رخص

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

عانت صفاء في طفولتها من قهر والدها الذي عبد المال وأهملها هي وأمها، وكان كلما رآها ينهرها ثم يقول لها: إنه ليوم منحوس عندما ولدتِ، فكانت صفاء تسمع ولا تفهم من الكلام شيئاً، لكنها كانت ترتجف خوفاً من أسلوب الحديث المليء بالغضب والحقد.

مرت السنون وصفاء تكبر أمام أبيها الذي كان يمقتها أشد المقت، والسبب وراء هذه الأفعال، إنه في اليوم الذي ولدت فيه صفاء خسر والدها أمواله على طاولة القمار، فكان هذا اليوم بالنسبة له اليوم الذي حل به الخراب.

كان الأب الماقت يكسب ما يكسبه من المال من خلال أعماله الحرة التي كانت تزيده طمعاً بينما كانت البنت المسكينة تكبر وبدأت تعي أسباباً لم تكن تعرفها في طفولتها، لكنها تبقى قليلة الحيلة تسلم أمرها لربها الرحيم. كانت صفاء باسمة الثغر دائماً رغم معاناتها من أبيها كانت تحب المرح، شغوفة بكل شيء وكانت أمها تسعى دائماً لتلقين صفاء فنون الطبخ والتنظيف وتولي مسؤولية المنزل ومن المؤسف أنها أيضاً حرمت صفاء من التعليم بعد أن حفظت بعض سور من القرآن الكريم.

وفي أحد الأيام وأثناء خروج صفاء برفقة جدتها إلى السوق لشراء مستلزمات المنزل كانت صفاء تمشي مطرقة وكأنها كانت تحسب خطوات مشيها حتى تقدمت عن جدتها العجوز بمسافة طويلة بينما جدتها كانت تمشي ببطء، وعندما حاولت الجدة أن تنادي عليها تنبهت صفاء أخيراً أنها تقدمت عن جدتها فتوقفت عن المشي بالقرب من إحدى الأشجار ذات الغصون المائلة التي يسهل على القصير لمسها، فولت صفاء رأسها نحو جدتها وفجأة جرحها الغصن المائل في عينها اليسرى، وأخذت تنزف دماً ممزوجاً بدموع البكاء من شدة الألم، وعندما نقلوها إلى المستشفى أجريت لها عملية جراحية في عينها، لكن العملية لم تنجح، ثم أجريت لها الفحوصات تلو الفحوصات لكن بلا جدوى فقدت صفاء النور في عينها اليسرى ومن هنا بدأت تدرك عجزها عن القيام بكل ما هو جديد.

فقدت الأمل في كل شيء وتلاشت من ذهنها صور الجمال إنها الآن تبصر بعين واحدة بخلاف جميع الناس.

صارت تحسد الآخرين على نعمة البصر فكانت النتيجة أن هجرتها صديقاتها من أسلوبها الذي كان يملؤه التشفي والحقد على الآخرين، بينما والدها أخذ يلين قلبه نحوها وأخذ يعتني بها حتى تحولت معاناتها النفسية إلى معاناة جسدية فأصابتها حمى كادت أن تقضي عليها، لكن وفي آخر أيام مكوث المرض في جسدها انطفأ النور في عينها اليمنى أيضاً، وفقدت صفاء البصر كلياً وبدأت حلقات صراعها مع العمى الموحش، إنها الآن تغامر بفكرها وتتسلق الجبال بخيالها الواسع الحالك، فكانت تبتسم أحياناً دون أي سبب يبدو أنها ابتسامة البقاء، إنها ابتسامة الشعور بفراغ شاسع في خضم الظلمات التي أصبحت تعايشها الآن.

مرت الأيام واعتادت صفاء أن تعايش تلك الظلمات، إنها بدأت ترسم الوجوه التي قابلتها عندما كانت مبصرة، والآن أخذت تلك الوجوه تزحف إلى ظلماتها إنها الذكرى، ذكرى البسمة والرجاء، ذكرى الأيام الجميلة التي قضتها بين أنوار الحياة.

صفاء تتذكر وجه والدها الغاضب وأمها الباسمة الساذجة وجدتها المازحة وصديقاتها يتغنين خلف ثوب العيد.

ومر الزمن وبلغت صفاء الخامسة والعشرين وفي تلك الأيام جثمت الخسائر على صدر والدها في إحدى صفقاته الفاشلة، فبدأ الأب طريقة يعود من خلالها لمجده السابق فثبت تفكيره على ابنته الكفيفة التي جاوزت العشرين من عمرها فعرض عليها الزواج من تاجر عجوز جاوز السبعين لكن صفاء بدورها رفضت الزواج، لكن الأب الشيطاني صمم على زواجها من العجوز فباع ابنته الكفيفة من أجل المال.

 أدركت صفاء أنها أصبحت سلعة تباع على الأغنياء من أجل إرضاء والدها الذي كفر بحقها في الحياة. أرادت صفاء أن ترحل بعيداً رغم بعدها الذي لا يراه أو يشعر به أحد، إنها ولدت لتكون ما تريد هي، أن تكون، فكانت الوحيدة خلف قضبان الظلام العميق الغائر.

* قاص إماراتي

Email