يقال عن أهل البصرة في العراق، إنهم أهل كرم ونخوة، تتسامى أخلاقهم، وتزرع الطيبة في نفوسهم، أبوابهم مشرعة لابن السبيل، وقلوبهم مفتوحة لحب الناس، وقد اتصفوا بالرقة، والإحساس، والعواطف، مما جعلهم أهل طرب وشعر، مثلما هم أهل دين وعبادة.
والبصرة كما جاء في لسان العرب لابن منظور أنها الحجارة الرخوة إلى بياض وسميت البصرة لأن أرضها ما بين العقيق وأعلى المريد حجارة رخوة، ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان إن المسلمين حينما وافوا البصرة ابان الفتح الإسلامي نظروا إليها من بعيد وأبصروا الحصى فقالوا: إن هذه أرض بصرة فسميت بذلك.
أجمعت كتب التاريخ على ان الذي خطها وبناها هو الصحابي عتبة بن غزوان، بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) واختلف الرواة في تاريخ بنائها إلا أن ابن خلدون ذكر أنها بنيت في (سنة أربع عشرة للهجرة).
واعتبرت معقلاً لانطلاق جيوش المسلمين لفتح بلاد فارس وبلدان آسيا. فيها ظهر علم النحو، وكان أبرز رجاله أباالأسود الدؤلي بتوجيه من الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وفيها أيضاً ظهرت بحور الشعر «العروض»، على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي، للبصرة أهمية في تاريخ العرب الحضاري والإبداعي بل والسياسي أيضاً.
تذكرت كل تاريخ البصرة منذ أن خطها ابن غزوان مروراً بكل أعلامها في الأدب والفكر والفن وانتهاء مع المبدع الذي لم يولد بعد، فالبصرة أرض إبداع ومنها فحول الشعراء في تاريخنا المعاصر والقديم.
وفيها يتنوع الغناء فمن إيقاعات بحرية إلى ألحان لبيئات وأجناس مختلفة تشمل كل فنون الغناء وأشكاله وأجناسه ومواويله وموشحاته، ومقاماته ومنها انتشرت فنون البحر، وأغاني العمل، وأغاني الحب، وهي مولد الشعراء الذين شكلوا خارطة الشعر العربي قديماً وحديثاً، ومدينة الفكر حيث ولد فيها فطاحل المفكرين العرب.
تذكرت كل ذلك وأنا أقرأ حزيناً ما نقلته وكالات الأنباء عما حدث في مربد البصرة هذا العام، إذ يقال، ان مجموعة من الموسيقيين كانوا يخبئون آلاتهم، وفاجأوا المهرجان بها ليقدموا بعض المقطوعات الموسيقية، الأمر الذي أثار حفيظة بعض المسؤولين في المدينة وغضبهم وخروجهم من حفل افتتاح المربد احتجاجاً على ظهور الآلات والعزف لأن ذلك يقع في المحرمات «في نظرهم».
استغربت لهذا الخبر، وأنا ابن البصرة مثلما هم أجدادي الذين ينامون قرب الحسن البصري، فأنا أعرف تماماً أن البصرة تزخر بالفنانين وهي رافد مستمر للفنون في العراق منذ ظهورها في بداية القرن الأول الهجري وحتى الآن، منها الشعراء، والأدباء.
والمفكرون، والفنانون على اختلاف تخصصاتهم، انها منبع إبداع، وتذكرت أيضاً عام 1969، كنت عضواً في لجنة فرعية مسؤولة عن الحفلات الموسيقية والغنائية في مهرجان المربد..وكان يومها الجواهري رئيساً لاتحاد الأدباء العراقيين.
ونظمنا حفلاً غنائياً موسيقياً للفنانين البصريين فقط، الفرقة البصرية بقيادة حميد البصري، بمشاركة سيتا أكوبيان، فؤاد سالم، وطالب غالي، وكوكب حمزة، وغيرهم.. أذكر أن كوكب حمزة ليلتها غنى لأول مرة أغنيته المشهورة «ابن آدم» من الحانه، وشعر أبو سرحان، وكان الجواهري يجلس في الصف الأول أمام المسرح ومعه ضيوف المربد من كافة أقطار الوطن العربي، غنى كوكب حمزة.
كما لم يغن أبداً، واهتز الجواهري طرباً، ووقف مبهوراً يصفق، ووقف أدباء العرب يصفقون للبصرة، رفع الجواهري طاقيته، صعد إلى خشبة المسرح قبل رأس كوكب حمزة، وضع طاقيته على رأسه، تثميناً للإبداع، وظل المشاركون في المربد يصفقون لدقائق تكريماً، لأصالة البصريين، ولإبداعهم، ولأنهم الرافد الأساسي للفن والأدب العربي.