الأول لحن لها 70 أغنية والثاني وصفها ب«المعجزة الكبيرة»

القصبجي صانع مجد كوكب الشرق وعبدالوهاب نقلها إلى الأسلوب العصري

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أم كلثوم على مدى ما يزيد على النصف قرن، امتد عطاؤها الفني الذي منحها مكانة خاصة لدى الجماهير، التي توجتها ملكة على عرش الغناء حتى بعد رحيلها الذي أكمل عامه الخامس والثلاثين في الثالث من فبراير. وما زال الناس حتى يومنا هذا يطلقون آهات الاعجاب، كلما استمعوا الى إحدى أغنياتها قائلين «عظمة يا ست».

4 ـ القصبجي مؤسس أم كلثوم... لم يكن محمد القصبجي مجرد اسم أو ملحن في حياة أم كلثوم؛ كان أحد الأشخاص الذين أسسوا مجد أم كلثوم، فقد كان مكوَّن فرقتها الموسيقية والمطّور لصوتها، ويركز النقاد غالبًا عندما يتحدثون عن الذين أسهموا في تكوين أساسيات الشخصية الفنية لأم كلثوم على اسمين: والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، الذي دربها على أصول الإنشاد الديني، والشيخ أبوالعلا محمد الذي دربها على أصول فن الغناء الكلاسيكي للقصيدة العربية، وهو الجسر التاريخي الذي سهل لها الانتقال من الإنشاد الديني إلى الغناء الدنيوي، فإذا وصل حديث النقاد إلى اسم محمد القصبجي فإنهم غالبًا ما يكتفون بوضعه في خانة الملحنين الموهوبين الذين تعاملت معهم لا في خانة الأستاذ الثالث (وربما الأهم) في حياتها، الذي فتح أمام صوتها الأبواب المشرعة والآفاق الواسعة، ووضع كل عبقريته الموسيقية التجديدية في خدمة صوتها العبقري، لتستطيع بذلك الصمود في منافسة العبقرية التجديدية الأخرى الصاعدة كالصاروخ في مجالي التجديد الغنائي والتجديد الموسيقي محمد عبدالوهاب.

إن دور محمد القصبجي في حياة أم كلثوم (في مراحلها الأولى)، لم يكن فقط احتلال موقع الأستاذ الثالث في حياتها (بعد والدها وأبوالعلا)، لكنه كان الأستاذ الأساسي الذي كون لها الفرقة الموسيقية، وقادها إلى منافسة عبقري التجديد الآخر محمد عبدالوهاب. وخلاصة التجديد الهائل الذي أنجزه محمد القصبجي بين بداياته الأولى مع أم كلثوم (إن حالي في هواها عجب، وإن كنت أسامح)، ونهاياته في: (ما دام تحب بتنكر ليه، ورق الحبيب)- تؤكد أنه تجديد يستند إلى معادلة ثقافية فنية دقيقة التوازن بين جذور القصبجي العميقة، في تربة المقامات العربية، وآفاقه الواسعة المفتونة بإنجازات الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية.

وقد بدأ القصبجي التلحين لأم كلثوم عام 1924 بأغنية من نوع الطقطوقة هي: (قال إيه حلف ما يكلمنيش)، وقدم لها ما قارب 70 لحنا، ولا يستطيع أحد أن يصف الأزمة التي نشبت بينه وبين أم كلثوم، وأدت إلى إنهاء قسري لدوره كملحن عبقري، وتحويله إلى مجرد عازف عود، يؤدي وراءها ألحان سواه من الملحنين الذين يحتل معظمهم مراتب أدنى من مرتبته في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة، وعزلته عن موقعه في قيادة فرقتها الموسيقية- الذي ظل يشغله عقدين من الزمن- وأن ما حدث للقصبجي هو مأساة حقيقية، ويكبر حجم المأساة حين نعلم أن نتيجتها تجاوزت القطيعة الفنية بينهما إلى تجفيف ينابيع العبقرية الموسيقية لدى القصبجي..

لاسيما بعد فشل فيلم (عايدة) الذي صدم أم كلثوم واعتبرت القصبجي مسؤولا عنه، لكن الوقائع تؤكد أن عوامل أخرى حلّت في تلك الحقبة لتدفع الأمور بين القصبجي وأم كلثوم إلى انفجار كامل للمأساة، هو عامل الغيرة الفنية بعد عامل الفشل.

أما الغيرة فكان محورها النجاح الجماهيري الذي بدأت تحصده حنجرتا أسمهان وليلى مراد بألحان القصبجي. ومن أشهر ما لحن القصبجي لأم كلثوم (إن كنت أسامح)، (سكت والدمع اتكلم)، (الشك يحيى الغرام)، (رق الحبيب) التي نجحت نجاحا كبيرا، ولاتزال تتردد إلى اليوم كأحد أفضل ما قدمته أم كلثوم.

5 ـ عبدالوهاب.. بل أنت عمري

كتب الأستاذ أنيس منصور عن لقاء جمعه بأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب بمناسبة تسجيل أغنية (إنت عمري) قائلا: (بدأت أم كلثوم تغني.. وعبدالوهاب يقول لها أيوة يا ست.. ويغني وتغني ويقول لها: الله يا ثومة.. كم من الوقت مضى. لم يكن هناك أي معن للزمان.. فلا زمان ولا مكان.. إنما نحن من الدهشة في أي مكان..

عبدالوهاب شخصيا يغني.. وأم كلثوم شخصيا تغني.. عبدالوهاب بصوته المبجل.. والست أم كلثوم تقول له حاضر.. يا خبر أم كلثوم تقول لعبدالوهاب حاضر كأنها تلميذة وهو ناظر المدرسة.. ولما انتهت أم كلثوم من أغنية إنت عمري.. وقالت في النهاية: إنت عمري توقف عبدالوهاب ليلتها وقال: بل أنت عمري)..

ربما كان هذا المدخل مناسبا للحديث عن علاقة قيل إنها تنافسية بين أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، كان لكل منهما عالمه ولونه وخطّه الفني، كما كانت هناك منافسة بينهما، لكن هذه المنافسة لم تتحول يوما إلى صراع بقاء، بل كان كل منهما يتحدث بفيض من الود عن الآخر، وكأن هذا الآخر أخا كريما لا عدوا خطيرا.

إذا أنصتنا إلى عبدالوهاب متحدثا عن أم كلثوم، عثرنا على معدن ثمين في الكلام، فهو يصفها ب«المعجزة الكبيرة»، ويقول إنه «ينحني أمامها»، لكن لكل منهما طريقه: «أنا كنت ماشي في طريق وهي في طريق: هي ماشية في طريق البديع والجناس واللفظ الفخم القيم، أي في لون من الأدب، وأنا كنت ماشي في طريق آخر».

وعندما سُئل عبدالوهاب عمّن صنع أسطورة أم كلثوم موهبتها فقط أم شيء آخر يُضاف إلى الموهبة؟ قال: (مواهبها الفنية وسلوكها الاجتماعي، فالناس كانوا يحترمون أم كلثوم لأسباب كثيرة، منها سلوكها الاجتماعي السوي، لم يشاهد أحد أم كلثوم جالسة في مقهى أو مرتادة صالة سينما، أو تناهى إليه أنها كانت في جلسة وشربت خمرا، أو أن بيتها مفتوح لمن هبّ ودبّ..

كما أنها لم تكثر من الكلام في الإذاعة والتلفزيون والصحف، لقد كانت إنسانة محترمة، هذا الاحترام الذي يجعل الجميع يحترمون هذه السيدة). وكان عبدالوهاب يقول إنه معجب بأم كلثوم كإنسانة وكقيمة فنية..

وقد وصف عبدالوهاب صوتها بالنادر الذي يتمتع بمزايا عدة تكفي كل مزية منها لتجعل صاحبتها مطربة عظيمة، فكيف إذا اجتمعت هذه المزايا في صوت واحد، وفي ذلك ما يؤكد سلامة ذوقه وأصالة معدنه وتقديره للحقيقة التي أجمع عليها كل الناس.

6 ـ رياض السنباطي.. عناق الأربعين عاما

طوال 40 عاما جمعت الأقدار بين تجربتين فنيتين في منتصف الطريق ليستمر العناق الفني بينهما طوال 40 عاماً، بدأت يوماً مصادفة في محطة سكك حديد قرية درين، حينما كانت أم كلثوم وأبوها وأخوها وأولاد عمها يغنون في أحد الأفراح.

وكان رياض السنباطي ووالده يتبادلان الغناء في فرح، وانتهى الفرحان في وقت واحد، وركبوا «الحمير» متجهين إلى المحطة في انتظار القطار، والتقيا وجها لوجه للمرة الاولى في حياتهما.

كان رياض السنباطي هو أقدر الفنانين على فهم صوت أم كلثوم.. فقد تعانق فنه وصوتها أربعين عاماً وارتاحت أم كلثوم إلى فن السنباطي، أم كلثوم كانت تأنس إليه جداً وتستريح لوجوده بالقرب منها لا كملحن إنما كصديق، فلم تكن تعامله كأي ملحن يسجل لها.

إنما كانت أكثر ألحانه تتم في بيتها، يجلس هو على اليمين بينما تجلس هي على اليسار، وكثيراً كانت تقول لرياض: (أنت تريد أن تقول كذا.. ويكون ظنها صحيحاً مائة في المائة).. وكانت أم كلثوم تداعبه أو تروي له نكتة حتى تغير حالته النفسية، فإذا ظهر البشر عليه طلبت إليه أن يبدأ في التلحين..

وفي إحدى المرات دخن السنباطي ثمانين سيجارة، وكان ذلك نوعاً من الانتحار أسفر عن لحن جديد هو (أقبل الليل) وهو من أعز ألحانه إليه، على الرغم من أنه لم ينجح جماهيرياً وقتها.

وكان السنباطي ينزعج من المقارنة بين أم كلثوم وأي مطربة أخرى، خصوصاً منيرة المهدية، فكان يقول: عندما كانت أم كلثوم تتقاضى ثلاثين جنيهاً في القاهرة.. كانت منيرة المهدية تتقاضى مائة ومائتي جنيه ذهباً.. وكان مجلس الوزراء ينعقد في بيتها لا للسماع إليها لكن للنظر في شؤون مصر..

وفي حفلاتها كان الناس يشعلون لها السيجارة بورقة من فئة المائة جنيه.. وكانت منيرة تردد الأغنيات العارية القبيحة.. وعندما ظهرت أم كلثوم كانت منيرة قد غنت على الأقل ستين أغنية، لكن أم كلثوم احترمت نفسها جداً وكانت محتشمة ومتدينة، ورفضت الغناء بأي صورة لا تحفظ لها كرامتها.

Email