في عروة الزمان الباهي، كتابه الصادر عن المركز الثقافي العربي يقول الراحل المبدع عبدالرحمن منيف: «الصعلكة بمعناها التاريخي، هي تلك السمة التي ميزت عصبة من الفتيان الشجعان المنذورين للخطر، الرافضين للمجتمعات التي يعيشون فيها، الرائين أكثر من غيرهم للتشويه المسيطر،
حيث يحتاز الثروة عدد محدود من الناس ويبقى الآخرون مسحوقين فقراء، مما يدفع الصعاليك إلى التدخل وبالقوة، ووضع اليد على جزء من أموال الأغنياء وتوزيعها على المحتاجين، عازفين هم عن أن يخصوا أنفسهم بشيء، لأن الثروة بنظرهم لا تعني أكثر من تلبية الحاجات الضرورية للإنسان.
ولذلك فإن الصعلكة ليست سرقة بهدف السرقة، وإنما هي نظرة موقف وأيضاً سلوك من نمط معين.. أن تأبط شراً والسليك بن السليكة وعروة بن الورد، وغيرهم من أولئك الفتيان الذين ملأوا جزءًا مهماً من تاريخ الجاهلية ثم صدر الإسلام بغزواتهم النبيلة، وتضحياتهم التي لا تنتظر رداً أو اعترافاً وقالوا من حيث الفعل والسلوك، موقفاً مدوياً وهم يأخذون من جانب ويعطون إلى جانب، ويعيدون توزيع الخيرات
كما يتوزع نور الشمس، وكما ينتشر الهواء، وبعد أن يفعلوا ما يجعلهم راضين، يعدون إلى بعض الواحات مع كسر الخبز وبقايا التمر كي يتأملوا الحياة ثم ليقولوها شعراً بحيث أصبح هذا الشعر من أصدق ما قالته العرب، حيث ظل الصعاليك وظل شعرهم منارات مضيئة وحديقة للضمير وعنواناً لنمط من الحياة والتفكير قلما يوجد ما يماثله في الأماكن الأخر».
ولعل خارطة الشعراء الصعاليك في الشعر العراقي الحديث تشير دائماً إلى أولئك الشعراء الذين لطالما حلموا وعبر منجزهم الشعري والإنساني إضافة شيء ما إلى أرواحهم المتمردة عبر بوابة الصدق والمحبة وعبق المعرفة والضياء في الوصول إلى تلك الضفاف السحرية الملأى بشغف الانتماء إلى الإنسان وحقيقته،
إن مثل عبدالأمير الحصيري وحسين مردان وجان دمو وعقيل علي، وما تحملهم أرواحهم الغائبة عن عوالمنا، وما أضافوه إلى جسد حركة التجديد في الشعر العراقي الحديث وصولاً إلى رئة المعرفة وما تحمله عبر مسافات التشظي والحنين إلى جسد الحياة البيضاء،
من خلال أناشيدهم المملوءة بالصدق الذي يهتف دائماً للحب وللحقيقة والنقاء، بحيث لم تكن أفكارهم الإنسانية ضرباً من الجنون أو نافذة مهمشة تطل على غياب الأمل والغروب أو مسلكاً يتيح لهم قطف ما يمكن قطفه من حضن المجد عبر تناول فاكهة النرجسية المرة،
بل لتحقيق تلك اللوعة الإنسانية المتمثلة في الوصول إلى بهاء الحرية وماء حقيقة الإنسان المنتمي إلى إنسانيته المعذبة رغم ضراوة الحياة وسيادة الآلة ولهفة الولوج إلى البقاء، وعبر رفضهم المرسوم من ذلك الوعي الروحي إلى حياة أشد عمقاً في الحب والتآخي والطمأنينة، وما تحمله تلك الأفكار من رؤى واستبصارات توفر لهم شيئاً من الخلوة والعزلة ومشاركة كل ما هو قبيح ومادي في حياة الكائن البشري،
أحد هؤلاء هو االشاعر الراحل حسين مردان «1927 ـ 1972» طائر الشعر الذي تنهرت روحه الجميلة وغدت ساقية عذبة تسقي بيادر الحبر الصادق، والمضيء في حدائق شعر العراق عبر حياته الملأى بنار الشعر والتمرد والعذوبة وحنين التشرد والإبداع، ففي قضاء ينام على شمس الفلاحين في حوض الفرات وفي فضاءات مدينة «بعقوبة» ولد الحالم الكبير حسين مردان، طفلاً مشاكساً ومتمرداً عبر بحثه المستمر عن أعشاش الطيور لإطعام صغارها،
وسرقة الفواكه وتوزيعها على الأطفال المحرومين، واللعب مع البنات رغم ذلك لم تحبه امرأة طيلة حياته، في السابعة قرأ عنترة وفي العاشرة من عمره ضربته أمه بالمحراث لنظمه أبياتاً من الشعر وفي السابعة عشرة هجر مدينته الحالمة والنهر وصباحات الفلاحين لينطلق إلى مدينة الشعر والحب والكادحين بغداد..
مفلساً شريداً، فارتاد مقهى الزهاوي وجالس هناك عمالقة الشعر العراقي، الجواهري والرصافي وآخرين والتقى بعد طول ضياع بالجوع والتمرد والبطالة والبوهيمية وعمل صناعاً في البناء في «سوق الفضل» في الرصافة وعلى رأسه قفة طين معذبة وبعض حروف من الشعر وروح من سطوة فيل قال عندها «لقد انتهى عهد النوم في الشوارع وفي البساتين لكن الجوع ظل يرافقني، سأصل،
وسأنشر ظلي على السماء وعندئذ سينزل الذهب وسأقف أمام أمهر الخياطين وقذفت بروحي في أعماق الجحيم وصافحت مخالب الشيطان..، أن الكتب وحدها لا تكفي، الحياة والليل والقوافي، الكشف ورؤية الجذور وهو ما أهدف إليه، فلن أتوقف عن الغوص».
في بداية حياته الأدبية عمل حسين مردان مصححاً في جريدة «الأهالي» البغدادية وأنهى حياته معاوناً ثقافياً للمدير العام للاذاعة والتلفزيون، وما بين تلك وهذه، كان حسين مردان طيباً كطفل ولذيذاً كالفرات وبسيطاً كبيوت الفلاحين ولكن الطيبة ونقاء القلب لم يكونا ميزته الوحيدة..،
ورغم كل الأنين الذي عزفته قسوة الحياة على جسده المولع بالكتابة وفي زحام صومعة الإبداع التي نسجها الجواهري والرصافي وآخرون وعبقريتها الفذة، نهض هذا البودليري المتعب بحبره الصادق وخزف حروفه المحلقة فوق أجنحة الضباب للبحث عن إنسانه الأعزل عبر نافذة يتيمة تفوح بشعر مالح لا يذوب وانفعالات صادقة يبعثرها نحو كهوف الظلمة ويباب الأعراف التي كانت منتشرة في المجتمع العراقي ليتخلص من شياطينه البكر وروحه المزغية بتخمة الأمنيات ومائدة التشرد.
قد لا يجد المتتبع لشاعرية حسين مردان عذوبة التغريد وموسيقى النجوى التي يوفرها لنا الشعر العربي ولكنه بواقعيته المفرطة بالحلم استطاع مشاكسة كل ما هو قبيح على وجه الحياة بهتافات صادقة كان كفيلة باخراج السكين من رئة مدماة والوصول إلى ذلك الشهيق الفاضل المعبّد بالصدق وجمر الحقيقة.
فالشاعر مرآة شعبه، حلمه، وطنه.. وتجلياته الصادقة في أزمنة مشرعة على البؤس تارة وتارة أخرى على أكاليل الفرح البهي المرسوم على جسد الحياة، ومن شظاياه هذه الثكنات العذبة خرج إلينا الطائر المشاكس حسين مردان، الصوت المدوي والغص الفريد في غابة الأقنعة المرة فارس الصدق والحقيقة والدهشة والمحاكمات، ليقول لنا، كل ما أراد أن يقوله بلغة واحدة، هي لغة الشعب والكهوف والحدائق والثورة..
قرأ كل شيء في طفولته العجائبية، السالب والموجب معاً.. ترك المدرسة والعائلة وخضع للتجنيد الاجباري ثم مالبث أن حلق بصمت العنكبوت صوب بغداد، لا يهمه كيف يعيش بل همه الوحيد أن يصبح أديباً بارزاً وكما يقول دور بريه «كم يتطلب أدنى تفكير من شقاء، وكم تتطلب فكرة واحدة من ميتات حقيقية» وألف حسين مردان حياة التشرد ومعه الراحل بلند الحيدري وآخرون وهو يكتفي بأقل القليل من الخبز والدفء والطمأنينة..
وزادت قراءته فأعجب بأفعى اليأس أبو شبكة وأزهار بودلير وشرع يكتب ويكتب ليؤسس هو ومجموعة من الشباب المتمرد «جماعة الوقت الضائع» وفجأة اهتزت كل معاقل الأدب والمطابع والمنتديات والمقاهي الأدبية ومعها أعمدة شارع الرشيد في بغداد، فلقد قذف هذا البودليري الحالم بديوان «قصائد عارية» الذي ما لبث أن صادرته المحاكم وحوكم الشاعر مراراً عليه.. وكتب في مقدمة هذا الديوان «إلى القارئ..
ثق أنك لا تفضلني على الرغم من قذارتي إلا بشيء واحد، هو أنني أحيا عارياً بينما أنت تحيا ساتراً ذاتك بألف قناع.. فنصيحة مني لا تقدم على قراءة هذا الديوان إذ كنت تخشى حقيقتك وتخاف رؤية الحيوان الرابض في أعماقك». وشعره في قصائده عارية فيه من العمق والصدق التصويري ما يكفي من القسوة والعنف والغرابة للخروج من المفهوم الأخلاقي في هذا أثبتت أنه شاعر بحق وليواصل بعد ذلك مسيرته وليصدر ديوانه «اللحن الأسود» وصدور أيضا وقدم الشاعر إلى المحكمة مرة أخرى.
وليبتعد قليلاً عن هذه العوالم فيما بعد وليصدر عام 1951 «صور مرعبة» وهو تصوير واقعي لحياة متعاطي المخدرات، ومضى به التمرد إلى تهشيم كل ما هو قبيح في وجه السلطة وليصدر «رجل الضباب» وفيه تصريح واضح ضد الظلم والاستعمار والقيود التي تحكم الشعب والحريات وليقول «ها أنا رجل الضباب، ومن له موبقة في كل حديث يذكر، فيعلم المتزلقون إذا التوت قدم على قدم بأني أكبر».
واعتقل بعد انتفاضة 1952 فحكم عليه بكفالة على أن لا ينشر كتاباً لمدة سنة، وبما أنه مفلس حقيقي دخل سجن الكوت الرهيب والتقى الشيوعيين لأول مرة.. وفي هذه الفترة لم يكن حسين مردان من الذين يدعون إلى تقويض المجتمع لذا جدد شعره واشتهرت قصائده في المؤتمرات والمحافل الدولية وكما يقول الراحل جبرا إبراهيم جبرا «ان شاعرية حسين مردان تتحدى المألوف والمرغوب أمام أنقاض العصر وتهشيم كل ماهو جدير بأن يعصف باكتراث، وأن حوار الدراما لديه يجهر ويوحي بتبديد كل من هو في نفسه من حزن متوتر،
يفقد في الأغلب قوته في خلق الحيرة والقلق والتساؤل وهي من عناصر الحيوية في الشعر الدائم القيمة.. وليصدر بعد ذلك الربيع والجوع قائلاً في إحدى قصائدها «في الغد.. الغد الذي سيأتي فوق عربة زيتون، عندما تهل ابتسامات الأطفال وتنتقل من مدينة إلى أخرى.. حقوق حليب ولوحات موسيقى وبنات على الأرصفة وأجنحة الطيور والعناقيد، عندما يضع الربيع قدمه السعيدة فوق العالم، ستختفي البقعة السوداء».
وتأتي مرحلة النشاط الشعري المكثف وليصدر «العالم تنور» ثم «الأرجوحة هادئة الحبال» معلناً تحطيم القافية والوزن وتجزئة التفاعيل حيث يقول في ذلك «ان الوزن يمنع الشاعر عن التعبير عن العالم السفلي بطريقة انسيابية فيفرض العقل سيطرته الكاملة». وكما قالوا عري القلب وراء العقل البشري..
تخلى حسين مردان عن عقله ليبصر حدائق قلبه وجذور تربته بأستخدام مفرادات لغوية جديدة وأسلوب جديد نبصر فيه أفق انفعالاته وما تحمله روحه الكبيرة من وجع ثوري يزفه صوب حدائق من الفجر والأطفال والمحبة.. حيث عالج في تضاريس أرجوحته هادئة الحبال عالم المرأة وروح الوطن المشتعلة في دم الإنسان..
قائلاً في إحدى قصائده «وأنت يا أنتِ
يا فوهة التنور.. يا أختي في الشوق والأمنيات
يا ضربة الكبريت للزيت،
النور لن يشرق من ميت،
لم تطلع النار من الميت
وفجرنا لاتفزعي.. الفجر لن يأتي»
ان حسين مردان وعبر منجزه الشعري شاعر مجدد وجريء ليقول عنه الراحل الدكتور علي جواد الطاهر «انه من أجرأ شعراء بلده في تجديد الصورة واقتحام المعنى وفرج السريالي بالرمزي والواقعي بشاعرية تترفع عن التكلف أو الشعوذة، انه شاعر في أخص ما يعرف به، وأخص ما يرى نفسه له، تتوالى دواوينه بشخصيته المميزة ولغته المدهشة ومضى به التمرد إلى أبعد الحدود».
ولتستمر عذوبته وارتعاشات عالمه الإنساني المملوء بركام الأزمنة المرة قائلاً في إحدى مقالاته «لن أحترم العالم وفي الأرض طفل واحد منكسر العينين». حقاً استطاع المبدع الراحل حسين مردان ان يضع الشعر في مكانه الحقيقي حيث يتعانق الفن والعقيدة في بنية واحدة ذات وهج إنساني يحلق في فضاءات الصدق والعذوبة والانتماء.
وفي الساعة الثانية عشرة من ليلة من ليالي 1972 توقف قلب الطائر حسين مردان.. قرب نهر دجلة في مستشفى الطب ببغداد.. قرب النهر ولد وقرب النهر حلق وحيداً .. ليبقى صوته المبلل بالعذوبة يشدو ويشدو في ذاكرة الأجيال رغم صدأ الأزمنة..
قاسم سعودي
