إشراقات

صباحات تهرس القلب

ت + ت - الحجم الطبيعي

في هذا اليوم الجديد، وكل يوم هو يوم جديد، كما تقول الحكمة، يأتي الصباح، مباغتا، موشيً ببرودة لذيذة، منعشة، العين، هذه المدينة التي تعبق كل زاوية فيها بذكرى، كم قطرة ندى تضمخ أشجار حدائقها الآن، حديقة البلدية وحديقة آثار هيلى والحديقة العامة، وتجلل شجر نخيل واحاتها، وترطب حشائشها المغرية بالتمرغ فوقها، كما كنا نفعل ونحن صغار دون خجل.

برودة أجواء أوروبية في الخارج، خاصة حين نتأمل وجنات الأطفال المكتنزة بالحمرة من الدفء، والشعور بالاسترخاء والأمان، وهم ما زالوا يغطون في نوم عميق، عميق، اسر، مسترسلين في أحلامهم وعوالمهم تاركين لنا اللوعة. رذاذ قادم في الخارج، لم يتساقط بعد..

تتكثف هذه المشاعر الصباحية الطازجة، مع عادة الاستيقاظ المبكر، العادة التي لم استطع التخلص منها ابداً، رغم التظاهر أحيانا بالنوم، ورغم كثرة السفر، والترحال، والناي، والتفرس في وجوه خلق الله وبلاد الله الواسعة، البعيدة، القاصية.

كلما مررت بمبنى من مباني هذه المدينة، نحتت الذكرى شيئا من شغاف القلب، بأزميل الزمن، بمخلب التذكر، وبقسوة عجيبة، هكذا دون مقدمات ودون رحمة.

هنا مكان من اعز الأماكن، جامعة الإمارات، مبنى المعهد الإسلامي، حيث كلية الشريعة والقانون، والملاعب الخارجية وبركة السباحة التي كدت اغرق فيها يوما بدفعة مفاجئة خلفية من صديق مشاغب، والصالة الداخلية، والقسم الداخلي الذي جمعنا، و..و.. وحيث تاريخ القلب الصافي المُصفى، القهقهات يتراوح صداها في الممرات.

واللغط يعلو ويتصاعد ونحن في طريقنا إلى المطعم، حيث الآمال كبيرة، والأحلام عريضة، وصورة التخصص ما زالت غامضة، غائمة بين متطلبات الجامعة ومتطلبات الكلية، متأرجحة بين الإعلام وبين اللغة الانجليزية، ليجتمعا في النهاية في شهادة التخرج.

هنا كان يجلس أبو بكر قاطع التذاكر عند مدخل المطعم، الرجل الحيي المهذب الذي ما أن يرانا قادمين حتى يسارع بالتحية. رائحة المطابخ الداخلية،التي كنا نتسلل إليها ليلا خلسة من الأبواب الخلفية، حين يعضنا الجوع بنابه في آخر الليل، نهجم بحثا عن بقايا قطعة كاتوه ونتمون من الشاي والسكر والخبز والجبن وما لذ وطاب من بقايا العشاء.

ما زالت «تلك الرائحة» تداعب الأنف إلى اليوم. متى تستحق المدن إذن أن نكتب لها القصائد إن لم يكن في مثل هذه الصباحات التي تهرس القلب. تضغطنا هذه الصباحات بالتذكر، بالمرور بأيدينا، برؤؤس الأصابع نمسد بتمهل وجه الزمن.

ونتلمس نتوءاته وحفره، انحناءاته وارتفاعاته، تضاريسه التي هي تضاريسنا التي لم نشعر بها من قبل، إلى أن تدلت علينا في مثل هذه الصباحات كثريات كبيرة، ضخمة، ممتلئة، معلقة فوق رؤؤسنا، ولكنها مطفأة، خجلى من شقشقة نور الصباح القادم.

aalsanjari@yahoo.com

Email