المَيّة بِركة جذبت «اليمامحة» قـروناً على ارتفاع 384 متراً

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

نذهب عميقاً في دروب الخير والوفاء للوطن وإنسانه.. نتجول في ربوع البلاد بحثاً عن منابع التميز، عن إمارات الرضا والسعادة، في عيون الأطفال والكهول.. نلتمس مكنونات هذا الشعب الكريم، في قراه البعيدة وبواديه وضواحيه، حيث النقاء والأصالة، نقف على آثار الماضي ونمط العيش الجديد، لنشهد كيف حدث ويحدث التحول التاريخي العظيم من حياة البساطة إلى حياة الرفاه والمعاصرة، دون خسران للهوية الغالية. «البيان» في هذه السلسلة تجالس الناس، تستعرض طواياهم الجميلة، تقاسمهم الماء والخبز والذكريات.

أخذتنا «دروب الإمارات» إلى رؤوس جبال الفجيرة، قرية المَية العتيقة، المهجورة نسبياً، والتي تقع على حدود كل من رأس الخيمة وسلطنة عمان، على مسافة 12 كيلو متراً تقريباً شمال شرقي الطويين، حيث تتربع على ارتفاع 384 متراً فوق سطح البحر. كان الطريق إليها رغم تمهيده بالإسفلت خطراً لضيقه وكثرة منعرجاته الحادة مع شدة انحداره أحياناً، ورغم وجود غيوم يومئذ، منحت الطقس والنفس بهجة ومسرة، إلا أننا ولحسن الحظ سبقنا هطول الأمطار هناك بيومين فقط، حيث نزلت بقوة وراءنا يوم الخميس، فامتلأت تلك الوديان التي كنا نمرّ صعداً بجانبها أو تلك التي كنا نطل فنراها كخطوط الخرائط من علٍ.

قالوا إن السيول العارمة التي تغمر الطرق من شأنها التسبب في انزلاق إطارات السيارات وانحرافها عن مسارها الضيق نحو الهاوية السحيقة.

تجربة مثيرة على أية حال، ولكن ذبائح مضيفنا هذه المرة، محمد علي سعيد اليماحي «بوسعيد» كانت تنتظرنا في الأعالي، بين بيوت الطين المخلوط بالحصى، الصامدة حيناً من الدهر، ولكننا لم نتوقع أن تكون الحمير المحملة بالحطب وقطعان «الدبش» وحتى الحنيش المرقط في استقبالنا أيضاً .

يا هلا، مرحب الساع..نزلنا في «السَبلة» على أية حال وهي عريشة من جريد النخل، مضيفنا دعا لاستقبالنا عدداً من أبناء المية: محمد راشد محمد اليماحي «بوراشد»، وهو من أبناء جيله كما يبدو، وعبد الله محمد علي سعيد اليماحي«ابنه» وعبد الله محمد راشد اليماحي، وسعيد علي راشد اليماحي وعبدالله راشد محمد اليماحي وغيرهم.

شاهد الفيديو على الرابط التالي: قرية المَيّة في الفجيرة.. الزراعة بين قمم الجبال

قطع أثرية

إلى جواره كانت تصطف أدوات فولكلورية تستلفت الأنظار، رأينا باباً من خشب سدر قديم، عمره قرون كما يقولون، وثمة حجارة ملح صلبة تزن كيلوغرامين تقريباً وكتلاً من الجبن وتمراً أسود، وكل ذلك في صندوق يعود إلى عقود الستينيات والسبعينيات، يحتفظ بوسعيد بهذه الأشياء الأثيرة إلى نفسه بجانب السعن والبرمة وعدد من الجرار الطينية والقرع اعتزازاً وشغفاً بمكونات الهوية والماضي الجميل الذي يحمل عبق الآباء والأمهات وريعان الصبا.

مغزى الاسم

قال بوسعيد: اسم المية يعود إلى بركة أو حوض طبيعي تشكله صخور جبلية ويخزن المياه المتدفقة نحوه من القمم الشماء، ويحتفظ حوض المية هذا بمخزونه العذب طوال العام، ويبلغ عمقه عشرة أمتار، وله ثلاث عيون تنبع بجانب سيول الجبل، وكنا نستقي منه من الشتاء إلى الشتاء المقبل، دون الحاجة إلى الهبوط من أعالي الجبل نحو الطويين. خاصة وأن عدد السكان لم يكن كبيراً، بل لم تتجاوز البيوت هنا الثلاثين بيتاً، انتقل أهلها جميعاً، عام 1973م إلى شعبية بناها لهم زايد الخير في الطويين القريبة.

وعن نشاطهم الاقتصادي يقول بوسعيد: الزراعة وتربية الغنام وجني العسل والحطب من أعالي الجبل، وكانت البيوت تبنى بالحجارة والطين المخلوط بالقش لتقوية تماسكه وصموده تحت وابل الأمطار التي كانت غزيرة يومئذ، وبالنسبة للعلاج فقد كان يعتمد على الوسم بالحديد الحامي «الكي» بجانب استعمال الأعشاب مثل الحرمل والشكاع والجعدة والعنزرون والسفرجل.

وعوب المية كانت تخصص لزراعة حبوب الذرة الرفيعة والقمح والشعير، وأما النخيل والخضراوات الموسمية فكانت تزرع أسفل الجبل في السهول المطلة على وادي خب الذي يقع شرق الطويين، وهو وادٍ كبير وماؤه وفير، كما أكثر دفئاً في الشتاء، ولذلك يرتحل الناس إليه في الشتاء بجانب فترة القيظ الصيفية، حيث يحصدون الرطب من البساتين العامرة.

الزمان تغير

يتدخل محمد راشد محمد اليماحي «بوراشد» ليقول: قديماً الحياة كانت مختلفة، جزى الله الشيوخ عنا خيراً، كنا نعيش ظروفاً صعبة، وقد نسكن في غرفة واحدة كلنا، ولا توجد خدمات تعليم ولا صحة ولا أمن، ومن يريد أن يتعلم القرآن فإنه يسافر إلى دبا الحصن ليلتحق بشيخ بن تميم يتلقى منه دروساً في تحفيظ القرآن تحت ظل غافة.

الزواج يستحقه من بلغ سن ثمانية عشر عاماً، إذا كان مقتدراً بمقاييس زمان، وبنت عمه أولى، بل تعتبر بنت عمه حقاً له يقاتل من أجل ذلك وقد يصل حد ضرب المِعْرس الغريب، وفي ظن بو راشد أن النساء كن قلة ولذلك فالــطلب عليهن مرتفع، كن عملة نادرة.

ويضيف محمد راشد اليماحي «بو راشد» أنه لا يزال يحن إلى هذه القرية «المية» التي هجرها كبقية السكان إلى الطويين، وأنه ككثيرين غيره يحيي بناء بيته القديم بالطريقة القديمة ويزرع في الوعب مستعملاً آلة الهيس للحرث.

صخرة ملهمة

في رحاب «المية» القديمة شهدنا آثار الديار الدارسة، وكيف قام الجيل الجديد بإحيائها ليس بإعادة بناء بيوت أهلهم القديمة فقط، وإنما بالانتقال إليها في بعض المواسم للاستجمام والالتحام بالطبيعة العذراء ولبعث ذكرى الأسلاف والتشبث بالأرض مهما تكن قاسية، وأما كبار السن مثل «بوراشد وبوسعيد» فإن العودة إلى مراتع الصبا يعني الكثير، إنها حياة كاملة بأفراحها وأتراحها وأحداثها التي لا تنسى، يقول بوراشد عن صخرة عالية لا تزال باقية في ساحة تتوسط البيوت: كنا فروخاً «يعني صبياناً»، نعتلي هذه الصخرة ونقفز منها لنرى أبعدنا وثباً، وكانت تلك من أهم رياضاتنا وملاهينا المحببة فتعلمنا منها المنافسة والصبر والعزيمة.

وهنا يردد بوراشد شلة تقول أبياتها:

يوم الصغر كنا ولايف

واليوم فرقنا الزمان

ليت الدهر يرجع أحده

بنعيش في طيب الأماني

ثم نلتفت إلى بوسعيد لنسأله عن غرفة صغيرة جداً مبنية من الحصى «الحجارة» يقول: هذا المرفّع الذي هو مخزن يبنى مرتفعاً لحفظه من السيول والرطوبة.

سألنا عن عدد الأودية الرئيسة التي كانت تنحدر من الجبال، قالوا: وادي المية ووادي الراسين وفي الأدنى تجد وادي خب. وغير ذلك كثير.

الأم الشهيدة

عند منحنى من شعاب المية وبين جبالها الشماء يروي لنا عبد الله محمد علي سعيد قصد لافتة، يقول إن جدته خرجت يوماً في الزمان السالف لتجلب الماء من فوق فزلقت قدمها وطاحت من ارتفاع عالٍ نحو هاوية سحيقة وقضت نحبها، فدفنت في المكان ذاته أسفل الجبل، ولا يزال ذلك المكان يبعث في النفس الشجن والحسرة، والتقدير لروح العزيمة وما تحملته المرأة من مشاق لأجل الحياة.

وادي خب

الهبوط إلى وادي خب له شأن آخر من السحر والمغامرة، لما تتميز به المنحدرات من حدة ووعورة لأن الطريق إلى هناك حجري ومحفوف بالجبال، ولكن مشهد الوادي كان بديعاً في الحقيقة، تحفه الأشجار ويجد النخيل هناك بيئة صالحة لازدهاره.

وإلى جوار مزرعة محمد علي اليماحي التي تعج بالطوي والأفلاج والنباتات النضرة، تمتد مقبرة ضخمة مد البصر، قالوا إنها تضم موتى حروب البرتغال التي جرت هنا لسنوات.

كرم الضيافة

مشهد خروج «صياني» الغداء، عيش ولحم، من بيت بوسعيد إلى مجلسه في المية القديمة، يحملها على الرأس بوراشد وأبناء بوسعيد كان منظراً مهيباً جميلاً، ويدل على التواضع واحترام النعمة واتباع سنع إكرام الضيوف في مجتمع الإمارات خاصة في المنطقة الشرقية من الإمارات.

بوسعيد ذبح لنا بهيمة «أعزكم الله» من بين عشرات الأغنام.

التي يربيها ويشرف عليها بنفسه فوق هذا الجبل العالي بجانب طيور الحمام والديك الرومي والدجاج. ولقد كانت تصرفات البهائم والدواجن التي يربيها تدل على علاقة خاصة بين بوسعيد وحلاله، بارك الله فيه. فهو يعرفها واحدة واحدة وتعرفه في المقابل، كما يصدر لها أصواتاً تفهم مغزاها فتستجيب له، حين يناديها أو يطعمها أو يدخلها في حظائرها.

فخ الثعالب

خارج بيت بوسعيد كان يقبع فخ حديدي، عبارة عن قفص من شبك الحديد، توضع داخله قطعة لحم تغري الثعلب فيدخل، وحينئذ ينغلق الباب وراءه فيجد نفسه داخل القفص الحديدي وسوف لن يجدي العواء وقتـــها. قال: الثـــعالب عذبتنا، فهي تفد إلينا من أعالي الجبال بحثاً عن طعام، فتعتدي على الطيور الداجنة وغرها، ولذلك اهتدينا إلى هذا الفخ الفعال الذي حــقق وظيفته مرات عديدة.

بورتريه

محمد علي سعيد اليماحي «بوسعيد»، رجل هادئ الطبع، متواضع محب للضيوف، من مواليد 1949م في قرية المية تفتقت بواكير حياته فترعرع وشب عن الطوق بين تلك القمم الشماء، عركته الحياة مبكراً، ولذلك اغترب في شبابه بحثاً عن الرزق في الكويت خلال الخمسينيات ثم إلى السعودية، وحينما ظهر النفط في الإمارات وقام الاتحاد استقر في وطنه وعمل حارساً في إحدى مدارس الدولة منذ منتصف السبعينيات حتى 2003م سنة تقاعده. تزوج بوراشد مرتين ورزقه الله اثني عشر بين أولاد وبنات.

ومنذ تقاعده ظل يقضي جل وقت في قريته القديمة المية، بين الأغنام.

والطيور ونباتات المزرعة، ومن أبرز ما حققه في حياته - بعد تربية أبنائه خير تربية - بستانه الزاهي المخصص لزراعة النخيل على ضفاف وادي خب.

Email