أمام سوسنة الانعتاق التي ينشد، ونجوم المسرات التي يشتهي من أكف رغبته الطويلة، وبكرنفالية مشهدية صاخبة، أشبه ما تكون بحرقة متأججة في النزوح إلى أرض الرغبات القصية ثمة نواح خفي وخيوط من حزن مثابر، تنبأ بما تنذره مسافات الروح واللون والجسد من ألفة وتلامس وصهيل، على تلك الكائنات الموزعة في أقنعة النصوص الحالمة التي يبذرها سعد جمعة في مجموعته الشعرية (الراقص) الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت.

ومن جغرافيا كلماته المبوبة بمقولة لبارمنيدوس ينشد فيها (الأفراس التي تقلني، ذهبت بي إلى حيث كان اندفاع روحي يدفعني) يندفع سعد جمعة بكل تشظياته وهواجسه في قصيدة واحدة، هي القصائد جميعا ، عبر لوعة موزعة بمهارة وحزن بين بواطن فرحه المعلن والمكبوت، باتجاه لون واحد هو لون الحرية الذي تمنحه كائنات الشاعر الراقصة فوق لهيب الحياة وأسرار عطايا نشوتها البعيدة، وما تمنحه الشمس لأولئك القافزين في منتصف المسافة ما بين الغياب والحضور، الفتنة والتأجج، الاحتراق وأنشودة تحليقه التي تنزلق من رقصة القلب مع نصوص الأمل حين تصارع لون الليل، قلائد من ابتهاج ثمل أو مفاتيح لظهيرة طازجة تطرق أبواب مواسمه المعبأة بالرغبات الفاتنة وبانتظار ما تدجنه الأوتار على جسده الحالم بمواسم أقل تلوناً وأكثر انتماء إلى ماء حياتها الحقيقي.

(أي شيء يمكن أن ينقذ هذا القلب

مراراً

ركضنا لانتشال الشمس من الطرق

لنشعل شمعة

ورغبات فاتنة

مراراً

مددنا أيدينا الطويلة

نحو القرص ذاته لنقلب دوران المجرة كلها)

إن انعتاق الذات الشعرية وتحليقها المثابر في جسد الكتابة، لا يعني عزلتها أو عزوفها عن تلك الأزمنة المرة التي تلاحقنا وتغلفنا في مفازاتها المرعبة، على الرغم من نشوة الانعتاق المتمثلة في الحضور الإنساني المشهدي على إيقاع ذلك الراقص المفتون بقطف ما يمكن تناوله من صومعة شغفه الخاص والممكن، بل تعي انصهار تلك الأزمنة في صوغ أحلامه، خلاياه، نشوته، تمرده، هواجسه، تمرده، فرحه، كلماته، حضوره أو استقلاليته في الفعل والإنجاز والخلق عبر إستراتيجية شعرية قد لا تصل إلى مشتهاة القول المدون على رقصته الجنائزية، ولكنها تحاول وبجهد واضح ملامسة واقعها المأزوم وكياناتها الدرامية الحالكة في الغياب المستفز، رغم تأرجح القلب والمتمثل بفعل الانعتاق الروحي والاجتماعي والإنساني، مما يتطلب استحضار عناصر وإمكانيات تعبيرية قد تفيض على النص الشعري شيئاً من أزمة إنسان يحاول الغوص وحيداً في وليمة رقصته الكرنفالية المؤلمة.

فثمة احتراق شعري يحاول الوصول إلى تلك النقطة المتوهجة من غيمة الحرية المثلى لتبدو أكثر فعالية في تجسيد صورة الوحشة والعزلة والتمزق.

حيث يعكس البناء الدرامي الواقعي لفعل الرقص اهتماما شديداً بطاقة اللفظة التشكيلية الحاضرة بقوة فوق هضبة النص، مساهمة منها في الإسهام المتميز والفاعل في تحقيق ضروراتها المكتسبة من شهادات الذات واعترافاتها ذات النزعة الحقيقية الناصعة، بدءاً من شعرية العنوان وصولاً إلى بواطن النص الذي يكتبه سعد جمعة، والذي نلحظ في مجموعته (الراقص) وعلى أوراق نصوصه الحالمة ومن خلال هتافه الإنساني ذلك القلق الدلالي الواضح والتوتر الذي يسعي إلى إنجاز أشبه ما يمكن أن نقول عنه مسافات التوتر الإنساني، دم الشاعر ولون القصيدة التي يكتب، ليؤثث لحالة من الرؤى والاستبصارات البعيدة ولربما لحالة من النشوة الحاضرة بخصوصيات تحفر في وجدان النص جمرة من عشق فاضل في تلاحم إنساني يحلق بشغف رومانسي واضح داخل العملية الكتابية.

فمن قصيدة له بعنوان (ستقفزين) يقول الشاعر سعد جمعة

هناك

في المكان الذي لا يمسه إلا الأنبياء

نسجنا قماشاً أبيض

أطرافه معقودة في هدوء الروح

ستحررينه

وتدثرين به البلاد. . وتقفزين

ففي قصيدته (حاضنة النار) التي يقول فيها

(في البيوت العتيقة، حيث التأمل بلا جدران

كنت محشوراً في كيانك

تُقبلين خدي بمرارتك

جسدي كان نوراً

وترتلين اسمي

احرق الظلام ولا تنطفئ

اشتعلت أنا

شعلة لك

وشعلة للحياة)

على ضوء مما تقدم ومن ملامح التوحد في الإحساس والتحليق والمكابدة وعبر تدفق في الرؤية والمخلية والرغبات، يكشف لنا الشاعر سعد جمعة عن موقفه الإرادي في صوغ حلمه الكاشف عن مسافات التحليق والنشوة والأمل، مؤسساً لقناع يحتفي بكل تلك التفاصيل الصغيرة وألمه الموروث من حرارة المكابدة وصحوة الحلم وبهاء الانطلاق، ليفجر انعتاقاً إنسانياً من الروح والجسد والحلم، خارجاً من فضاء التحرر، داخلاً إلى شرنقة السلام.

قاسم سعودي