ فبعد الروايات العظيمة التي قرأها والأشعار العاطفية التي هضمها، والقصص المؤثرة والملاحم الكبرى، يبدأ بقراءة نفسه ومن حوله وحياة البشر وما جرى لهم في الماضي، وإلى أين يمضي بهم هذا الحاضر، ويرى كيف أن تجربة القراءة الممتعة للأدب الجاد والتنويري يمكن أن ترتقي بهم إن تصفحوه، ويجعلهم متقدمين ومسالمين إن أجادوا القراءة، ويبعدهم عن الفروقات العرقية والطبقية والأطماع إن تأملوه، ويغلب عليهم الاستغناء والاكتفاء والتسامح والقلب السليم والزهد وحب العمل والإنتاج الفعلي الراقي إن أدمنوه.

لكن منذ سنوات أخذ الناس يناقشون جدوى قراءة الأدب طالما هناك جامعات وكليات تمنح شهادات عالية الكفاءة لسوق العمل والإنتاج، فما الذي يغيره الأدب في الإنسان طالما أنه متوجِّه إلى حياته بنظام وانضباط، وكيف للأدب الجيد أن يحسّن الأخلاق طالما أن هناك قانوناً فوق الجميع.

وبالمقابل نحن اليوم نبحث في هذا الأمر الجريء الطرح، وكيف يتم التساؤل بهذا الشكل؟ وكأنه قادم من أولئك الذين عانوا في مدارسهم ثقل مناهجهم، ووظائفهم الروتينية، ورغم أن كل ذلك كان عليه يؤدي به إلى الشعور بالذنب إلى تركه الاطلاع على الآداب، وتحديداً على الأدب الجيد والقراءة الحرة التي يختارها بنفسه من حكايات خيالية حرة وحلوة وجيدة اللغة والبصيرة. لكن ما جرى أنه لم يشعر بهذا الذنب، بل رأى أن قراءة الأدب لا طائل منها وأنها لا تغير النفوس التي جعلت الحروب مستمرة، والأخلاقيات إلى الأسوأ.

تواصل اجتماعي

لعل هؤلاء ضاقوا ذرعاً بوسائل التواصل الاجتماعي في عرضها الأسماء اللامعة والزائفة من عالم الأدب، وبالتالي يعبر عن آدابهم المزيفة، ولا نريد أن نعذرهم، وإن امتلأت صورهم وأغلفة كتبهم السطحية عدداً من الصحف والمجلات والتلفاز، وغاب أولئك الأدباء الكبار الذين تركوا لنا أدباً عميقاً ونصوصاً خالدة تُقرأ كل حين، تغنيهم عن عشرات الكتب المزدحمة في سوق الأدب.

فهل يعقل أن من يقرأ للفرنسي مارسيل بروست روايته الكبرى «البحث عن الزمن الضائع» ذات المجلدات السبعة لا يكتشف الخداع والغيرة والمعاناة فيمن حوله؟! فهي رغم الخيال تحتوي على الكثير من التفاصيل الواقعية، ويجعله يكتشف كيف تحاك المؤامرات، وكيف تتعدد وجهات النظر وكيف للخبرات أن تتشكل في خيرها وشرها منذ بداياتها، وكيف يتعلم إدراك الحقيقة حيثما تكون وفي أي زمن ومكان وظرف، وكيف تشعر بأن ما يجري للمجتمع سيستمر أو تنتهي صلاحيته قريباً، وكيف ترى العلامات النهائية لما يجري حولك، كيف لا يتغير من يقرأ مارسيل بروست الذي يعد من أهم كتّاب القرن العشرين، وكتب هذه الرواية العظيمة التي تحمل بداخلها 2000 شخصية، وكتب فيها أكثر من حياة.

«القصيدة تقرأنا»

نعود لنقول كما قال من سبقونا: «عندما نقرأ قصيدة، فإن القصيدة تقرأنا»، ونمضي من فرنسا الأوروبية إلى الهند حيث الشرق، موطن الشاعر طاغور الذي كتب الكثير من الآداب في مجلدات كبرى، ليقدم للإنسان في كل أرض تراثاً عبقرياً يمثل الجميع، فمن يقرأ أعماله، يتحول إلى محارب للعنصرية، ويهاجم التعصب، ويهتف للعدالة والمساواة، ويرجو الحب والثقة والقلب المفتوح إلى أقصاه.

كما تعالج نصوص طاغور الشعرية حزن القارئ، وتلفت انتباهه إلى جمال روحه، ويكتشف القارئ أنه ثروة في هذه الحياة، فيقدر نفسه، وتستيقظ فيه الهوية والثقافة مفكراً كيف يعززها من خلال ثقافته وإنسانيته لتتجاوز الحدود والجغرافيا، ويجعل من القارئ إن كان جامعياً شخصية فكرية، وإن كانت ربة بيت تدخل فيها الشخصية العاطفية التربوية، وإن كان موظفاً يصبح منتجاً بارعاً ودقيقاً وراقياً فيما يصنعه.

نصوص عميقة

الآداب الكبرى بنصوصها العميقة لا يمكن ألا تفعل شيئاً لقارئها، كما يدعي البعض، لنمضِ إلى الولايات المتحدة التي تفخر بكاتبها الكبير هيرمان ميلفل، صاحب رواية «موبي ديك» التي ما زالت ومنذ عقود طويلة تدرَّس في الجامعات، لما فيها من معانٍ سامية، وهو ينذر من يقرؤها وبشكل غير مباشر عن شرور الخلق ومعنى المطاردة، وكل من قرأها أصبح صانعاً للقرار ويتخذ القرارات الصعبة مقاوماً إخفاقات الحياة، ويكشف الأقنعة من بداياتها، وأخذ يصارع العنصرية والعبودية في أوج الظلام والعتم، بالمقابل أخذ يحاسب نفسه وصار حذراً من مخاطر تقدير الذات المبالغ فيه، والأنانية المتوحشة والفوضى المدمرة، ليبقى الأدب صناعة إنسانية.

اختبار تأثيرات القراءة

(من يقرأ لـ "ماركيز" يصبح منتصراً للحب والإخلاص في حياته)

القُراء عرضة لالتقاط المعلومات والصور السريعة، والتي يعتبرونها أهم ما يجري في يومياتهم كقيمة، لنتساءل نحن بدورنا: هل تؤدي بهم إلى سلوك ساذج وأخلاقيات سطحية؟ دعونا نبحث في فكر الفيلسوف ديفيد هيوم، المتحدث عن الالتفات إلى الهوية الشخصية، وكيف علينا أن نستقبل وجودنا كبشر عبر الزمن، في انطباعاتنا الفكرية وإلحاقها بالنفس، وبالتالي الإدراك الحسي.

فالسلوك بين الهدوء والانفعال بين التقلب والتغير هي كلها نتاج ما يتلقاه الإنسان من ظروف محيطة، وهذا ما يؤدي بنا إلى العودة إلى عنوان حديثنا اليوم وعن دلائل تأثير الأدب الجيد؛ فالإنسان بطبعه كما نرى: إما أن يترك نفسه لما يأتيه، أو أنه يحدد ما يجب أن يتلقاه، وهنا دور العقل، أو ما نسميه الإرادة العقلية التي تجعل الأخلاقيات ذات قيمة مجتمعية.

الدراسات التي اعتمدتها الجامعات لم تكن كافية حول تأثير الأدب في السلوك النفسي والأخلاقي للإنسان؛ لأنها دراسات لم تعتمد على الأدب الجاد، بل وضعت تساؤلاتها على القصص العامة والروايات التجريبية، بينما نحن نتحدث عن تلك الآداب المستقلة وتأثيرها المتميز في أخلاقيات المجتمع.

البعض لديه الحجج في أن الأدب يعد من الفئات التعسفية التي تعمل كرمز كي يكون بين أولئك الصفوة، وأنه الجدير الوحيد بالجمال، أو دعونا نقول إنه الوحيد الذي يملك المزايا الجمالية، وهذا نوع من الغرور الاجتماعي الذي لا يرتقي إلى الأخلاق الاجتماعية المرادة له. لكننا لن نعادي الذين يطلق عليهم النخبة، ويستمتعون بملذات الأدب التي حصلوا عليها وبصعوبة جنوا الثمار الجمالية من قراءاتهم المميزة ذات الإصرار والجهد الذي جعلهم الأكثر صبراً واستنارة.

*"الحرب والسلام" لتولستوي تمنح شعوراً راقياً

في النهاية علينا الاعتماد على دراسات نفسية دقيقة وثاقبة وجديدة حول تصميم تجربة لاختبار تأثيرات القراءة مثل «الحرب والسلام» لتولستوي على سبيل المثال وآثارها الجيدة على الشعور الراقي، ورواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ كيف يصور اللصّ ومصيره، ورواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز كيف من الممكن أن يجعل الإنسان منتصراً للحب والإخلاص في حياته، حينها سيكون الأرجح وجود نظرة إيجابية على المحسنات الأدبية.

سير الأدباء.. قوة وهيبة

بلا شك أن تأثير قراءة السير الذاتية للأدباء الكبار كبير في النفس؛ لكونها تفسّر التجارب العديدة للكاتب من فشل وقسوة ويأس وإنجازات لم تعرف التوقف، لتكشف السيرة هذا الإحساس بالارتباك والبحث عن اكتشاف الذات والقدرة على قراءة الآخرين، وبالتالي كشف الآخر في نظر الآخر، كي يصبح على معرفة كاملة به.

السيرة الذاتية قوة وهيبة، تعرفنا على معنى الحب للآخر البعيد الذي لا نعرفه، ويزرع في إحساسنا الحماس، ويمنحنا فرصة للهروب، وتصبح السير الأدبية المعلم والرفيق السري والمعالج الروحي، والمعنى الحقيقي الذي يبعدنا حتماً عن الأفكار المشوهة، وأفكار المصلحة الشخصية، لتغلب عليها أفكار معطاءة عامة وتنوي الخير، كما هي اعترافات جان جاك روسو، و«الأيام» لطه حسين، و«إسطنبول الذكريات والمدينة»، لأورهان باموق... كلها ملهمة وثرية.

أدب الرسائل.. فن التعليم والتواصل

للرسائل الأدبية دور فعّال ونموذجي في التعليم والتواصل، وممارسة كتابة الرسائل فن يساعد على أن نقدم لأنفسنا حفاوة أدبية خاصة وصادقة، وهي فرصة لأن تكون أدباً نعبر به عن أسفارنا ورؤانا بمتعة كبيرة وتصبح قطعة أدبية حية بين أيدينا.

وكان الأديب هنري جيمس، من أعظم كتّاب الرسائل؛ ترك أكثر من 10 آلاف رسالة شخصية عبّر عن الكثير تم نشرها في 8 مجلدات، وهي رائعة لعشاق أدب الرسائل لقراءتها ومناقشتها، لما تحتوي على الكثير من القضايا الفنية والاجتماعية والشخصية.

الأديب.. بين السعادة والبؤس

يخشى البعض من أن يكون الأدب كاذباً ومضللاً، وأنه ثمة جوانب مظلمة أو سلبية كالتشاؤم والفكر العدمي الذي لا يستسيغه البعض؛ فما يكتبه بعض الأدباء من فكر لم ينعكس على حياتهم، وما خلدوه للإنسان من أدب نتيجته حياة بائسة، ومثالاً على ذلك كآبة الأديب نفسه.

فالأميركي إرنست هيمنجواي اكتأب اكتئاباً شديداً أدى به إلى الانتحار، وكذلك الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف التي اختارت طريق الانتحار..

وغيرهما من العباقرة الذين ألفوا كتباً عبقرية تصلح أن تكون مدرسة للحياة، جعلوا القارئ يعالج نفسه من خلال نصوصهم، وبالتالي لا نلومهم في ظروفهم، لأنهم بشر ولديهم ما يعانونه صحياً وعائلياً، ويبحثون عن لقمة عيشهم، وانهيارهم في آخر حياتهم وعدم احتمالهم ليس عذراً بأنهم فاشلون، بل دفعوا ثمناً كبيراً لترسم كتبهم الفريدة شخصيات جديدة وصحية عبر الأجيال اللاحقة.

Email