بقدر ما تختلف قضايا المرأة، وتتنوع من بلد إلى آخر؛ فإنها تكاد تكون هي نفسها في معظم الأحيان، ويبقى العنف الموجه ضد النساء قاسما مشتركا ملموسا في الثقافات والمجتمعات المختلفة، يتخطى حدود الثروة والانتماءات العرقية والثقافية وكذلك العادات والتقاليد وأحيانا الدين.
وقد شهدت دول كثيرة في أنحاء العالم حملات تتسم بمطالبات عدة تستنهض الهمم ضد هذا العنف قادتها أعداد غفيرة من النساء وحققن من خلالها تغيرات هائلة في القوانين والسياسات والممارسات، وتوج هذا بدعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن يكون 52 نوفمبر من كل عام يوما عالميا لمناهضة العنف ضد المرأة.وفي هذا الإطار يصبح الفن قادر على إحداث تغيير من دون اللجوء إلى العنف، فالأفلام التي تم اختيارها في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة والتي تتخذ من العنف ضد المرأة موضوعا لها سواء كان عنفا جسديا أو نفسيا أو جنسيا تتميز بنظرة أكثر عمقا، وتتمتع بقدر كبير من الحرية عما هو ممكن بالنسبة للصور المجازية المطبوعة في الأذهان، والتي تكون عرضة لقواعد اجتماعية وثقافية صارمة.
إن تلك الأفلام تطرح أسئلة، لا تقدم إجابات، تذهل وتدهش وتقلق لأنها تجسيد واقعا مريرا تعيشه نسبة كبيرة من النساء في مصر، والمنطقة العربية ودول عديدة من العالم، حيث تشير الإحصاءات إلى تعرض واحدة بين كل 3 نساء على مستوى العالم للعنف الجسدي، وأن 30% من النساء الأميركيات يتعرضن للعنف، أما في مصر فقد أظهرت دراسة حديثة أن 83% من المصريات يتعرضن للتحرش الجنسي و90% من نساء الصعيد يتعرضن لجميع أشكال العنف بدءا من العنف اللفظي وصولا للجسدي.
وفي الإمارات تظهر الإحصاءات أيضا أن نسبة 21% من حالات الطلاق التي تصل المشاكل فيها إلى المحاكم تكون بسبب العنف الأسري، حسب ما أكده الشيخ عبد السلام درويش رئيس التوجيه والإصلاح الأسري بدائرة العدل بدبي.
وبالتالي تتعدد وتتنوع الأسئلة، ما هو حجم مشكلة العنف ضد المرأة وهل الأوضاع الحقوقية والقانونية للمرأة في تحسن، أم في تراجع؟ وهل يحتاج الأمر كما ألمح المشاركون في اللقاء الذي أعقب عروض الأفلام على هامش فعاليات مهرجان الإسماعيلية إلى ضغوط خارجية؟
وضرورة الاستفادة من تجارب منظمات دولية في هذا المجال؟، ثم هل هناك من تشريعات يُفترض أن تضاف وتشريعات أخرى يُفترض أن تُعدل وفي أي اتجاه؟، وما هو دور الحكومات ومنظمات المجتمع المدني في حل هذه المشكلة الإنسانية والتنموية في الوقت نفسه؟ وقبل كل هذا ما هي جذور المشكلة وأسبابها؟ ومن يتحمل المسؤولية الأولى عن العنف والتمييز ضد المرأة بشكل عام؟.
إن هذه الأفلام تضع أمامنا حقيقة دامغة وهي أن ثقافة اللاعنف لا تقوم بالمصادفة، بل ينبغي أن تجتمع أيادي كثيرة لتبنيها حتى تنتهي، هذا ما تراه الدكتورة عزة كامل المشرفة على برنامج أفلام العنف ضد المرأة الذي يتضمن 21 فيلما تطرح قضايا المرأة بشكل مختلف من بينها 9 أفلام مصرية.
وفي الصفحات التالية يرصد (الحواس الخمس) هذه المشكلة ويسلط الضوء عليها من خلال استعراضه موضوعات تلك الأفلام ولقاءات مع نقاد السينما والمتخصصين في هذا المجال.
سقطة مجتمعية أمام كاميرات السينما
من إنتاج مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف، قدمت فعالية (العنف ضد المرأة) على هامش الدورة الرابعة عشرة لمهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة تسعة أعمال تراوحت مدتها بين الدقيقة و9 دقائق، وتناولت في رسائل موجزة هذه المشكلة عارضة لها ومنبهة لخطورتها.
حيث دارت أحداث فيلم لمياء للمخرج أحمد منيب حول قصة شابة فقدت حياتها نتيجة للضرب بلوح خشبي، وقد تم تصويره قبل صدور حكم محكمة الجنايات التي وجهت للزوج تهمة »ضرب أفضى إلى موت«، أما فيلما منال وأم خالد للمخرجة نيرهان سامي، وفيلم أم للمخرجة ندى زتونة، وولد وبنت للمخرجة راندا أبو دهب.
ومن دقيقة واحدة ومش حاكية للمخرجة يارا ربيع، وملك ـ هانم للمخرج محمد فتح الله، قدموا لقطات واقعية وصور سريعة عبرت عن التميز والعنف النفسي ضد النساء، وما تتعرض له الزوجة داخل الأسرة ودورها كحامٍ للصور النمطية المجتمعية، في حين ركز فيلم »بعد إيه« على محاولة الزوج بعد قسوة بطول الحياة الزوجية في أن يحصل على صك الغفران من زوجته وهي على فراش الموت.
وجاءت ثلاثة أفلام أخرى من دول مختلفة أكثر قوة وتأثيرا في المشاهدين، فقد تعرض الفيلم الفرنسي خيط الحكايةـ 41 دقيقةـ للمخرجة فاطمة زهرة زموم لمشاكل المهاجرين إلى فرنسا من أصل مغربي، حيث يقوم الزوج بالاعتياد الذهاب إلى العمل وإغلاق الباب بالمفتاح على الزوجة السجينة التي تعامل بقسوة وإهمال، ما يجعلها تتحايل لإيجاد وسيلة لتتواصل مع العالم.
وتصنع لها جارتها الفرنسية نسخة أخرى من مفتاح البيت دون علم الزوج الذي يعود ذات مرة إلى المنزل ليجده مهجورا من الزوجة وطفليه، أما الفيلم الجزائري قوليلي ـ 17 دقيقة ـ للمخرجة صبرينه دراوي، فيدفعنا إلى تأمل الحوار الذي يدور بين فتاتين ـ ربما هما فتاة واحدةـ قبل الذهاب إلى المدينة، حول رؤيتهما الخاصة للحياة فيما يتعلق بالحب والدين.
وبشكل عابه تكرار المعنى أحيانا استعرض الفيلم الهولندي بيوت كريستينا ـ 45 دقيقة للمخرجة سوزان ريس، مشاكل بلغارية تعيش في أمستردام، تنظف البيوت وتدخل كل يوم بيتا مختلفا، حتى تصبح أحلامها سجينة حوائط المنازل التي تعمل بها، ويبقى اتصالها مع الآخرين معتمدا بشكل أساسي عبر أوراق الملحوظات فقط.
أفلام عديدة مثل تلك وأخرى كثيرة ستأتي لاحقا تشبه قذف الحجارة في مياه راكدة فتحركها وأحيانا تجعلها هائجة بالأمواج، لكن هل يمكن لهذا التحرك أو الفوران أن يغير الحياة المستمرة على النمط نفسه، هذا ما يستطلعه (الحواس الخمس) بالكلمة والصورة في الوقفات التالية:
تفعيل المشكلة
ترى الدكتورة عزة كامل المتخصصة في هذا المجال، أن تفعيل المشكلة من خلال مهرجان سينمائي دولي هدفها فتح النقاش حولها سواء كان المبدع مع أو ضد هذا العنف، ليقع على عاتق الفنانين مستقبلا مهمة تقديمها برؤية إبداعية جميلة غير مسطحة أو تقريرية، لذلك قررنا أن نسلط الضوء عليها هذا العام لأن الفن يوصل الرسالة أسرع من الكلام أو أي وسيلة إعلامية أخرى.
ويصل إلي كل الشرائح وأعني أن جميع الشرائح تتعرض للعنف، ومن ثم فإن الأفلام التي نعرضها تدفع صناع السينما للتفاعل والتعاطي معها والوقوف على عناصر السلب أو الإيجاب فيها.
وتشير عزة كامل إلي أن العنف قضية تشمل الكون كله بلدان متخلفة أو متقدمة، وتقول: في بلادنا العربية هي واضحة تماما كالشمس رغم محاولة الغالبية إخفاءها، ومثلا نتيجة حملات مستمرة لمنظمات مدنية في مصر بدأت الدولة تتبنى هذه القضية، وتفعل برامج وتشجع المنظمات لمزيد من الوعي والثقافة عند المواطنين.
ومع ذلك لا يزال هناك عنف يوجه ضد النساء في مصر خصوصا في الأماكن الريفية والصعيد تحديدا ولا يتم الحديث عن هذه المشكلة من باب العرف والعيب، وبالتالي لابد من تناولها بشكل أشمل وأوسع ونعبر عنها في الإعلام المقروء والمسموع والمكتوب، وفي جميع الأعمال الفنية مثل المسلسلات أو الأفلام الروائية أو القصيرة وكذلك الكرتون.
مسؤولية العنف
وتؤكد عزة كامل أن المرأة التي تتلقى العنف هي ضحية لا يمكن تحميلها مسؤولية هذا العنف، والرجل سبب رئيسي في ذلك لأنه تربى على موروث ثقافي داخل المجتمع يقبل هذا العنف، ونحن ضد العنف عموما بجميع أشكاله سواء ضد الرجل أو المرأة، ونطالب النساء أن يقفوا ضده لأن العلاقة الزوجية شراكة في الأساس وليست حربا بين الرجل والمرأة.
والمفروض أن تكون مبنية على الحب والتواصل والجمال، والرجل الذي يتعامل بعنف مع زوجته يخسر آدميته ويخسر كذلك أن يكون داخل زوجته مشاعر رائعة كإنسانة، لأن البعض يتعامل معها كشيء جامد وفي هذه الحالة يحتاج الرجل إلى تأهيل نفسي وليس المرأة فقط.
وتسترسل عزة كامل في حديثها قائلة: العنف ضد المرأة موجود بنسب متفاوتة في كل المجتمعات، ولكن في الدول المتقدمة يختلف الأمر لوجود قوانين عندهم تجرم هذا العنف.
وتجعل المرأة تعرف حقوقها وتطالب بها إذا حدث تعدٍّ عليها، وأي عنف جسدي يتبعه عنف نفسي ووقعه أقوى لأن السب والشتيمة والتهديد بأخذ الأولاد أو بحرمانها من الخروج وأخذ فلوسها، مفردات تدفع إلى التوتر والاشتباك الذي لا يكون في صالح الرجل أو المرأة ويترك بصمات سيئة وسلبية على المجتمع.
التوعية والتثقيف
وتشرح عزة كامل موضوع العنف الجنسي في المجتمعات العربية بقولها: لا يجب أن نضع رؤوسنا في الرمال ونتغاضى عن هذه الظاهرة المتمثلة في الاغتصاب والتحرش الجنسي والدخلة البلدي (في قرى وصعيد مصر).
والزواج المبكر للقاصرات والعلاقة الزوجية المهترئة غير المبنية على أسس جنسية سليمة، كأن يطلب الزوج زوجته في أي وقت بدعوى أن هذا حقه، فالعلاقة مبنية على القبول في الشريعة، هذا بخلاف زنا المحارم .
وهي أمور موجودة في المنطقة العربية ولا يمكن تجاهلها، ولابد من مناقشتها وتقديم حلول لها والفن السينمائي من الوسائل السلسة التي يجب استخدامها للتنبيه والتحذير وطرح المشاكل للوصول إلى العلاج بجانب التوعية والتثقيف.
روح الهواية
وتعلق الناقدة السينمائية ماجدة موريس على الأعمال المعروضة بقولها: مجموعة الأفلام المصرية الأولى تختلف عن الأفلام الأجنبية الأخرى، وإن كان هناك ارتباط من حيث الأفكار بينها، لكن من الواضح أنها تنتمي لروح الهواية أكثر من الاحتراف، والقضية المطروحة (العنف ضد المرأة) هي العنوان الرئيسي لهذه الأعمال كلها، لأن إنتاجها يأتي تحت إشراف مركز النديم للتأهيل النفسي لضحايا العنف.
وهي ليست على مستوى فني عالٍ كما رأينا في الأفلام الثلاثة الأخيرة، لأن إمكانيات إنتاجها بسيطة لصناع غير محترفين ولكنهم حاولوا إيصال رسالة ونجحوا فيها، وعبرت عن الهدف المطلوب لرصد هذه الظاهرة وتشجيع صناع السينما (كتاب سيناريو وممثلين ومخرجين) إلى التعرض لها عبر أعمالهم المقبلة.
دعاية رديئة
ويرى الناقد السينمائي محمود علي أن العنف حقيقة موجودة، وإنما طريقة تنفيذ الأفلام سيئة ويواصل قائلا: لا يمكن اعتبار هذه الأعمال سوى دعاية للظاهرة أكثر منها أفلاما، وهي رديئة فنيا وفشلت في تعريف العنف الذي أراه ماثلا في ضرب الزوج لزوجته.
وهو أمر مرفوض شكلا ومضمونا، لكنني أنوه بأن هذه المؤسسات المدنية لا تستفيد في علاقتها بالاتحاد الأوربي أو المنظمات الأفريقية بخبراتهم في هذا المجال، وهذه المؤسسات للأسف تعيش على المساعدات لكنها لا تؤدي شيئا لعلاج هذه الظاهرة وتتاجر بقضية المرأة أكثر من كونها تطرحها وتبحث لها عن وسائل للعلاج.
الالتصاق بالواقع
أما الناقد السينمائي مجدي الطيب فعلق قائلا: أحيي عنوان هذه التظاهرة، وكانت الطموحات والآمال كبيرة لهذه الفعالية لكن سوف أسقط الجزء الأول من هذه الأفلام، وأرى أن الأعمال الأجنبية الثلاثة طرحت المشكلة بعمق وتأثير أكبر، وأتمنى من السينمائيين الاستفادة من هذه الأفكار وتطويرها.
والعمل أكثر على الالتصاق بالواقع ونقل موضوعات تساهم في إبراز هذه المشكلة وتقديم حلول لها من خلال علماء نفس وأخصائيين اجتماعيين، مثلما فعل فيلم (أريد حلا) الذي عدل في قوانين الطلاق بالمحاكم المصرية.
بداية ومؤشر
وأكدت السينمائية فريال كامل أن الأفلام لا يمكن أن تصنع بشكل جيد بدون تمويل، والعيب الذي نراه في الأعمال الأولى نتاج ذلك، وهي مجرد بداية ومؤشر لكيفية التعاطي مع تلك المشكلة، والقضية ليست دعم وتمويل تلك الأفلام أو نقدها، بل في كيفية تعرضها للظاهرة وإبرازها من خلال أفكار تعبر عن حجم المشكلة وتفشيها في المجتمعات العربية.
وبالتالي أشجع هذه البدايات التي تنقل صورة واقعية عن العنف ضد المرأة في الشرائح الاجتماعية المختلفة، وتقوم بالكشف عنه وعرضه في مهرجان سينمائي دولي يحسب لها وللمهرجان تفعيل ذلك.
قاع المجتمع
ويوافق الناقد السينمائي فوزي سليمان على ضرورة تفعيل هذه الظاهرة وتناميها على المستوى العربي، لأن تلك الأفلام حسب رأيه تدفعنا إلى ما لا يجب أن نفعله، حيث يرى أن النزول إلى قاع المجتمع يفرز الكثير ويساهم في إظهار المشكلة على حقيقتها دون افتعال أو تكلف.
ويبرز الناقد السينمائي ياقوت الديب محور الدراما التلفزيونية (المصرية والسورية والخليجية) والتي عرضت في رمضان وما فيها من عنف شديد ضد المرأة، لأنها للأسف كما يقول:
تكرس لكل الصور التقليدية والنمطية عن تعدد الزوجات، وتظهر المرأة بشكل سيئ يتماشى مع السائد، الذي يدفع الناس تلقائيا إلى تقليده واستمرارهم في التعامل مع العنف وكأنه أمر عادي في الحياة لا يستحق الرفض وتعديل هذا السلوك.
الإسماعيلية ـ أسامة عسل

