قرابين للبصر والبصيرة

قرابين للبصر والبصيرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في معرض حديثه عن النحاتين الشبان السبعة الذين شاركوا في معرض (نبض الرخام) الذي أُقيم في تونس قبل مدة، ومن بينهم النحات السوري (سامر حويجة)، قال (الحبيب بيده) ان هؤلاء كانوا في (حوار فعّال مع هيولى الرخام. عشقوها وجاهدوها وكابدوها، فخرجت أناملهم «أجساد رؤى» قرابين للبصر والبصيرة، ولا ينتظر هؤلاء سوى الانتشاء بنشوتهم، دعماً لتواصلهم مع هذه الهيولى واختراقهم المتواصل لها فعلاً وإبداعاً).

قرابين البصر والبصيرة هذه، المفعمة بدعوة حميمة من مبدعيها، للمتلقي المتأمل، الفاهم لروح الشكل ومضمونه، لمشاركتهم الانتشاء بنشوتهم التي حصلوا عليها أثناء اشتغالهم على إنجاز هذه القرابين، وبعد عملية الإنجاز، لا تستمد مدلولها من غير مضمونها الروحي (كما يؤكد هيغل) هذا المضمون الذي ينبغي أن يسري في أوصال العمل النحتي، وأن يكون له بمثابة الحامل.

ولا يجوز لنبض الحياة والليونة والرشاقة أو الامتلاء والجمال الحسي للجسم، أن تكون هي الهدف الخاص للتمثيل، مثلما لا يجوز للجانب الفردي من الروحية أن ينحط ، في تعبيره، إلى خصوصية لا هدف لها سوى أن تضعه على مستوى ذاتية الناظر، وأن تجعله أكثر آلفة بالنسبة إلى هذا الأخير، وأسهل قابلية للإدراك والفهم.

ويضيف (هيغل) مؤكداً، أن الحياة التي تدب في الأعمال النحتية تأتيها من كونها نتاجاً حراً لروح الفنان الذي ما عاد يكتفي بأن يعطي، بوساطة معالم تقريبيّة، وتلميحات وتعابير مبهمة، فكرة عامة عما يريد تنفيذه.

كما أنه ما عاد يكتفي بقبول الأشكال التي يلتقيها بالمصادفة فيما حوله كما هي، بل أصبح يُلح على نوع التناغم المشبع بالمضمون الروحي الذي يفترض بالهيئة الإنسانية المشخصة في المنحوتة أن تعبر عنه، وهي شاهد في الوقت نفسه، على فن الفنان الذي استطاع أن ينفخ حياته الخاصة في هذه الهيئة، وأن يجعلها مطابقة لتصوره، وأن يبث فيها نفسه بالذات.

وقرابين البصر والبصيرة التي ما زالت تنداح من بين أنامل المبدعين من النحاتين، في أكثر من مادة وخامة وأسلوب واتجاه فني، لا بد لها من شكل جميل، لتقدم من خلاله، مضامينها، وكما أن البيت ـ كما يقول هيغل ـ يؤلف في العمارة الهيكل العظمي، التشريحي، السابق الوجود على الفن،

كذلك فإن الهيئة البشرية هي التي تقدم للنحت النموذج الأساسي لإبداعاته. والهيئة البشرية ليست، شأن الهيئة الحيوانية، جسمانية النفس فقط: بل هي أيضاً جسمانية الروح.

والحال أنه يوجد فارق أساسي بين النفس والروح، فما النفس بالفعل سوى الكينونة لذاتها البسيطة والفكرية للجسماني من حيث هو جسماني. بينما الروح هو الكينونة لذاتها، للحياة الواعية بوجه عام، والواعية لنفسها بوجه خاص.

ويذهب (هيغل) إلى التأكيد أن النحت يجسد الروحية في شكل جسماني على صلة وثيقة بمحيطه. أي الموضع الذي يُفترض بالأثر النحتي أن يشغله. ومن هذه الزاوية، ثمة رابطة دائمة بين النحت والفسح المعماريّة.

«الرخام» الذي طالما حاول النحات، على مر العصور والأزمان، استنهاض نبض الحياة والفن والجمال فيه، عبر النحت ومن خلاله، حاول مجموعة من النحاتين الشباب العرب، الذين شاركوا في معرض (نبض الرخام) - كما يقول (الحبيب بيده) - ان يوّلدوا منه صيغاً وصوراً مختلفة، ويتفقوا رغم الاختلاف، على محاولة إرجاع تقنية النحت إلى أصولها الأولى، ويعيدوا إحياء هذه التقنية، كحاملة لرؤى مرتبطة بالإنسان جسداً وروحاً.

ويضيف قائلاً: (كان الرخام، مادة جلمودية تتماسك حبيباتها، مكونة أنسجة مختلفة اللونيات، وكأننا بالنحاتين يرددون تجاهها قول (مايكل أنجلو): إنني أكره هذه الحجارة التي تفصلني عن تمثالي. أغنية رددوها وهم على وعي بأن النحات العظيم أراد قولا عكس ذلك،

لأن التمثال كامن في الرخام، هذا الرخام الذي عشقوه برغم صعوبة التعامل معه، ورغم الجهد البدني والفكري الذي يستوجبه استبطان واستخراج التمثال الذهني فيه، لأن الرخام يشاركهم ويتحاور معهم ومع أدواتهم وآلاتهم ... لتأخذ في النهاية، هذه القرابين الجاهزة للتغلغل في البصر والبصيرة في آنٍ معاً.

د. محمود شاهين

Email