يجسّدُ "نظرية كل شيء": الحب والتحليق ورأس البطاطا!

"دبي السينمائي" يفتتح دورته بفيلم عن حياة الفيزيائي المشلول ستيفن هوبكنز

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمكن الجزم أن غالب الجمهور الذي احتشد في القاعة الفاخرة "أرينا" لمشاهدة عرض فيلم " نظرية كل شيء" الذي افتتح الدورة الحادية عشر لـ"مهرجان دبي السينمائي" لا يعرف تماما الفارق بين نظرية "الكوانتوم" ونظرية "النسبية".

وحتى لو قرب جيمس مارش(المخرج) وانتوني مكارتن(السيناريو) الفكرة بالقول بأن فهم الفيزياء الكونية عملية متطورة، اذ أن "الطبق الذي يحتوي على حبة بطاطا ينظر اليه بطريقة مختلفة تماما اذا ما اضيفت البازلاء اليه"، فإنهما، غالب الظن، لا يشغلهما تلقين الجمهور درسا في الفيزياء الفلكية.

الأمل والتحدي
انه فيلم عن الحب، وعن الامل والتحدي، في تجسيده لسيرة عالم الفيزياء الذي يزال حيا الى وقتنا ستيفن هوكينغ(قام بالدور بقدرة كبيرة ايدي ريد مايني)، لكن أيضا عن حبيبته ثم زوجة وأم أولاده الثلاثة جين وايلد(فيليسيتي جونس) التي كانت أول من آمن أن ذلك الطالب النحيل ذي النظارة الكبيرة في "كامبريدج" لديه الكثير لكي يقدمه لهذه البشرية في طريق أطول بكثير من السنتين اللتين "وعد" بأنه سيتوفى في خاتمتهما، بعد تشخيص مرضه لأول مرة. في غرفته الجامعية الصغيرة احتضنته وقالت:" اذا كانت سنتين سنعيشهما سويا كما نريد!"، لكنها أعوام امتدت لتشمل: عجلة متحركة ثم كهربائية، ثم عملية اتلاف الحنجرة والاستعاضة عنها بالكلام برمش العين، ثم مرحلة الجهاز قارئ الحروف الذي يلقن الكلمات بلمسة اصبع، ويصدر صوتا يشبه صوت الرجل الآلي.

رحلة طويلة خاضها الثنائي الذي لم يتوقف عن حب بعضه حتى النهاية:" انظري الى ماذا فعلنا"، يقول للزوجة التي أضحت "سابقة" الآن، في المشهد الختامي، بينما ينظران الى الأبناء سعيدين في حديقة قصر الملكة البريطانية، حيث كرم ستيفن ونال لقب "فارس"، رفض تسلمه:" ستظل اشتراكيا الى الأبد" تقول له جين.

بعيدا عن الكليشيه
ورغم أنه ليس الفيلم السيري الأول عن  هوكينغ، اذ سبق لـ"بي بي سي" انتاج فيلم درامي في 2004 بالعنوان ذاته، كذلك ظهرت الكثير من الافلام التسجيلية عن حياته وكتابه "التاريخ الموجز للزمن" ونظرياته عن "الثقوب السوداء" و"المعادلة الواحدة التي يجب أن تختصر كل شيء ببساطة".. الا أن فيلم مارش (نعرف له "رحلة موت" و"راقص الظل" وأفلام أخرى سابقة) قدم، بجدارة، الفيلم الأفضل عن حياة الفيزيائي الأشهر في عصرنا الحديث، وأحد أشهر الشخصيات التي تذكر حين تذكر الارادة البشرية لرجل قضى جل حياته غير قادر على المشي ولا الكلام ولا الحركة ويعاني مشاكل في التنفس.

 

اربعة تقنيات رئيسية في الفيلم استخدمها المخرج من أجل خدمة موضوعه يمكن تلخيصها على الشكل الآتي:

أولا: هذا ليس فيلم آخر عن "البيوتيفل مايند" (فيلم روتن توماتوس عن العالم الحائز على نويل جون ناش بأداء راسل كرو)، اذ أننا لا نغرق أبدا في "كليشيهات" المشاهد التي تصور حياة العلماء في العادة على الشاشة، كونهم يحبون العزلة ولديهم وساوس وارتيابات وآراء حادة. ان حس الفكاهة في شخصية هوكينغ الذي حرص صناع العمل على ابرازه أضفى الى الفيلم أحاسيس دافئة، فالرجل لا يستوقف عن السخرية من ذاته ومن الآخرين، في أقص مواقف التراجيدية. كما أنه يبتسم، دوما كطفل "لديه فكرة" يريد اثباتها ببراءة وتصميم.

ثانيا: هذا ليس فيلم عن "ثالوث الغرام" (الزوج والزوجة والعشيق)، فرغم وجود شخصية ثالثة في دائرة الزوجين وهو الصديق جوناثان (شارلي كوكس) تلجأ اليه الزوجة في لحظة يأس وطلب معونة، ثم تنبت بينهما مشاعر حب تتحول بعد انفصال الزوجين الى علاقة زوجية، فإن مسار القصة لا ينذرنا منذ البداية بإنه سيتورط في هذا "الفخ"، فالمشاعر تتطور بمنطقية وتظل محكومة الى النهاية بالوفاء والحب الصادق. لم تتخل جين عن زوجها المشلول تماما، لكنها انتظرت أن يحررها ذات لحظة من سطوة حبها له، لكي تبحث عن خيار آخر، فيما جوناثان نفسه يكن مشاعر من المودة والتقدير لعالم الفيزياء رغم أنه ينتمي الى الثقافة الكنسية التي تلجأ الى اللاهوت في تفسير نظريات الكون.

ثالثا: هذا ليس فيلم عن الصراع بين العلم والدين، كما أنه لا يطمح الى "مصالحة" بينهما، لكنه يطرح الاسئلة ولا يجزم، يترك المجال لابداء الآراء من دون سخرية لاذعة، والأهم انه لا يقدم شخصيات تحاكم بعضها بناء على اختلافاتها الفكرية، بل هي حاضنة لانسانية بعضها للبعض الآخر.

رابعا: هذا ليس فيلم عن "سوبرمان"، اذ أن تلقائية سرد الأحداث، من دون تكلف، في تناول المراحل المختلفة من حياة عالم الفيزياء، تجعل الشخصية تتسرب الى مكامن نفسية عميقة في نفس المشاهد، كما الضعف والتحدي، والحب والكبرياء، والخوف والحياة والموت.. لكن، ورغم اختلاف الوظيفة الفكرية، يظل المشاهد شاعرا بأن هذا العالم يشبهه، أو يشبه أشياء في دواخله، وليس رجلا خارقا لا يمكن التماهي مع ارداته في مواجهة الاعاقة.

في احدى مشاهد الفيلم، حيث العالم البريطاني على منصة تكريم في أميركا، يتخيل للحظات أنه قادر على مغادرة الكرسي، يقوم من مقعده الذي سجنه لسنوات، تستوي رقبته التي لواها الشلل، تعود قدماه الى شكلهما الطبيعي غير المعوج، يمشي كأنه طائر يستعد للتحليق.. انها لحظة يحلم بها كل قعيد.. لكنه بدل أن يطير، ها هو ينحني من اجل التقاط قلم وقع من على طاولة احدى الطالبات المشاركات في مؤتمر التكريم، ليرجعه لها. مشهد سبقه سؤال أحد الحضور له:" ماهي فلسفتك لفهم الحياة". انه العلم، اذا، ولا شيء غيره، ما يجعلنا قادرين على التحليق!

 

Email