أول من عرّف بتراث المنطقة وآثارها

بعثات الدنماركيين سبرت تاريخ الخليج العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعتبر الدنماركيون من أوائل مَن استكشف منطقة الخليج العربي علميّاً وآثاريّاً واجتماعيّاً وتراثيّاً وثقافيّاً، ولم يقتصر عملهم على التنقيب عن الآثار فقط، بل تعدّى ذلك إلى الجوانب الاجتماعيّة والثقافيّة. ولهذا فإنّ أعمالهم العلميّة قد شملتْ جوانب متعدّدة تعمّقت في المجتمع الخليجي بصورة عامّة.

وكانت منطقة الإمارات ضمن مناطق الخليج التي زراها العلماء الدنماركيّون منذ 1958 /‏1959، ثم تواصل هذا الاستكشاف ليشمل جوانب عدّة، أُسوة بما قاموا به في بقيّة بلدان الخليج العربيّة.

ونتج عن ذلك عدد من الدراسات، وبالذّات في الميدان الآثاري. وتحصّل الدنماركيون على العديد من الصور الفوتوغرافيّة التي حفظت المجتمع المحلّيّ ومعالمه.

كما تعمّق الدنماركيون في دراسة المجتمع الخليجي أنثروبولوجيّاً، ويعدّ الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن يتيم خير مَن درس وحلّل ما صنّفه الدنماركيون في هذا الميدان في أكثر من دراسةٍ له.

وبلا شكّ فإنّ لكلّ مدرسة أجنبيّة منهجيّتها في تقصّي الحقائق وجمع المعلومات واستخلاص النتائج مثل: المدارس البريطانية والفرنسيّة والأميركية في ميادين البحث الأنثروبولوجي والثقافي والتراثي والآثاري، ومن أمثلة ذلك ما كتبه بيتر لينهاردت البريطاني عن مشيخات شرقيّ شبه الجزيرة العربية.

قدم السبق

وتعتبر التجربة البحثية الدنماركية في التنقيب عن الآثار حيويّة، وناضجة، ومتفاعلة، ومتعمّقة في المجتمع الخليجي نظراً للمنهجيّة العلميّة التي يتّبعها العلماء الدنماركيون وتميّزهم عن غيرهم بخصائص وسمات في البحث والاستقصاء.

ويعتبر عمل كارستن نيبور (1733-1815) في هذا الشأن التجربة الأولى للمشروع الدنماركي في بعثته الاستكشافيّة لشبه الجزيرة العربيّة، وكان يرافقه فيها علماء في الآثار والحيوان والطب والجغرافيا والدراسات الكلاسيكية والطبيعة، وعلى الرغم مما آلت إليه هذه البعثة إلا أنّها كانت تجربة رائدة نتج عنها عدد من الدراسات والبحوث في ميادين المعارف والعلوم. وقد عمّت البعثات الدنماركية معظم البلدان العربية.

وكانت البعثة الآثارية الدنماركية أولى البعثات الأجنبية التي نقّبت عن آثار الخليج، وكان لعلمائها قدم السبق في إماطة اللثام عن الكنوز الآثارية لدول الخليج العربيّة، ومنهم بيتر غلوب الذي تنقّل بين بلدان الخليج العربية فثبّت باستكشافاته الرائعة حضارة ديلمون في البحرين وفيلكة وشرقيّ شبه الجزيرة العربية، وحضارة ماجان في أم النّار وهيلي.

ومن الجدير بالذِّكر أنّ المشروع الأنثروبولوجي الدنماركي كان مصاحباً للمشروع الآثاري، ويدلّ ذلك على مدى الارتباط بين الآثار وعلم الإنسان في المنهجيّة الدنماركية التي نتج عنها دراسة الحضارة والثقافة والمجتمع في منطقة الخليج العربي، كما صاحب ذلك علماء في الرسم والطبيعة والتصوير والموسيقى التقليدية والأداء الفنّي الشعبي.

ومن المعلوم أيضاً أنّ المشروع الدنماركي لم يكن مصحوباً بطموحات استعماريّة توسّعيّة في المنطقة مقارنة بالمشاريع البريطانية والفرنسية والأميركية والألمانية، التي مهّدت للسياسات الأجنبية وأسهمت في التعرّف إلى المجتمعات العربية المختلفة على الرغم من أنّها كانت دراسات عميقة ومتأصّلة مع اختلاف في التفسيرات والتحليلات، وتباين في المفهوم والتوجّهات والفلسفات.

وأعتقد أنّ التجربة البحثية الدنماركية كانت أوثق علميّاً من غيرها من التجارب الأوروبية الأخرى نظراً لارتباطها بالجانب البحثي الخالص من شوائب الاحتلال، والمشبّع بالمعرفة والرغبة في توثيق الثقافات المعاصرة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المنتج الدنماركي شمل وضع المرأة والعائلة، والهجرة والتخلّف في القرى الفلاحيّة، والبداوة، والآثار، والطبيعة، وجذور الحضارة الشرقيّة، وظهر ذلك في المصنَّفات العديدة، والمتاحف والمعارض والأراشيف.

توثيق الفنون

ومن أمثلة الإنتاج العلمي الدنماركي في منطقة الخليج ما صنَّفه بول روفنسغ أولسن (Poul Rovsing Olsen) المتوفّى عام 1982: (Music in Bahrain: Traditional Music of the Arabian Gulf) «الموسيقى في البحرين: الموسيقى التقليدية في الخليج العربي».

وهذا الكتاب هو الأوّل من نوعه في هذا الميدان، توافق مع شخصيّة مؤلِّفه الموسيقية العلمية.

وقد قام مؤلِّفه بجمع مادّة الكتاب، عن طريق المقابلات مع العديدين، ويتميّز هذا الكتاب بأنّ صاحبه وثّق ما عايشه مصنِّفه من فنون خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ بعضها بالاندثار، ومن حُسن الحظّ أنّه حفظ هذه الفنون في تسجيلات، كما دوّن الفن الموسيقي لتلك الفنون، وضمّنها إضافة إلى ذلك ملاحظاته الميدانية للفنّانين الشعبيين والمغنّين.

ويعدّ الكتاب دليلاً على وجود تأثيرات للموسيقى العربية على أولسن وتذوّقه لها، وكان الكتاب مكتوباً باللغة الإنجليزية، وكان بالتالي فرصة لعددٍ من الباحثين والمهتمّين الأجانب لتلمّس فنون الخليج.

ومن حُسن الحظّ أنّ الكتاب مرفق بثلاث أسطوانات مدمجة شملت تسجيلات موسيقية وغنائية شعبية قام بها أولسن. كما قام الكاتب بوضع كشّاف تحليلي لمحتويات الأسطوانات التي تبلغ 38 تسجيلاً.

وربما تضمّن عمل أولسن نقطتَي ضعف: الأولى: أنّ كفاءته في علم الموسيقى لم توازِها أو تقابلها كفاءة أخرى في علم الأثنوغرافيا، والثانية هي: عدم إلمامه باللغة العربية، وأن تواصله مع النّاس كان عبر وسطاء مترجمين.

ومع ذلك فإنّ عمله الميداني مكّنه من القيام بأعمال توثيقيّة مهمة لألوان من الموسيقى والأداء الفنّي في الكويت والإمارات وعمان، حيث بلغتْ تسجيلاته 140 ساعةً محفوظة على 300 شريط، وكلّ هذه التسجيلات محفوظة في أرشيف الموسيقى غير الأوروبية في المتحف الدنماركي الوطني.

ومن خلال هذه التسجيلات قام الكاتب بمقارنة ما جمع من موسيقى في البحرين بنماذج أخرى في الكويت والإمارات، وتوقّف أمام أنواع من فنون الغناء كالصوت والفجري والعرضة أو العيّالة، نتيجة للتشابه في التكوين الثقافي والاجتماعي المشترك بين دول الخليج العربية.

كما حاول المصنِّف البحث عن أصل تلك الفنون، أي: الفجري والصوت. وكما ذكر الدكتور عبدالله يتيم فإنّ كتاب أولسن نوع من السفر الأنثروبولوجي عبر الموسيقى التقليدية لاكتشاف الذّات بمقارنتها بالآخر غير الأوروبي.

أسس للتواصل

ومن هذا العرض يتبيّن أنّ الأرشيف الدنماركي جدير بالاهتمام، بما يضمّه من صور ووثائق وتسجيلات ومصنّفات مخطوطة. وهنا تأتي ضرورة التواصل مع متحف موزغادر، وجامعة كوبنهاجن، على أن ذلك يتم وفق الأسس التالية:

(1) دعوة أحد الأساتذة لزيارة دولة الإمارات، وربما تستضيفه جامعة الإمارات العربية المتحدة، للحديث عن تجربة الدنماركيين في البحث الميداني في منطقة الخليج العربي، والحديث عن مقتنيات أرشيف المتحف.

وأعني تحديداً الدكتور فيلمنج هوجلاند (Flemming Højlund) الذي يعدّ أحد العلماء المتبقّين الذين تواصلوا مع منطقة الخليج العربي، وعاصروا العلماء الأوائل، وهو مفتاح لكل كنوز الأرشيف الدنماركي الموزّع بين جامعة كوبنهاغن، ومتحف موزغارد، والاتفاق معه على ما يلي:

أ. أرشفة ما له علاقة بتراث وتاريخ الإمارات.

ب. كتابة الأرشيف حسب المادة المعدّة فيه، مثل: الأفلام والصور والوثائق والتسجيلات.

ج. إبلاغنا بكيفيّة الحصول على هذه المواد العلميّة.

(2) قيام متخصّصين من الإمارات بزيارة المتحف والجامعة للبحث في الأرشيف، وخاصة أرشيف الصور والسجلّات والتسجيلات.

(3) الكتابة حول ما له علاقة بموضوعات محدّدة في الآثار والاجتماع والفنّ في الإمارات.

مقتنيات إثنوغرافية

يعتبر الأنثروبولوجي الدنماركي، كلاوس فرديناند، من الباحثين الجادّين والمتميزين، وقد توفي في مدينة آرهوس بالدنمارك في 5 يناير 2005 عن عمر يناهز السابعة والثمانين.

وكما يذكر الدكتور عبدالله يتيم، فإنّ فرديناند كان يتمتّع بشخصية حيوية وإنسانية وطاقة متواصلة على العمل، والمثابرة في البحث ضمّنها العديد من المقتنيات الإثنوغرافية في متحف موزغارد بالدنمارك.

وقد أنجز فرديناند معظم دراساته الميدانية خلال فترة انتقاله للعمل في جامعة آرهوس ومتحف موزغارد، ومنذ 1957م استطاع أن يلعب دور الشخصية المؤسّسة لفكرة تشييد قسم للأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا بجامعة آرهوس ومتحف موزغارد.

دراسات

ساهم الباحث الدنماركي كلاوس فرديناند في مجال الدراسات الثقافية التاريخية والإثنوغرافيا المتحفية، حيث عمل منذ البداية على تشكيل أسس إثنوغرافية بهدف الإحاطة برؤى وأفكار عالِم الآثار الدنماركي المشهور بيتر غلوب في تأسيس متحف الثقافة التاريخية في آرهوس القائمة على أنّ المقتنيات الإثنوغرافية والآثارية يكمّل بعضها بعضاً.

وقد عمل فرديناند على توفير الدعم المالي المطلوب لتوفير المقتنيات الإثنوغرافية اللازمة من مختلف المناطق الثقافية في العالم، ومن ضمنها الأعمال الميدانية في منطقة الخليج العربي، إذ جمعها فرديناند على امتداد دول الخليج، وعمل معه في تلك البعثة عدد من طلابه وزملائه الإثنوغرافيين.

وقد لعبت تلك المقتنيات دوراً كبيراً في إلقاء الضوء العلمي على تلك المجتمعات والثقافات ماضياً وحاضراً.

تفاعل ثقافي

يشكل كتاب «الموسيقى في البحرين: الموسيقى التقليدية في الخليج العربي»، حلقة مهمة في سلسلة العمل الدنماركي في منطقة الخليج العربي، وهو بلا شك يأتي ضمن جهود الدنماركيين في اكتشاف الآخر، ومحاولاتهم للتفاعل مع ثقافته وموسيقاه، وفي الوقت نفسه فإنّ قيام هؤلاء العلماء بدراسة الثقافة الخليجيّة يعدّ في صالح المنطقة من حيث التوثيق والتأريخ لكلّ الأحوال الثقافيّة في المنطقة.

ومن الجدير بالإشارة أنّ أولسن وزميل له يدعى كاجيل بول زارا أبوظبي والشارقة، وفي كلتا المدينتين شاهد الرجلان العيالة في الساحة العامّة أمام حصنَي أبوظبي والشارقة، فكتب عن ما سمّاه بطقوس العيّالة، وبدأ يقارنه بما شاهده في العرضة البحرينية.

Email