ذاكرتها مُشبعة بتفاصيل الحياة والبيئة المحلية في دبي

المكان.. بطل لوحة نجاة مكي المطلق

ت + ت - الحجم الطبيعي

تمتد التجربة الفنيّة للفنانة الإماراتية نجاة مكي على أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، خاضت خلالها عوالم واتجاهات الفن التشكيلي كافة، ما أبرز حضورها القوي على الساحة التشكيلية الإماراتية المعاصرة.

درست مكي الفن في القاهرة، وحصلت على الماجستير ثم الدكتوراه، وخاضت في تقانات فنية مختلفة، كالنحت الذي درسته أكاديمياً، وفن الخزف (وهو من توابعه) وفن الرسم والتصوير الذي خاضت غمار مختلف تقاناته اللونيّة بجسارة وثقة واقتدار وشهية مفتوحة على البحث والتجريب، وهذه النزعة لديها لم تقتصر على تقانات هذا الفن، وإنما تجاوزتها لتشمل مضامينه وأساليبه وصياغاته واتجاهاته التي تأرجحت ما بين قطبي الواقعيّة والتجريديّة.

التجريب المتزن

تعتقد الفنانة نجاة مكي، أن تعدد الخامات ووسائل التعبير وكثرتها، لا سيّما في عصرنا المحكوم بتكنولوجيا متطورة تتناسخ باستمرار، تحتم علينا مواكبتها والاستفادة منها، والاشتغال عليها، معتمدين على البحث والتجريب الدائمين، لأنهما وسيلة الفنان لتحقيق الفن الجديد المعاصر والمُعبّر، على أن تتم هذه العملية بما ينسجم ويتوافق مع الهدف والغاية اللذين يسعى الفنان لتحقيقهما، عبر اللغة الفنيّة التي يشتغل عليها، بشرط أن تطول هذه العملية لغة العمل الفني ومضمونه في آنٍ معاً، وأي فنان لا يسكنه هذا الهاجس، ويعكف على ترجمته في أعماله، يحكم على تجربته بالمراوحة والجمود والاجترار، وهو أمر منافٍ لطبيعة الإبداع.

الموهبة أولاً

أهم وأبرز شروط نجاح الفنان، بحسب الفنانة مكي، تمتعه بالموهبة التي لا بد لها من الدراسة الأكاديميّة، فهي تنضجها وتبلورها وتشذبها وتصقلها، ومن ثم على الفنان المتابعة الدؤوبة لكل ما تفرزه محترفات الفن في العالم من تجارب جديدة، سواء من خلال المعارض أو الكتب والمدونات الفنيّة، وفي نفس الوقت، على الفنان الاطلاع وبعمق على تاريخ الفن، ومشاهدة الأعمال التي أنتجها الفنانون السابقون، لأن ثقافة الفنان التشكيلي، تأتي عن طريق العين بشكل أساسي، أما القراءة فتقوي وتدعم وتعمّق هذه الثقافة، كما يمكن لبعض أجناس الإبداع الأخرى، إسعاف الفنان التشكيلي في تحقيق رؤاه البصريّة وتصعيد التعبير فيها، كالشعر الذي هو صورة لغويّة، يمكن للرسام تحويلها إلى لغة بصريّة. أي تحويل الرؤى التي تكتنز عليها القصيدة الشعريّة إلى رؤية بالألوان والخطوط والأضواء والظلال والحركات.

التراث والمعاصرة

اجتهدت الفنانة نجاة مكي خلال مسيرتها الفنيّة الطويلة، للخروج بأسلوب فني يعكس شخصيتها المنبثقة من بيئتها المحليّة، وتراثها الشعبي والعربي والإسلامي، وذلك عن طريق البحث عن مرتكزات ثابتة لهذه الشخصيّة، تُوفق فيها بين الموضوع المحلي واللغة البصريّة المرتكزة على ما ينداح عن الفن التشكيلي المعاصر من تجارب واتجاهات وتقانات، حيث يجب على الفنان التشكيلي القيام بمتابعة دؤوبة ومستمرة للحراك الفني العالمي، وانتخاب منه ما يلائم مشروعه الفني، وبدون هذه المتابعة، تصل تجربته إلى طريق مسدودة، يُوقِعها بالجمود والنمطيّة والتكرار، وهو ما يتعارض مع مفهوم الفن الحقيقي الذي عليه أن يبقى في محرق الحياة.

ينمو بنموها، ويتطور بتطورها، مستفيداً من كل جديد وكشف وانزياح وخبرة تنسل أو تتسرب منها، وهي في حالة نهوضها الدائم، وتحويلها إلى شرفات واسعة للخيال والإبداع، ذلك لأن الفن الحقيقي، هو تعبير عن الغريب الجديد وشوق لا يفتر إلى اللامتناهي.

تأثيرات البيئة

على هذا الأساس، تحرص الفنانة مكي على مراقبة حركة الحياة في بيئتها، وتشظيها في موجوداتها، تشتغل بعدها على تنقية نتاج هذا التفاعل بينهما، واختيار المناسب والمتوافق مع مشروعها الفني، ثم تُكثّفه في رموز وإشارات وأشكال وصيغ ومضامين عدة، تضمنها أطروحتها البصريّة التي يسهم الخط واللون والتكوين في تشكيلها الجمالي والتعبيري، وهذه العناصر أبرز مقومات وخصائص وروافع العمل الفني الذي يجب أن يتسم بالوحدة والنظام والتناسب.

من جانب آخر، تؤمن الفنانة مكي، بأن البيئة المحليّة، تُشكّل المصدر الأهم والأبرز الذي يجب على المبدع أن يستمد منه موضوعات إبداعه، لهذا فهي حريصة على إقامة علاقات عضويّة ووجدانيّة مع المكان.

بمعنى أن على البيئة أن تفرض نفسها على الفنان، وتؤثر في تكوينه وتوجهاته، وهي شخصياً، ولدت بين أحضان البيئة البحريّة في دبي التي انعكست بجلاء على شخصيتها، ومن ثم على فنها الذي استلهمت فيه حركة المد والجذر والإيقاعات الرائعة التي تنداح عنها، واستلهمت اللون الأزرق، وتموجات الماء وتغيرات ألوانه، من وقت لآخر، حتى في اليوم الواحد. نواتج هذه المشاهدات، تُشكّل جملة من المؤثرات يتلقفها إحساس الفنانة مكي باللاشعور، وتختزنها ذاكرتها البصريّة بشكل عفوي، لتأخذ طريقها إلى نسيج لغة نصها البصري.

وبالنسبة لها، يمكن للمتلقي بسهولة، التقاط روح البيئة البحريّة في أعمالها الفنيّة، بكل خصائصها ومقوماتها العديدة، سواء من خلال الألوان، أو الرموز والإشارات الدالة عليها، وغالباً ما تمتزج هذه المؤثرات الطبيعيّة، بعناصر تراثيّة استلهمتها من مدينة دبي القديمة التي عاشت فيها، ومنها الوحدات الزخرفيّة التي تحملها جدران العمائر والبيوت والأسواق القديمة، من الداخل والخارج، كما تحملها سطوح الحِرف والصناعات والمشغولات اليدويّة الشعبيّة.

مضامين أعمالها

كرّست الفنانة مكي لوحتها لموضوعات مختلفة منها: علاقة الإنسان بالزمن، أو تأثير عامل الزمن في حياة الإنسان الذي عالجته من منظور فلسفي يتعلق بدوران الأرض، وعلاقة هذا الدوران بالكائن الحي.

ولمقاربة هذا الموضوع تشكيلياً، اعتمدت لغة بصريّة مختزلة ومكثفة، حملت تأثيرات متباينة، بعضها جاء من التجريد الحديث، وبعضها الآخر من التجريد الإسلامي، الذي ركّزت فيه على شكل الدائرة التي رمزت بها للكون أو الحياة، كما استخدمت رموزاً أخرى كثيرة، دعمت بها فكرتها، وثمة تأثيرات أخرى كثيرة، تسربت إلى لوحتها، بعضها جاء من الفنون المحليّة الشعبيّة والإسلاميّة (لا سيّما المنمنمات والتوريقات النباتيّة) وبعضها الآخر، من الفنون العالميّة الحديثة التي تحرص على متابعتها باستمرار.

تداخل التقانات

تتماهى في أعمال الفنانة مكي، جملة من التقانات والأساليب، فهي تجمع فيها بين التصوير والحفر المطبوع، وبين الصيغ التجريديّة وشبه المشخصة، معتمدة على ألوان مبعثرة بعفويّة فوق سطح اللوحة.

وهي تؤكد أن (المكان) لم يتراجع في أعمالها، ولم يغب، وإنما أخذ منحىً آخر تجسد في العناصر المُشكّلة للتكوين ومدلولاتها التجريديّة. أو أنه أخذ شكل الإيقاع اللوني المتناغم، البطيء والسريع، وأحياناً، يتخفّى المكان في مفردة، أو عنصر، أو رمز، وهي حريصة على وجوده في أعمالها، لما له من قيمة بصريّة ودلاليّة عميقة.

والفنانة مكي شغوفة بالرسم الذي يُعتبر العنصر الأساس في اللوحة، أما اللون فهو أحد المحسّنات التي تُضاف إليه، واللون في الحقيقة لا قيمة له، مهما كان جميلاً، ما لم يحتضنه شكل مرسوم. لهذا تزاوج الفنانة مكي، في غالبية أعمالها، بين الرسم واللون. وكانت في البداية تستخدم الألوان الترابيّة المستلهمة من البيئة حولها مثل: ألوان الزعفران، والورس، والصحراء، والرمال، بهدف التأكيد على جملة من القيم والرموز التراثيّة الإماراتيّة. كما استخدمت اللون الأزرق الذي حملته في ذاكرتها البصريّة من نشأتها الأولى في مدينة دبي.

اليوم تأتي الألوان إلى لوحتها بتأثير اللحظة الشعوريّة التي تعيشها أثناء مواجهتها سطح العمل الفني، مستخدمةً في مدها وفرشها في جسد أشكالها وعناصرها ومفرداتها ورموزها، أصابع يديها بدلاً عن الفرشاة، بهدف سكب أكبر قدر ممكن من الإحساس فيها، مدفوعة بقوة التخيل، وبما تموج به ذاكرتها البصريّة من مخزون جمعته من مشاهداتها للواقع، ومن اطلاعها الدائم على ما تفرزه المحترفات المحليّة والعربيّة والعالميّة، من أعمال فنيّة متنوعة الشكل والمضمون.

 

دبي القديمة

ساهمت مشاهدات الفنانة نجاة مكي الدائمة لهذه العناصر التراثيّة المبثوثة في أكثر من مطرح وركن في دبي القديمة، المتغلغلة في معمار ونسيج العديد من الأدوات التي يستعملها الإنسان الشعبي في حياته اليوميّة، بتشكيل مخزون ذاكرتها البصريّة التي تمتح منها اليوم مادة إبداعها، كما كان للأسرة والمدرسة والبيئة البسيطة التي شبت وترعرعت فيها، وما وصل إلى مسامعها من أحاديث وحكايات وأساطير شعبية، دوراً مهماً في دعم وترسيخ هذا المخزون، وإغنائه بالعناصر والمفردات الرموز البصريّة وشحنه بالخيال.

دكان الوالد

تسوق الفنانة نجاة مكي مثالاً على قوة تأثير البيئة عليها، دكان والدها المختص ببيع الأعشاب، حيث استلهمت مما كان يضم من الأزاهير والورود والأعشاب، عدداً من فصائل الألوان الرائعة التي لا تزال منعكساتها واضحة في أعمالها حتى الآن، كما لا تزال تتذكر بقوة المظهر الفريد للصناديق والعلب المنضدة فوق رفوفه، وتشم عبق الروائح التي كانت تفوح منه.

هذا العالم البسيط الرائع والمدهش الذي عاشته في طفولتها، لا زالت تختزنه في أحاسيسها وذاكرتها البصريّة، وتعود لاستحضاره، بكثير من الغبطة والسعادة والفرح، محمّلةً إياه، إسقاطات الحاضر، كلما واجهت سطح لوحتها، ثم تقوم بسكبه فوق هذا السطح، عبر الخط (الرسم) أو اللون، أو على هيئة مشخصة، أو رمز، وقد يأخذ معمار اللوحة كاملاً.

Email