«بنت مريم» فيلم يعكس صورة شاعرية في لوحات سينمائية، جاءت قصيرة ومركزة، وبقدر ما غاص في مشاعر وحنايا القلوب، نبش تفاصيل العادات والتقاليد، وجسد أسوأ موروثاتها، وسكب الماء في شكل مطر ليطفأ دخانا لا يزال في الصدور.
ونقل صورة رائعة لبيئة لم تعد موجودة، ومطلوب منا البحث عنها ونقلها للأجيال الحالية، حتى لا تعيش مفصولة تماما عن الماضي ومراحله الصعبة والتي عاشتها أجيال عانت سلبيات تركت بصماتها جاثية علي تصرفات ومقدرات البعض، وكان بمثابة عود كبريت أضرم النار في الهشيم.يبدأ الفيلم على صوت قطرات مياه وهمهمت فتاة حزينة على خلفية سوداء، وهو محسوب لمخرج أراد أن يعتمد على الرمز ويصنع عرضا يجمع بين الوضوح والتورية، الكشف والإخفاء، مازجا كل ذلك في مساحات بصرية وتفاصيل مرئية تئن بالحزن المصاحب للموسيقي التي تربط العمل بشكل كامل، حتى في لحظات انتقاله من مشهد لآخر.
تتحرك الكاميرا ببطء شديد في معظم اللقطات، وكأنها تتعمد من أول كادر إلى نهاية الفيلم، التأكيد والتركيز على حجم المعاناة التي تعيشها البطلة، فها هي تظهر تدريجيا بين الوضوح والتخفي في منطقة مظلمة، لتتابع جسد زوجها وهو مسجى على طاولة، يتلقى غسيله الأخير قبل أن يوارى الثرى.ويركز المشهد على الأيدي وهي تنساب مع صوت الماء المسكوب، على جثة رجل ستيني، شعره الأبيض يغطي صدره، وفي المقابل تفاجئنا ملامح الزوجة التي لم تتعد بعد الخامسة عشر من عمرها، ليأخذنا وجهها الملائكي الطفولي في 27 دقيقة هي مدة الفيلم، داخل رحلة من الانكسار والرغبة في الجنوح بعيدا عن واقع «الفريج» المزري في الصمت والاستسلام لمقدراته.
اللقطات التالية يتناوب فيها الرعب بالرغبة في التحليق، مع وضوح كامل لجرح الداخل وجماليات الخارج، ومع صوت الغربان المنذر بالتشاؤم نرى الفتاة المراهقة «بنت مريم»، وتقوم بدورها بإبداع الممثلة نيفين ماضي ـ والتي حصلت عنه على جائزة تقدير من مهرجان الخليج السينمائي. وهي تراقب طقوس غسل الميت ـ زوجها ـ لنكتشف في سياق الفيلم أنها أجبرت على الزواج من رجل عجوز دخل عليها وهي لم تبلغ بعد سن الزواج، في إشارة واضحة إلى مأساة الفتيات الصغيرات في المجتمعات المنغلقة على عادات وقيم مستبدة وظالمة.
بعد موت زوجها، تجبر بنت مريم على ترك «فريجها» وتذهب إلى «فريج» آخر لا تعرفه ويسكنه معتوق الأعمى آخر أقاربها، في هذا المكان الذي يشبه السجن المفتوح تلاحق مريم بلعنات جديدة، تتمثل في سيطرة الرجل الأعمى وخدمته والخوف والبرود الذي يسكن الأرض والناس.
وتلتقي بنت مريم في عالمها الجديد طفلا يحمل معه وطوال الوقت نبتة ليمون جافة، متعلقا بأمل أن تخضر لتعيش والدته، كما تصادف امرأة عانت هي الأخرى من عبودية الرجل المتمثلة في أخوها الذي سجنها وسط غرفة متهالكة.
ورغم حلم بنت مريم بعودة الزمن إلى عصر الطفولة والبراءة، ورغبتها في تخليص الطفل والمرأة من وهم العادات وسجن التقاليد، تصدم بحواجز وأسوار لا تستطيع التخلص منها، ويصبح حلمها مرتبطا بالمطر الذي تتعلق به في محاولة للخلاص من رغباتها المكبوتة.
من المؤكد أن هناك عناصر عديدة ساعدت على ظهور «بنت مريم» بمستوى فني وتقني عال، منها النص الشعري والسيناريو الذي كتبه ببراعة محمد حسن أحمد، الموسيقي والمؤثرات لطه العجمي، التصوير لحسن الكثيري، الأداء الرائع لطاقم التمثيل، الانتقاء للملابس والإكسسوارات، وحالة المزاجية المتميزة في الإخراج والمونتاج.
ومن الأمور الأخرى الفنية التي تركت تأثيرا على الفيلم، اختيار أماكن التصوير، وطريقه قطع اللقطات، ومشهد سقوط المطر وإن عابه ظهور أحد الفنيين، في كادر كان من الممكن تداركه وإزالته، وبحرفية عالية جاء مشهد النهاية معبرا عن الصرخة المكتومة التي أطلقتها بنت مريم، لتدق ناقوس العبرة لمن لا يعتبر، في نفوس نتمنى أن تستيقظ من سباتها العميق.
ومن الضروري القول ان العمل نتاج طبيعي استفاد كثيرا من تجارب وأخطاء ماضية، وظهر ذلك بشكل شامل على كل تفاصيل التجربة الجديدة، التي وضح فيها بأسلوب جدي الإصرار على تطوير الثقافة البصرية عمليا وفنيا، ليصبح بحق سعيد سالمين أحد المميزين فعلا في التعاطي مع الدراما البصرية التي جمعت بين تقنية الدجيتال وفنون السينما.


