فيليب روث في آخر حواراته قبيل رحيله:

كنت ساذجاً في «كتابة الرواية الأميركية»

ت + ت - الحجم الطبيعي

رحل فيليب روث، عملاق الأدب الإنساني قبل أن يكون «سيد الرواية الأميركية المعاصرة» و«أبرز أدباء القرن العشرين»، عن عالمنا في 22 مايو الماضي عن 85 عاماً.

وفي وداعه وجدت مجموعة من حواراته الأخيرة التي أخذ بعضها طريقه لإعادة النشر. مراسل صحيفة «ذي نيويورك تايمز» تشارلز مكغراث كان قد أجرى معه حواراً، وصف نفسه فيه بالسذاجة في عام 1960، حين كان يعتقد بأنه أميركي يعيش في مرحلة تحدي المعقول!، وخلال هذا الحوار، الذي نستعرضه فيما يلي، بدا روث كما لو أنه متأهب تماماً لرحلته الأخيرة، وأنه سعيد جداً وهو يجد نفسه، وقد بلغ هذا العمر، حياً مع إشراقة كل يوم جديد.. ومع نهايته.

جهود كثيرة هنا وهناك وحتى كتبه الأخيرة، روايات قصيرة أنجزها روث. كانت كلها تدور حول فكرة الموت وتبدو سابقة لأوانها؛ فهل نعى نفسه؟ وهل كانت تركته الأدبية الأخيرة؟

رصانة فكرية

في سنة 2012، فيما كان يقترب من الثمانين، أعلن فيليب روث رسمياً قراره الشهير بالتوقف عن الكتابة، ومنذ ذلك الحين ظل ملتزماً بتخصيص جزء من وقته من أجل التحضير لذلك، فعلى سبيل المثال، أرسل خطاباً نارياً شديد اللهجة اعترض فيه على ما كُتب في موسوعة «ويكيبيديا» الإلكترونية من آراء منافية للعقل تفيد بأنه لم يكن شاهداً موثوقاً به فيما يتعلق بحياته الشخصية. كذلك أوكل إلى «بليك بايلي» الذي تربطه به علاقة وثيقة مهمة كتابة سيرته الذاتية.

وقبل فترة وجيزة فقط، أشرف على نشر الجزء العاشر والأخير من سلسلة أعماله، وهو مجلد يحمل عنوان «لماذا أكتب؟»، والذي يمثل واحداً من عدة أجزاء صادرة عن «مكتبة أميركا» ليكون شبيهاً بتركة إبداعية تحتوي على مجموعة مقالات ومجموعة الحوارات والمداولات التي أجراها مع كُتّاب أوروبيين سنة 2001 وعدد من المقالات والعناوين تنشر للمرة الأولى، وليس من باب المصادفة إذاً أن ينتهي الكتاب بهذه الجملة المكونة من ثلاث كلمات «ها نحن هنا» في بطون هذه المجلدات.

أما اليوم "حسب ما كتب الصحفي في حواره مع روث قبل وفاته"، فهو يعيش حياة المتقاعد المستريح، يلتقي أصدقاءه، يحضر حفلات موسيقية، يفتح بريده الإلكتروني، يشاهد أفلاماً قديمة، وقبل مدة التقى المخرج «ديفيد سيمون» الذي يعمل على الجزء السادس من روايته «خطة ضد أميركا». عدة مقابلات

ويتابع مكغراث : أجريت مع روث عدة مقابلات في مناسبات مختلفة، كما سألته الشهر الماضي إن كان يرغب في الحوار مرة أخرى، ومثل الكثير من قرائه كنت أتساءل عما تكون عليه وجهة نظر مؤلف روايات «حكاية رعوية أميركية» و«تزوجت شيوعياً» و«خطة ضد أميركا»، كما كنت مدفوعاً بالفضول لمعرفة الكيفية التي يمضي بها وقته، فوافق على المقابلة شريطة أن يكون ذلك عبر البريد الإلكتروني لحاجته إلى الوقت الكافي للتفكير في الإجابة.

وادي الظل

في غضون أشهر ستكون قد بلغت الخامسة والثمانين، هل يخامرك ذلك الشعور بالتقدم في السن؟ كيف تصف لنا هذا الشعور؟

أجل، ما هي إلا أشهر وأكون قد غادرت مرحلة الكهولة ودخلت في مرحلة متقدمة من الشيخوخة، لأتوغل يومياً في وادي الظل الرهيب. ومن المدهش أن أرى نفسي الآن ما زلت حياً بنهاية كل يوم، فما إن يحين موعد نومي حتى أبتسم وأقول لنفسي: «لقد عشت يوماً آخر»، ثم أشعر بالدهشة مرة أخرى ما إن أستيقظ بعد 8 ساعات من ذلك لأكتشف أنه نهار اليوم التالي وأنني ما زلت حياً، أي أنني، نجوت من الموت البارحة، وهو ما يجعلني أضحك مرة ثانية. أنام مبتسماً وأستيقظ مبتسماً، إنني سعيد بأن أبقى على قيد الحياة إلى الآن،

زيادة على أنه متى ما حدث ذلك، وبمرور الوقت منذ أن بدأت بموضوع التأمين الاجتماعي، بدأ ذلك بفرز الوهم بأن هذا الشيء لن ينتهي أبداً، رغم أنني بالطبع أدرك أنه من الممكن أن يتوقف. سنرى كم سيسعفني الحظ.

الآن وبعدما تقاعدتَ كروائي، هل تشعر بالحنين لكتابة الرواية، أم تفكر في التراجع عن الاعتزال؟

لا أفكر في ذلك، والدافع هو أن الأسباب التي حملتني على التوقف عن كتابة الرواية قبل 7 سنوات لم تتغير، وكما أوضحت في كتابي «لماذا أكتب؟»، ففي عام 2010 ساورني الشك بأنني سأكتب أعمالاً أفضل مما كتبت قبلها، في ذلك الحين لم أعد أتمتع بتلك اللياقة الذهنية، ولم تكن لديّ الطاقة اللفظية أو البدنية اللازمة لتأليف وصيانة أعمال إبداعية مثلما تتطلب الرواية. والواقع أن كل موهبة لها شروطها، ولها طبيعتها ومداها وقوتها؛ فلا يمكنك أن تكون معطاءً وافراً طوال الوقت.

بالعودة إلى الوراء، كيف تقيّم السنوات الخمسين من حياتك كاتباً؟

لقد كانت مزيجاً من عدة ثنائيات؛ ما بين ابتهاج وأنين، وإحباط وشعور بالحرية، وإلهام وشك، ومن الوفرة والفراغ، والحماس والتشوش. وتلك العزلة أيضاً والهدوء، خمسون سنة من العمر من الصمت المطبق في مكانك بينما تسقط الكلمات قطرة قطرة لتمنحك الحد الأدنى من العمل الصالح للنشر.

في كتابك «لماذا أكتب؟» أعدت طباعة مقالتك الشهيرة «كتابة الرواية الأميركية»، ما يعني أن الواقع الأميركي جامح إلى حد بعيد، وأنه يفوق توقعات وخيال الكاتب، وقد قلت ذلك في عام 1960.. ماذا عن اليوم؟ هل كنت تتنبأ بأميركا عــلى شاكلة هذه التي نعيش فيها اليوم؟

في الواقع لا، لم يتنبأ أحد بأميركا مثل هذه، لا أحد كان يتصور أن كارثة القرن الحادي والعشرين ستصيب الولايات المتحدة الأميركية، كارثة لا مناص منها، كارثة لنقل إنها ليست من طراز ما قرأناه في رواية جورج أورويل عن «الأخ الأكبر»، تلك التي تتحدث عن الستار المرعب، وإنما من ذلك الطراز الذي يتميز بالسخف الذي تجسّده كوميديا التباهي والتفاخر. كم كنت ساذجاً في عام 1960 حين كنت أعتقد بأنني أميركي يعيش في مرحلة تحدي المعقول! ما الذي كنت أعرفه في سنة 1960 و1963 و1968 و1974 و2001 حتى سنة 2016؟

قراءة الرواية

قبل التقاعد كنت معروفاً بأنك تكرّس الجزء الأكبر من وقتك للكتابة، لكن الآن بعدما توقفت عن الكتابة ما الذي تفعله في كل هذا الوقت؟

إنني أقرأ، والغريب في ذلك أنني لا أقرأ إلا القليل من الأعمال الروائية. لقد أمضيت عمري في قراءة الرواية، وتدريسها، ودراستها وكتابتها، لم أكن أهتم بغيرها، لكن منذ تقاعدي بدأت أكرّس جزءاً من وقتي يومياً لقراءة التاريخ، وعلى وجه الخصوص تاريخ أميركا، كذلك أقرأ تاريخ أوروبا الحديث.. لقد حلت القراءة محل الكتابة، وهي تشكل الجزء الأكبر من اهتمامي وتحرضني على الانتباه.

صراع جميل

قال فيليب روث في الحوار، عن ما قرأه في آخر أيامه: «يبدو الأمر كما لو أنني قد غيّرت اتجاهي أخيراً فصرت أقرأ مجموعة متنوعة من الكتب، كان آخرها ثلاثة كتب من تأليف تا نيهيسي كوتس، وكان أفضلها إبداعياً كتاب «الصراع الجميل»، وقد قادتني قراءة كوتس إلى قراءة كتاب نيل أروين بينتر وعنوانه «تاريخ البيض»، وهو ما قادني كذلك إلى قراءة كتاب إدموند مورغان «العبودية الأميركية، الحرية الأميركية»، ومن هنا اتجهت إلى قراءة كتاب غرينبلات وعنوانه «كيف أصبح شكسبير شكسبير».. والواقع أنه تصلني بشكل منتظم نسخ من الكتب ما قبل النشر تعرفني بكُتاب كثيرين، من بينها كتب لأصدقائي، فعلى سبيل المثال قرأت مذكرات جيمس جويس تأليف إدنا أوبرين، غير أن ما أفتقده هو قراءة كتب جديدة لأولئك الأصدقاء الذين رحلوا.

شهادات في مبدع أسهم في تشكيل ذاكرة القرن العشرين

«لا تفصلني عن فيليب روث في العمر سوى سنوات قليلة، فقد نشأنا تقريباً في الحقبة ذاتها التي تعود إلى خمسينيات القرن العشرين من تاريخ أميركا، وهي مرحلة عرفت نقدياً بتركيزها على الشكلية والأدب الساخر والمراوغات والتصريحات المكبوتة، والهروب والابتعاد عن كل ما هو مألوف مثلما عبر عن ذلك «ت. أس. اليوت».وكان فيليب رافضاً في تلك الأثناء، جرئياً ورائعاً أحياناً وحاداً ومستخفاً أحياناً أخرى. كما كان يبجل «كافكا» و«ليني بروس». وبعيداً عن كونه ثائراً كان فاضلاً لا يحب النفاق والكذب في حياته سواءً كانت العامة أو الخاصة. وعلى الرغم من أن قلة من الناس في ذلك الحين كانت تنظر إلى روايته «خطة ضد أميركا» على أنها تنبؤية، فإننا نراها الآن تتحقق».

الكاتبة الأميركية جويس كارول أوتس

 

«على الرغم من أنني كنت قد قرأت مجموعة الكاتب الشبح في منتصف رحلتي في عالم التأليف للاستعانة بها، فإنني وجدت نفسي أمام عمل مدهش جذاب. كانت الذاكرة تعود بفيليب روث البالغ من العمر 46 سنة إلى الوراء ليتأمل بداياته، والديه، زوجاته، حبيباته، حتى «آن فرانك» موجودة في هذه القصص. والحقيقة أنني بقيت أتساءل ما إن كان، ومتى يأتي اليوم الذي سيتسلم فيه الدعوة إلى استوكهولم للموافقة على استلام جائزة نوبل؟ أقول لنفسي: لقد حرمت منها يا فيليب.

المغنية والمؤلفة الموسيقية إيمي رغبي

 

كان روث قد قرأ في مطلع الألفية الثالثة جزءاً من الاتفاقية الجمهورية الصادرة سنة 1940، حين كانت التكهنات تدور حول اختيار شخصية مرموقة شهيرة غير سياسية للرئاسة هي تشارلز لندبيرغ، ليكون مرشحاً عن الحزب الجمهوري، هنا سأل روث نفسه: ما الذي سيكون لو حدث ذلك؟ فكانت رواية خطة ضد أميركا، وهي عمل متخيل يظهر فيه لندبيرغ طارداً الرئيس الأسبق فرانكلين روزفيلت من البيت الأبيض عبر وعوده بالتخلي عن أوروبا أثناء نزاعها مع هتلر والمناداة بشعار «أميركا أولاً».

الكاتب الصحافي جوناثان فريدلاند

Email