«22 يوليو».. تحفة غرينغراس السينمائية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحفة سينمائية جديدة يطل بها المخرج البريطاني بول غرينغراس عبر شبكة «نتفليكس»، لا يكاد يحيد فيها عن خطه المعروف بتحويل القصص الإخبارية إلى روايات ناطقة، تجمع بين الحقيقة وشيء من الخيال، فهو مخرج وسيناريست وصحافي سابق، صاحب فيلم «المنطقة الخضراء» (2010)، الذي يعد من أهم الأعمال التي كشفت نية الاحتلال الأميركي للعراق، وصاحب «الكابتن فيليبس» (2013)، الذي يروي قصة القبطان الأميركي الذي وقع أسير قراصنة الصومال، وعاش أياماً طويلة في عمق البحار في محاولة لإنقاذ سفينته، وهو صاحب حكاية «يونايتد 93»، التي تخبرنا شيئاً عن أحداث 11 سبتمبر.

وها هو يعود مجدداً في «22 يوليو» ليروي أحداث المجزرة التي صدمت النرويج في 2011 بعدما راح ضحيتها أكثر من 77 شاباً وفتاة قتلوا على يد المتطرف اليميني أندرس بريفيك الذي وقف أمام الكاميرات وقضاة المحكمة لتبرير فعلته بسعيه لإنقاذ أوروبا وبلاده من طوفان المهاجرين.

ومن المصادفة أن حكاية المجزرة التي مضى عليها نحو 7 أعوام وانتهت بالحكم على فاعلها بالسجن الانفرادي، أطلت هذا العام بفيلم آخر حمل اسم «أوتويا 22 يوليو» للمخرج النرويجي إريك بوبا، الذي نسبها إلى اسم الجزيرة التي شهدت الأحداث الدامية.

ولكن الفرق بين عملي بوبا والبريطاني غراينغراس أن عمل الأخير جاء أعمق وأشمل، وفيه سرد جميل للوقائع، والأجمل أنه تضمن مواجهة مباشرة بين الجلاد والضحية، في مشهد لا يثير القلق بقدر ما يثير المشاعر، والمتمثل في حديث الشاب «فيليار» أحد أبرز الضحايا، الذي يؤكد فيه أنه ورغم جراحه سيمضي ليرى النور ويفتح باب الأمل، في وقت اختار السفاح أندرس بريفيك السجن ليكون ملاذه الأخير.

تفجيرات

وعلى خلاف بوبا، آثر غراينغراس أن يبدأ فيلمه من التفجيرات التي شهدتها العاصمة أوسلو، التي شكلت بداية المجزرة، ومن ثم انتقال المتطرف آندريس المتنكر بزي رجل الشرطة نحو جزيرة «أوتويا»، حيث استكمل فيها فعلته، لنعيش على مدار نحو 25 دقيقة أحداثاً مليئة بالعنف والقتل ومحاولات فرار الضحايا من عملية القتل وسط أجواء من الذعر والخوف، من دون أن يشير لنا المخرج إلى أسباب قيام آندريس بقتل المراهقين بدم بارد وأعصاب هادئة، ليفاجئنا بعد ذلك بالسبب عند إعلان آندريس الحرب لاستعادة بلاده، ويعلن رغبته في تخليص أوروبا من المهاجرين، مطالباً بإيقاف الهجرة وفرض حظر عليها.

ورغم استعراضه لبعض تفاصيل المجزرة، نجد أن غراينغراس لا يركز كثيراً على الأحداث الدامية، بقدر تركيزه على ما بعدها، واستعراضه لما يحدث بعد عملية اعتقال اليميني المتطرف، حيث يتنقل في كاميراته بين غرف المستشفيات ومراكز الإيواء، والسجن وقاعات التحقيق والمحكمة، وينقل لنا تفاصيل ما يجري، وملامح الخوف التي تعتري الوجوه، ليستكمل ذلك بالانتقال بين جلسات العلاج التي يخضع لها «فيليار» والتعرف إلى آراء المجتمع بطريقة درامية جميلة، في محاولة منه لإظهار «الإنسانية» التي يتمتع بها المجتمع النرويجي.

إثارة العقل

في فيلمه، يحاول غراينغراس أن يثير العقل قبل الأعصاب، وأن يطرح على الطاولة العديد من الأفكار المتعلقة بقضية المهاجرين وآثارها في المجتمعات الأوروبية بشكل عام، لذا نجده في بداية الفيلم يقدم رأي «فيليار» المؤيّد لوجود المهاجرين على أرض بلاده، وما يمكن لذلك أن يحدثه من تداخل في الثقافات والفائدة التي يمكن لها أن تعود على المجتمع، في حين نجد في منتصف الفيلم، رأي آندريس المخالف لهذا التوجه، لا سيما وأنه يصف نفسه بـ«النازي الجديد»، ويؤكد ذلك باستخدامه تحية هتلر النازية وسط قاعة المحكمة.

فيلم عميق

لقد نجح غراينغراس في أن يقدم لنا فيلماً عميقاً، متوازناً في السرد بين لحظات اليأس التام التي نقرأها لوهلة في عيون «فيليار» وشقيقه، وبين لحظات الأمل التي نعيشها مع فيليار خلال رحلة علاجه، ومتوازناً في نقله للآثار النفسية والجسدية التي يعاني منها الضحايا والأهالي، وبين النرجسية الواضحة التي تمتع بها آندريس، التي جاءت واضحة خلال عملية دفاعه عن نفسه وتخطيطه للإفلات من فعلته، وإصراره على آرائه.

Email