بالرغم من الكم الهائل للأعمال السينمائية والدرامية التي رصدت واقع الفقراء في مصر ـ قديما وحديثاً، فاللافت للانتباه أن الصورة التي قدمت عنهم كانت نمطية، حيث ركزت بشكل كبير على السلبيات الأخلاقية لهم أكثر منها معالجة لقضاياهم.
وهو ما تؤكده دراسة حديثة كشفت أن معظم الأفلام اقتصرت على تقديم سلبيات الفقراء، كما جعلت من المناطق التي يقطنون فيمها أشبه بمعامل تفريخ للمجرمين وتجار المخدرات واللصوص وقطاع الطرق، إلى جانب الانحرافات الاجتماعية والعلاقات غير المشروعة تفاصيل أكثر عن صورة الفقراء في السينما المصرية تناولتها السطور التالية.تحت عنوان »الفقراء في السينما المصرية«، رصدت الباحثة دنيا فاروق أبوزيد في دراسة حديثة لها كيفية تعبير صناع السينما عن الفقراء، موضحة أنه خلال النصف الأول من القرن العشرين ركزت السينما على السلبيات الأخلاقية للفقراء بكثافة ولم تهتم بالمشاكل الحيوية والأساسية لهم، بحثاً عن العائد المادي.
بينما قدمت 50% من الأفلام سلبيات الفقراء من خلال التحدث بألفاظ غير لائقة والتدخين والعنف والإدمان، في حين قدم عدد قليل منها واقع المرأة في المجتمعات الفقيرة والأطفال الفقراء، ووضعت حلولاً قاصرة لهذه المشكلة ولم تركز في الوقت نفسه على عمالة الأطفال والتسرب من التعليم أو المعاملة السيئة للمرأة ومعاناتها الدائمة من التحرش الجنسي.
وفى نهاية الدراسة وجهت الباحثة اللوم لصناع السينما لتجاهلهم المشاكل الخاصة بالفقراء في مصر وعدم القيام بالدور الحقيقي تجاه هذه الشريحة الكبيرة في المجتمع.
عيوب وسقطات
ويتفق عدد من المهتمين بصناعة السينما، مع ما خرجت به الدراسة ، مؤكدين أن المشهد السائد للفقير في السينما هو اللهاث وراء لقمة العيش بأي طريقة سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة، كما أصبح الدم المراق هو عنوان معظم هذه النوعية من الأفلام التي ترصد قضايا الفقر، مدللين على ذلك بأفلام مثل »إبراهيم الأبيض والجزيرة ودكان شحاتة وحين ميسرة«.
ولفت هؤلاء إلى أن ظاهرة العنف الناتج عن الفقر ليست ظاهرة جديدة، بل إنها بدأت منذ السبعينيات من القرن الماضي بعد ظهور شريحة اجتماعية أفرزها زمن الفقر وموجة الانفتاح، فرفع المخرجون شعار الأفلام الاجتماعية واستعانوا بكل السيناريوهات التي يسود فيها مشاهد قتل وسرقة ودعارة وتجارة مخدرات ونصب وغسيل أموال.
ووضعوها في خط درامي متماسك دون أن يحاولوا إيجاد حلول لتلك الأزمة، وجاء بعد ذلك جيل جديد من المخرجين، على رأسهم المخرج خالد يوسف، وضعوا الفقراء نصب أعينهم ليس من أجل حل مشاكلهم ولكن من أجل استعراض عيوبهم وسقطاتهم.
حفقراء وأغنياء
وبسؤال المخرج خالد يوسف عن أسباب التركيز في أفلامه على قضايا الفقر والجوع والعشوائيات، قال إنه دائما ما ينحاز إلى قضايا الفقراء والتعبير عن همومهم وأحزانهم ومشاكلهم التي يعانون منها منذ قديم الأزل ، نافيا في هذا الصدد تعمده إظهار عيوب الفقراء بقدر ما يسعى لتوضيح قضية معينة أو يناقشها بطريقة صحيحة، كما حدث في أفلام كثيرة مثل »حين ميسرة ودكان شحاتة«.
ولفت يوسف إلى أنه لم يقتصر في أفلامه على رصد مشاكل الفقراء فقط، موضحا أنه ناقش مشاكل الأغنياء أيضاً، وكشف طرق إسرافهم في استخدام المال والثروة بما يقودهم إلى الجريمة على غرار فيلمي »ويجا وخيانة مشروعة«.
حِقَب زمنية
إلى هنا أكدت الناقدة السينمائية رانيا يوسف أن صورة الفقراء في السينما المصرية شهدت تحولات مهمة على مدار تاريخ السينما، ففي النصف الأول من القرن الماضي قدمت السينما فيلم »غزل البنات« للفنان نجيب الريحاني، وليلى مراد وأنور وجدي.
ونجح الفيلم في تقديم الفقراء بكل صورهم في شكل مرتب، فكان الأستاذ حمام ( نجيب الريحاني) يرتدي ملابس بالية ويحمل منديلاً مقطعاً ولا يحاول اقتناص أموال أو يتعدى على ممتلكات أصحاب القصور الفارهة التي يسكنها الأثرياء، وأشارت إلى أن هذا الفيلم وغيره من الأفلام نجحوا في تقديم واقع الفقراء في إطار سهل بعيداً عن التعقيدات حيث كانت مشاكلهم البحث عن لقمة العيش فقط وبطرق مشروعة.
لكن الحقبة الثانية من السينما المصرية، جاء معظمها- على حد قول الناقدة- منصباً في مصلحة الفقراء وليس عرضاً لمشاكلهم واستعراضا لأزماتهم، حيث قلبت ثورة يوليو الأوضاع الاجتماعية باعتبار أن هذا العصر عصر انفتاح الفقراء، لذلك كان من الصعب إنتاج أي نوع من الأفلام يناقش تلك القضية بعشوائية.
وكان معظمها يلعب على وتر علاقة الحب بين الفقراء والأغنياء وقبول الثاني في معظمها لنداء الحب الذي لا يفرق بين غني وفقير ويظهر ذلك جلياً في أفلام »رد قلبي، وحكاية حب، والأيدي الناعمة«.
عصر الانفتاح
أما الفترة التي قلبت موازين الفقراء في مصر فكانت مع بداية عصر الانفتاح، حيث انتشر اللصوص وقُطّاع الطرق وصعد المتسلقون على ظهور الفقراء، وكان من الطبيعي أن تشهد السينما المصرية خلال تلك الحقبة في السبعينات والثمانينيات ترجمة لتلك الأحداث فأنتجت أفلاماً كثيرة رسمت واقع الفقراء بكل سلبياته، لكنها لم تحاول معالجة تلك السلبيات، ومن تلك الأفلام »زمن حاتم زهران، وحب في الزنزانة، وأهل القمة، والغول، والصعاليك«.
بينما يصف الناقد الفني طارق الشناوي السينما الحديثة بأنها حاولت الاقتراب من مجتمع الفقراء لتناقش مشاكلهم الاجتماعية، لكن الغرض الخفي وراء ذلك هو فضحهم وإبراز مساوئ تلك المجتمعات من أجل تحقيق أرباح مالية، حيث تظهر مجتمعاتهم مطعمة في كل الأفلام بتجار المخدرات والمدمنين واللصوص ويقومون بعمل خلطة يكون مفادها الصراع الأخلاقي بين الخير والشر بصرف النظر عن الدوافع الاجتماعية المحركة لهذا الصراع.
وفيما ألقى الشناوي باللوم على عدد من المخرجين الذين تعمدوا تشويه واقع الفقراء ورصد سلبياتهم، انتقد أيضا المعالجة القاصرة لبعض كتاب السينما لنفس القضية.
حيث أصروا على تقديمهم في صورة المنحرفين أخلاقياً، لدرجة أن جعلوا بيع شرفهم هو أسهل العروض أمامهم مدللاً على ذلك بفيلم »كلمني شكرا« وما تضمنه من ظهور غادة عبدالرازق في دور فقيرة تبيع شرفها من أجل المال، وفي »حين ميسرة ودكان شحاتة« عرّى السيناريو الفقراء وجعلهم سلعة وأداة تبحث عن أي شيء مقابل المال، وهو أمر مخالف للحقيقة؛ لأن مثل هذه التنازلات الأخلاقية لا ترتبط بغني أو فقير.
القاهرة - دار الإعلام العربية

