رحل المؤذن الصغير صاحب الألحان الدينية الشهيرة

صبري مدلل لم يمنح عبد الوهاب لحناً

ت + ت - الحجم الطبيعي

«غابت بقايا العسل من خوابي الكبار» لا يستطيع المرء أن يتجاهل جملة كهذه، أياً من كان قائلها، فكيف إذا أطلقها أحد النقاد في يوم رحيل شيخ المطربين صبري مدلل أول من أمس..في الوقت الذي كان همنا الوحيد فيه التقاط أية معلومة عنه، أو صورة أرشيفية له، وهنا بدا التقصير الرسمي أو غير الرسمي كبيرا، فغياب المعلومة والصورة من ملايين الصفحات في الانترنت يشير إلى حلول كثيرة في إمكانية الاحتفاء بهذه القامة التي يندر أن ترى مثيلها في أمة أخرى..وأضعف الإيمان إحداث موقع له على الانترنت.

على كل في حضرة الموت، كل الأشياء الأخرى تبدو عديمة النفع، هذا الموت الذي قارعه مدلل وقاتله قتال الأبطال وظل ابن الثمانية والثمانين يدافع بصوته عن حقه بالحياة..وما أشرف هذا الدفاع...! آثر مدلل عدم الانجرار وراء كل موجات الغناء والموسيقى التي مرت عليه، وظل في حانوته الخاص بالعطارة في أحد أسواق حلب،والذي كان يقضي فيه نهاره،يبيع فيه مختلف أنواع الأعشاب الطبية، في حين كان الليل فسحة للاستماع والغناء.

خلّف مدلل الذي، رحل حيث ولد في حلب عاصمة الطرب الأصيل في العالم العربي، أكثر من 40 لحناً معظمها ألحان دينية منها «يا نبي سلام عليك» و «الأطيار تشدو» و «حيوا الهادي بذكرى الإسراء» و«أحمد يا حبيبي سلام عليك» وهذا اللحن الأخير لاقى شهرة كبيرة وحتى الآن تغنيه الفرق في المناسبات الدينية،

ويحكى أن محمد عبد الوهاب ذهل حين سمع صوته وسمع ألحانه وطلب منه أن يلحن له وحدث الاتفاق ولكن انشغال مدلل بتطوير الغناء الديني والموشحات حال دون ذلك، لان الإنشاد الديني كان مشروعه الذي تربى عليه منذ الصغر. ويجدر بنا في هذا السياق أن نعرج على علاقته الوطيدة أيضا بأم كلثوم وفريد الأطرش.

ولد صبري مدلل، الذي وصفته الصحافة الفرنسية قبل نحو ربع قرن بأنه تاريخ الصحراء العربية، عام 1918في حي المشارقة العريق بمدينة حلب وكان والده متدينا، يأخذه معه إلى المساجد ويحضره حفلات الأوراد والاذكار والأناشيد الدينية،وتقول بعض المصادر انه في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، أخذه والده إلى الشيخ أحمد المصري،

ليعلمه أمور دينه ويحفظه القرآن الكريم والخط ومسك الدوبيا، واكتشف الشيخ فيه جمال الصوت وهو يرتل سور القرآن، فكرمه بأن يؤذن لصلاة الظهر من فوق المئذنة الصغيرة، حينها صعد الولد صبري إلى مئذنة الجامع وراح يترنم بالآذان، وهكذا صار يفعل كل يوم..

وكان ينظر إلى الأسفل ويرى الناس يجتمعون حول المسجد، ينصتون إلى حلاوة صوته، ويقرر الشيخ احمد المصري بعد ذلك ان يعلم القارئ المجود صبري مدلل (الغناء) وهو أمر لم يكن بالهين ضمن نطاق مفاهيم تلك الأيام..ولكنه حدث وعرف معنا أن الأب الشرعي لهذا العلم الغنائي الكبير هو الشيخ أحمد المصري.

ويأتي دور الموسيقار الحلبي الكبير عمر البطش في رواية حياة صبري مدلل، فقد كان البطش قد أصاب شهرة كبيرة بين معاصريه من الملحنين والمغنين، لأنه كان يعطي أهمية كبيرة للتراث، أسمعه صبري مدلل بعض ما حفظ من الليالي، فسر بجمال صوته وقبله طالبا نظاميا في الغناء،

وقدم له موشح «كحل السحر عيوننا» فحفظه وغناه وأجاد فيه، ثم راح يعلمه فن أداء الموشحات، وعلوم المقامات والأوزان والضروب، إلى ان أتقن كل ذلك، وبعد قليل تعلم العزف على العود وعلى عدد من الآلات الأخرى، ولكنه آثر الضرب على آلات الإيقاع المختلفة، وبرع في الدف خاصة، وبعد سنة من تعليم الغناء لصبري مدلل، قال له عمر البطش: «لن آخذ منك أجرة الدرس الخصوصي، وسيكون لك مستقبل يا ولدي، سوف آخذك وأعلمك».

وهكذا صار يأخذه معه إلى الحفلات وصار صبري يغني، وأستاذه وراءه على الرق، ثم صار التلميذ يمسك الحفلات، ويأخذ عليها خمس ليرات وظيفة، ويعطي عمر البطش منها ليرتين، ويأخذ الباقي. وأصبحت شهرة المغني الجديد تملأ كل مدينة حلب.. إلى ان تم افتتاح الإذاعة.. التي قدمته كأحد انجازاتها واكتشافاتها في ذلك الوقت.

رحل مدلل وهو يعلم أنه لم يصب الشهرة التي يستحقها، وذات مرة التقيت به في حلب على هامش مهرجان الأغنية السورية وسألته لماذا لم يصب الشهرة التي يستحقها فرد علي بأسي ابن الثمانين : «هذا الكلام متأخر، بل متأخر جدا، اسألهم وهم سيجيبون».

أسس الراحل فرقة كبيرة عام 1954..اسمها فرقة التراث، غنى من خلالها أجمل الأغاني التراثية السورية مثل القراصيا، زمان زمان، أول عشرة محبوبي، وقد ترأسها في مرحلة لاحقة ابن أخته محمد رومية وقد أطلق عليها اسم مؤسسها تقديرا له، وصدر عن الراحل كتاب حققه الفنان قدري دلال تناول في جزئه الأخير سيرة حياته وعلاقته مع الفن والإبداع. ومن الجدير بالذكر ان المخرج محمد ملص صور فيلما وثائقيا عن الفنان، آخر شيوخ الطرب صبري مدلل لصالح إحدى القنوات الفرنسية.

دبي ـ جمال آدم :

Email