جذور

جيل المستشرقين البريطانيين الجديد.. أبحاث ونجاحات معينها الخبرة العريقة

534503

ت + ت - الحجم الطبيعي

تطرّق عدد كبير من العلماء والباحثين لظاهرة الاستشراق، ووضعوا في ذلك الكثير من الكتب والمؤلَّفات التي ناقشتْ وأيّدتْ وعارضتْ آراء وأفكار المستشرقين.

كما أن دراسات هؤلاء البحاثة سبرتْ أغوار النّفوس وتحدّثت عن أهداف الاستشراق ومراميه الخفيّة. وقد عُرّف الاستشراق بأنه تيّار فكريّ وعلميّ كبير تمثّل في كمّ كبير من العلماء والمتخصّصين الغربيين درسوا حضارة الشرق وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته وعقائده وتاريخ شعوبه.

وميدان الاستشراق ميدان واسع جدّاً يشمل علوماً متعدّدة ومعارف متنوّعة. ومَن أيّد هذه الظاهرة رأى فيها بزوغاً علميّاً واندفاعاً نحو فهم واستيعاب الشرق بكلّ ما فيه من فكر ومدنيّة وحضارة. إنّ هؤلاء المستشرقين، كما أكد متخصصون ودارسون عديدون، قدّموا خدمة جليلة للحضارة العربية الإسلامية..

فدرسوها بعناية وتمحيص، فأنتج ذلك عدداً زاخراً من المؤلَّفات والكتب والمخطوطات والبحوث والدراسات في التاريخ والعقيدة والتفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه والتراجم والأدب والفنّ.. وإلى غير ذلك. واعتبر بعضهم جهود المستشرقين ملمحاً من ملامح الحوار بين الحضارات.

وفي المقابل، فإن مَن اختلف مع ذلك الرأي، ذهب إلى أن المستشرقين أذناب للاحتلال والقوى المعادية للإسلام، تمهِّد للأعداء وتقدّم خدمات جليلة للمحتلّ الأجنبيّ الفرنسيّ والبريطانيّ بالذّات.

ولا يجد هؤلاء في المستشرقين سوى جواسيس، موضحين أنّ كتبهم ودراساتهم تحمل في طيّاتها السمّ وتخبئ بين سطورها انحرافاً فكريّاً.

ورأوا أيضاً، أنّ ما قام به الغربيون من بحث في تاريخ الشرق قبل الإسلام، ما هو إلا مجرّد إحياء للوثنية في المنطقة وإبراز لدور المشركين في الحضارة، وإضعاف لدور الإسلام في تغيير المجتمع العربي ونقله نقلة نوعيّة جبّارة. وزعم هؤلاء المخالفون أنّ ما حقّقه المستشرقون من مخطوطات عربية إسلامية ما هو إلا مجرّد انتقاء وتخيّر غرضهما الإساءة إلى الإسلام وأهله.. لا خدمة للعلم والفكر.

ولكن، ورغم كل ما أوردناه في الخصوص، علينا النظر بتمعن أكثر في المسألة، لنبني قناعات جديدة ومهمة، ذلك في ضوء ما أنتجه وقدمه جيل المستشرقين البريطانيين الجديد، إذ اختطوا منهجاً علمياً وموضوعياً صرفاً، تناولوا فيه حضارات الشرق وآثاره ونتائجه وموروثه، وفق أسلوب بحثي دقيق يعتمد على النظرة المنطقية العلمية، ويأتي في مقدمة هؤلاء أ.د. جون ف. هيلي.

بين كفتين

وقفتْ فئة من الباحثين وقفة تمحيص ودراسة لما كتبه المستشرقون. فتناولتْ ما خلّفه المستشرقون بالدراسة المنهجية الموضوعية، فما كان من خير بيّنوه وأشاروا إليه، وما كان من سوء وضحوه وناقشوه بالحكمة والبرهان. ورأتْ هذه الفئة أيضاً أنّ جهود المستشرقين في إخراج التراث العربي الإسلامي وتحقيقه، ميزة تحسب لهم إذ بفضل هذه الجهود انتشر تحقيق المخطوطات وشاعتْ طباعتها.

واعترفتْ هذه الفئة أنّ من المستشرقين مَن أنصف الإسلام والحضارة الإسلامية وقدّم خدمات جليلة للعلم. وفي الوقت نفسه فإنّ كثيرين من أصحاب هذا الرأي مقرّون أيضاً أنّ لعددٍ من المستشرقين دوافع سيّئة تنطلق من منطلقات نفسيّة مشحونة بالحقد والافتراء.

فروقات وأسباب

أمام هذا التباين في المواقف من الاستشراق، تباينت كذلك منطلقات المستشرقين أنفسهم من جيل إلى جيل، لذا نجد فروقات بين أجيال المستشرقين، منذ القرن الثامن عشر وإلى القرن العشرين. وهذه الفروقات تتضح فيما تناوله الغربيون وما درسوه من تاريخ وحضارة الأمّة، منذ العصور القديمة حتى نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث. ويعود سبب ذلك إلى عدّة أمور، أهمها:

(1) توسّع المعارف لدى العلماء الغربيين أنفسهم إذ تمكّنوا من التواصل مع بلاد الشرق، وأصبح هذا التواصل أكثر قرباً وأقوى وشيجة مع مرور الأزمان. وأسهمت زيادة التواصل مع العالَم العربي في التبادل الثقافي بين الشرق والغرب. كما أنّ الهجرة إلى بلاد الغرب واقتراب المهاجرين من أصحاب البلاد الغربيين أشاع نوعاً من التفاهم والتعارف بين الثقافتين.

(2) ضعف النظرة العنصرية، إلى حدٍّ ما، لدى الكثير من الغربيين ونظرتهم العدائية للشرق وللإسلام وحضارته وثقافته.

(3) بروز نوع من الاحترام والتقدير لحضارة الشرق، وهذا بدأ بالتدرج مع مرور الوقت.

(4) تغيّر موازين القوى لدى الدول العظمى، إذ تأخّرت دول، كبريطانيا وفرنسا، وبرزت قوى جديدة ذات مشاريع جديدة، كالولايات المتحدة. وهذا جعل عدداً من المستشرقين البريطانيين والفرنسيين المحدثين، يختلفون عن سابقيهم أيّام الإمبراطوريتين العظمييْن: البريطانية والفرنسية، وأثناء فترة قوتهما وسيطرتهما.

(5) تقلّص أو زوال الصلة، إن كانت موجودة، بين مراكز البحوث والدراسات والعلوم في الجامعات الأوروبية، وبالذّات بريطانيا وفرنسا، وبين أوكار التجسّس في هذين البلديْن.

(6) قيام عدد كبير من أبناء الشرق بالبحث في تاريخه ولغته وحضارته والدراسة في جامعات غربية، وبالذّات في بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وحدث بالتالي نوع من الاختلاط بالعلماء الغربيين. وقام هؤلاء الطلبة بتثبيت وجهات نظرهم في رسائلهم وأطروحاتهم، على الرغم من مخالفتها أحياناً لوجهات نظر أساتذتهم ومشرفيهم. وهذا ولّد شيئاً من النّقاش وتبادل الأفكار ..وساهم الأمر ذاك في تغيير أو تعديل أو تطوير الأساتذة والمشرفين لكثيرٍ من أفكارهم.

(7) زيارة كثيرٍ من العلماء الغربيين بلاد الشرق والتعرّف على لغاتها وثقافاتها عن قرب وعن كثب.

(8) انتقل عددٌ كبيرٌ من العلماء الغربيين إلى الدراسة الميدانية للمجتمعات الشرقية.

(9) ساعد تنظيم الندوات والمؤتمرات العلمية والتاريخية والآثارية وحلقات النقاش في أوروبا، وبالذّات في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، في اختلاط العلماء والمتخصّصين الغربيين بأمثالهم الشرقيين، وحدث نوع من التفاهم بين الجانبين.

ومن الجدير بالتنويه هنا، أنّ ما قدّمه العلماء الغربيون من إنتاج علميّ، نظريّ وماديّ لفترة ما قبل الإسلام تحديداً، يعدّ ركيزة مهمة من ركائز البحث العلميّ والتاريخيّ والآثاريّ لدارسي بلاد الشرق الأدنى القديم.

ولا يزال دور البعثات الأجنبية يتزايد مع مرور الوقت، وإن ظهر في وقتنا الحالي، علماء متخصّصون من العرب والأتراك والإيرانيين.

تميز وجوانب ثراء

ينتمي جون هيلي في نشأته وتكوينه وبداية بروزه، إلى مدرسة الاستشراق البريطاني الذي يعدّ أوسع المدارس الاستشراقية في أوروبا. إذ اتصلتْ بريطانيا منذ البداية، مع الشرقيْن الأدنى والأقصى، اتصالاً سياسيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً. وتناول الاستشراق البريطاني سائر نواحي المعرفة الشرقية، من لغات وآداب وتاريخ وآثار وجغرافيا. وتميّز بالاهتمام باللغة العربية وبقيّة اللغات السامية الأخرى.

وازدهرت في المملكة المتحدة مراكز ومعاهد الاستشراق في عددٍ من الجامعات البريطانية، مثل:أوكسفورد وكيمبردج ومانشستر ودرهام وبيرمنغهام وإدنبره وغلاسغو وكاردف ولندن. وبرزت في المملكة المتحدة أعداد من المجلّات العلمية المتخصّصة في العلوم الشرقية، من أمثال «المجلّة الملكية الآسيوية» ومجلّة «الدراسات الشرقية والأفريقية» ومجلّة «الدراسات السامية»..

وغير ذلك الكثير. وأصبحت بريطانيا بمثل هذه الجامعات والمعاهد والمجلات، ملاذاً للدارسين والباحثين، لذا برز العديد من العلماء في تخصّصات مختلفة، ولكنّها تركّز جغرافيّاً على مصر وشبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق وتركيا وإيران وشبه القارة الهندية.

وتميّز المستشرقون البريطانيون بسعة الاطّلاع واستمرار التواصل مع الشرق والقيام برحلات عديدة في المنطقة. كما احتوت بريطانيا عدداً كبيراً من المتاحف التي تضمّ تراث وآثار الشرق، إضافة إلى العديد من المكتبات التي تحتوي مئات المخطوطات.

وتبيّن لهيلي، خلال مسيرته العلمية، وجود تغيّر فكري في منحى الدراسات الاستشراقية، ذلك مع علمه بالانتقادات التي وُجهت لأعمال عدد كبير من المستشرقين. وهو لا يرى وجود صلة بين التوجه الاستشراقي وبين التوجه الاحتلالي الأوروبي في المنطقة. وقد كان ينوي، في البداية، دراسة كلّ ما يتعلّق بالعهد القديم.

ولذلك تعلّم اللغات السامية بهدف قراءة وفهم الكتاب المقدّس. ولكن هذه النيّة تغيّرت وتوجه إلى دراسة التاريخ القديم لبلاد الشرق بصورته الصحيحة.. وما عزز توجهه ذلك، أيضاً، قناعته الفكرية بأن التاريخ القديم له تأثير كبير على التاريخ الحديث للشرق الأوسط.

ومن الجدير بالذِّكر أنّ حديثي عن أ.د. جون هيلي ليس من قبيل التأثّر والتأثير بين الأستاذ والتلميذ، وإن كنتُ أقرّ بفضل أستاذي وعلميّته وعلوّ شأنه في ميدان التخصّص. وحين قام هيلي بزيارة علمية لمدائن صالح (الحجر) بالمملكة العربية السعودية في عام 1985، شاهد آثار الأنباط في الموقع، فبدأ يوجه اهتمامه نحو تاريخ الأنباط وآثارهم ولغتهم.

ولما أصبح هيلي أستاذاً في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة مانشستر، تطوّرت معارفه وتواصله مع العرب وغيرهم، إذ كان القسم يزخر بالطلبة المسلمين واليهود، فكانت بالنّسبة له تجربة جديدة أيضاً.

إنجاز

لا شك في أن بروز مراكز ومعاهد بحثية وجامعات مرموقة، عربية وإسلامية، متخصصة في مجال الآثار، أفرز إيجابيات مهمة تحقق معها التصدي لأي تشويه أو خلط وخطأ «مقصود أو عفوي»، في الدراسات المعنية بالآثار والاكتشافات المتنوعة المتخصصة في المنطقة، إذ إن تلك المؤسسات باتت تملك خططاً ونهوجاً وكوادر عالية التأهيل.

ولديها دوريات ومجلات علمية تبحث في تاريخ وحضارة وآثار المنطقة، وبفضلها، أصبح من الصعوبة أن يدسّ أحد أخطاءً وأفكاراً مسمومة، إلا إذا كانت بطرق خفيّة.

بعثات واكتشافات

أدى تتابع بعثات الاستكشاف الآثاري في العالم العربي وظهور النّصوص القديمة وبروز المدن الآثارية، بموازاة تنوع وتعدد العلماء والمعاهد والمراكز المتخصصة بالآثار، إلى تقدير وإقرار العلماء الغربيين بقدراتهم وإمكاناتهم، وكذا جعلهم يقفون معجبين بحضارة الشرق حيث تأكّد لديهم أنّ الحضارة في الشرق مُتَوَارَثة وليست فجائية أو عرضية أو هامشية.

وفعلياً، فقد أسهم ظهور نوع من الوعي لدى المجتمع العربي وفي الشرق عموماً، في نبوغ علماء معاصرين من العرب والمسلمين عامة، درسوا في الغرب وفي جامعاته ومعاهده وأنتجوا بحوثاً مشتركة مع علماء غربيين في الحضارة والثقافة الشرقية، ما خفّف من حدّة التوتر عند الغربيين.

١٨

قدم البحاثة وعلماء الآثار إلى المنطقة، والذين اكتشفوا حواضر ومناطق أثرية مهمة في الشرق تعود إلى ما قبل الإسلام، كرحّالة. وأتى بعضهم مع فرق التنقيب الآثارية التي قامت بالمسح الآثاري في البلاد العربية وتركيا وإيران، واكتشف هؤلاء عدداً كبيراً من المدن والمستوطنات والطرق التجارية وممرّات الأنهار القديمة. وسجّلوا جميع ما عثروا عليه..

وترجموا كل ذلك وقدّموه للباحثين والدارسين، لدرجة أنّه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانوا هم وحدهم في الساحة العلمية الآثارية لا ينافسهم أحد. وفي القرن العشرين أصبح ما كتبوه وخلّفوه مصدراً رئيساً لكلّ مَن أتى بعدهم. وأصبح الفضل يعود لهم في اكتشاف المدن التاريخية والآثارية في بلاد الشرق. كما كان لهم الفضل الكبير في فكّ رموز اللغات القديمة.

 

 

Email