قُدّر لسمير طحان أن يلتقي بالموت لبرهة. سرعان ما انتهى اللقاء تاركاً خلفه كاتباً جعل من كلماته صوتاً أقوى وأبقى من ذاك اللغم الذي أفقده يديه وعينيه. وأبى سمير إلا أن يسطر مأساته في أكثر من مُؤلف، هو الذي لم تقعده المأساة بل دفعته ليبدع بالكلمة والكلمة وحدها.
سمير طحان كاتب بكل ما يملك، وجد في الكتابة إنسانيته ووجوده، لم تجعله تلك التجربة يائساً متشائماً، وإنما طحنته لتجعل منه كاتباً يدوّن أحاسيسه ومشاعره وتجاربه بلغة خاصة به أهلته فعلاً ليكون الشهيد الحي وقلعة حلب الثانية كما لقبه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بعد حادثة اللغم.
وُلِدَ سمير في قرقيزيا البُصيرة وهي المنطقة التي يصب فيها الخابور في الفرات - دير الزور. وربما لم يخطر في باله يوماً أنه سيقف وجهاً لوجه مع الموت.
دخل سمير معهد الأرض المقدَّسة للآباء الفرنسيسكان في حلب، وبدأ يتعلّم اللغتين العربيّة والفرنسيّة معاً، ودوّن بعض ما كان يسمعه من أدبٍ شفويّ، كما كتب الأقاصيص والتمثيليّات القصيرة وتعلم الفلسفتَيْن العربيّة والغربيّة، ولاهوت الأديان الحيّة، وفنون تخريم الخشب والنحت والرسم، والخطّ العربي واللاتيني على يد المعلّم برناردس أوهان الفرنسيسيّ.
ونال فيما بعد الشهادة الثانويّة العلميّة، ودرس الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، حيث أقام مع عمّه الدكتور ريمون طحّان الذي لقّنهُ مبادئ علم اللسانيّات في اللغات الإنكليزيّة والفرنسيّة والعربيّة.
عمل سمير أمين سرّ في معهد الأرض المقدّسة في حلب، ودرَّس مادّتي اللغة العربيّة والديانة. عام 0791 وأثناء تأدية سمير لخدمة العلم في هضبة الجولان وعندما كان يحاول زرع لغم ضمن أحد المشاريع العسكرية التي كان يقوم بها على الجبهة انفجر اللغم في جسده وأفقده طرفيه العلويين وعينيه.
لم تنل تلك الفاجعة رغم هولها شيئا من إرادة سمير وقوته، واستطاع أن يجعل من معاناته وإعاقته حافزا للحياة. يُرجع سمير ذلك إلى ثلاثة أسباب يرتبها كما عايشها. ويقول (قبول أهلي لي كما أنا ساعدني جدا، فعندما كنت في المشفى بعد حادثة اللغم اقتربت والدتي مني ووضعت يدها على كتفي®.
عرفت أنها والدتي عندها قالت لي »الإنسان ليس بيديه وعينيه، الإنسان بعقله«، فقبلتني كما أنا قائلةً لي »ابني حتى ولو بقيت قطعت لحم أنت ابني«. في لحظة الحادث وبعده كانت حالتي تشبه ما قاله محمود درويش »أخاف من دمع أمي« كنت قلقاً على أمي كيف سيصلها هذا الخبر.
وقد اطمأن قلبي عندما قالت لي »طالما أنا على وجه الحياة لن تحتاج شيء« وعندما قال لي والدي نفس كلام أمي وكذلك إخوتي عدت كما سمير الطبيعي، فقبول الأهل لولدهم كما هو وخاصة الأم هو اللبنة الأساسية في البناء الصحي النفسي للإنسان، وعندما يشعر الإنسان أن أمه تتقبله كما هو، لن يستهتر بنفسه ولن تنشأ عنده دوافع التدمير الذاتي مهما حصل معه في المستقبل.
والسبب الثاني كما يرى سمير وجود الأصدقاء المحبين وهم رأس مال الإنسان سواء كان معافى سليم أو لديه إعاقة، وقد جند جيشاً من الأصدقاء المحبين الذين رافقوه سواء في مشفى المزة ? بعد الحادثة ? أو عندما سافر إلى اسبانيا للعلاج وعندما عاد إلى حلب أيضاً.
أما السبب الثالث فهو ثقافته ودراسته قبل الحادث، يقول سمير (ثقافتي كانت أكبر كنز ومعين لي في إعادة بناء نفسي وشخصيتي، فعندما عدت إلى نفسي وجدت بها مخزون ثقافي يكفيني لأجيال وأجيال فأنا أكتب وأقرأ مذ كان عمري خمس سنوات وأجيد ثلاث لغات وتعلمت الرابعة بعد الحادث
لدى سمير الكثير من الكتب منها الرزمانة، مجمع العمرين، الجنك، ولاويل بردى، هناهين قويق، الحكواتي السوري، العين الثالثة، حالات، أرواح تائهة وغيرها الكثير من الكتب المطبوعة والمخطوطات التي لم يتمكن من طباعتها بعد.
معظم مؤلفاته هي إما سيرة لحياته، أو رصد للأغاني والموروثات الفلكلورية الشعبية، أو ما كان ملاذاً له في محنته.?وقدم أيضا الكثير من الأغاني للفنانة السورية ميادة بسيليس وشارات لمسلسلات درامية معروفة مثل: أيام الغضب، أخوة التراب، هوى بحري، نساء صغيرات، أبناء القهر، ومسلسلات أخرى.
ويرى سمير أن للإبداع شروطا خاصة بعيدا عن الموهبة والوحي، عن ذلك يشرح (الإبداع هو المخبر الذي غلب الموهبة، ولم يعد الإبداع أن يجلس الشخص لينتظر مزاجيته أو أن ينتظر الكاتب والفنان الظروف المناسبة حتى تأتيه أو حتى يؤمن لنفسه أجواء خاصة به، أعتبر ذلك تخلف وتقهقر.
الإبداع الآن هو عملية (قصدية) لذلك أتحدث دائماً عن قصدية الإبداع، ولابد أن تكون جاهزاً للعملية الإبداعية ولا تنتظر أن يأتي الوحي حتى تقوم بالإبداع، و ـ على فكرة ـ أنا لا أؤمن بالوحي والإلهام وأؤمن بجهد الإنسان لأنه عملية مران واكتساب وممارسة ودراسة وتمحيص وغربلة بعيداً عن شياطين الأدباء وأنا معجب جداً بـ »أبو العلاء المعري«.
وهنا أقول أني ألفت كتاب »هناهين قويق« واستغرقت في كتابته سبع سنوات وهو شبيه بلزوم ما لا يلزم. والإنسان منجم أفكار كمنهاج وطريقة وممارسة).
يتحدث سمير عن حكايته بوضوح وحرية كما كلماته بلا قيد أو شرط®. (بكل بساطة أنا مخلص وصادق، وإنما قوبلت بردود فعل على عكس ما أنا عليه سواء من قبل الأشخاص أو جماعات من منظمات ونقابات لم يخلصوا لي فأنا أخلصت لزوجتي ولم تخلص لي وأخلصت في كتاباتي وأدبي.
وفي المقابل لم أجد الجهة الإعلامية أو الثقافية التي تخلص لي وأرجو في المستقبل أن يعتدل الميزان).
دمشق - ماهر منصور