في معرضه المقام بصالة غرين آرت بدبي

جبر علوان .. مشهديات قلقة تصارع الألوان

ت + ت - الحجم الطبيعي

ذات كتابة نقدية عن أعماله، ربط المسرحي الراحل سعد الله ونوس بين أعمال التشكيلي العراقي جبر علوان وأفلام فليني لناحية احتشادها بالمشهديات والذاكرة والألوان والغرابة.

هذا الكلام وإن يعود لسنوات عديدة منصرمة إلا أنه لا يزال قائماً، ولا يزال جبر علوان مستغرقاً بهذه المشهديات المثقلة بالحياة، حياة يسترقها، أو يخلقها ويتوجها بألوانه الصارخة المتوهجة التي تباغت وتصادم ولا تقف على الحياد أو تتهرب من المواجهة الدائمة والمستمرة، أعمال في مواجهة الذاكرة الشخصية،

والعين التي سرعان ما تضيع بين النعومة المفرطة والصلابة المفرطة في ذات الوقت، وهي لعبة يجيدها علوان ويتفنن في خلق هذه الازدواجية بين الإيحاء العام، والمعنى الحقيقي، بين الوهم والجوهر، انطلاقاً من مركزية اللوحة أو النقطة التي تمثل لحظة التوازن الفعلي الذي ينضبط حوله الفراغ، وهي سمة قد تكون مرتبطة بعلاقة علوان بالنحت الذي درسه ولم يمارسه أو على الأقل لم يراهن عليه في مشواره الفني.

إن التجوال بين أعمال جبر علوان الذي يعرض عدداً من تجاربه في صالة غرين آرت دبي، والتي باتت تمثل محطة أساسية على قائمة حراكه الفني السنوي هو تجوال في بوحيات إنسانية، وبين كائنات تُلقي بسطوة حضورها في فضاء المكان! وفي الفراغ الذي تسبح فيه وتسكنه، فراغ موارب، مأزوم،

وهو في نهاية المطاف مساحة كبيرة للاشتغال في اللون الذي تتأسس فيه العوالم وتولد منه الكتل والكائنات والتي غالباً ما تكون نسوية، فالمرأة على ما يبدو هي المحور، البداية والنهاية، وهي المادة التي تثير كل هذا الشجن والحزن الذي يفرض نفسه وبقوة على مناخ اللوحة، حزن لا تنفع معه كل هذه الألوان البهيجة والصارخة،

متجذر ومتأصل في الأشكال والوجوه التي غالباً ما يتركها بلا ملامح واضحة، في الوقت الذي يحمل الجسد بحركاته وتفاعلاته في مساحة العمل جملة المشاعر الداخلية، وهي في عمومها مشاعر محيرة بين فرح باد أحياناً، وبين قلق في عالم مأزوم، غالباً ما يكون إنسانه الأنثوي محاصراً مستوحداً، ويواجهك بأسئلة لا تنتهي.

الدخول إلى عوالم هذا الفئات حافل بالمباغتة، فالانتقال من زحام الخارج وفوضاه إلى صمت الداخل وتلك العيون المموهة الغائبة الحاضرة والمتفحصة، تسترق النظر إليك وتواجهك كيفما استدرت، كائنات وشخوص تحاصرك وبصورة استفزازية، تسأل،

وعليك ألا تجيب لأن مجرد محاولة ذلك هو سقوط في الفخ الذي الذي يريده جبر علوان، عبر استدراج المتلقي، من كونه مشاهداً حيادياً وعابراً، إلى شريك في الحيرة، ومن ثم إلى ظل، وشخص جديد بين شخوصه المحاصرة بالسطوح، والفراغ، والأفق الموحي بحرية افتراضية، لأن الفخ سرعان ما سيفضي بك إلى حالة استلابية مريرة، وان لا شيء غير الوهم، والسخرية التي تصل مداها،

والأطياف المشبعة بالحنين، والرؤى القديمة التي يعيد علوان صياغتها، واستحضارها، يبني عالمه الجديد على انقاض عالم قديم، تركه خلفه ذات عام، فكانت المرأة والكائنات المغمورة بالضوء، واللون، والإيقاعات، هي ذلك الاستحضار البهيج والبهي.

لا يرسم جبر علوان من ترف، رغم ما تبديه اعماله المشعة والمشرقة بألوانها وأضوائها بل نابعة من قلق ذي سياق زمني طويل، ومن حيرة، أمام العالم، ومن ذاكرة متشظية ومتقدة، تقوده الرغبة في إعادة خلقها، لمحاكمتها ربما، أو للتخلص من سطوتها، عبر تعميقها وتأكيد حضورها، أو لعله يحاول بشكل وبآخر للتصالح معها، هذا من ناحية المضمون،

أما من ناحية الشكل فعلوان يقودنا دون أدنى شك إلى حساسيات لونية نادرة، فهذا الفنان، يتعاطى مع اللوحة بشغف وشبقية متقدة، وبمهارة غير متوفرة كثيراً في التعامل مع اللون والتجادل معه بصرياً، وقدرة رفيعة على التنوع والتجدد من داخل اللون الواحد،

ومن المؤكد ان هذه المرحلة التي وصلت إليها أعمال هذا الفنان، هي حصيلة لسنوات من العمل والتجربة والدراسة، وهي جميعها أمور خولته ان يكون بهذه البلاغه في التعاطي مع التراكيب اللونية، وتطويعها، والتحرك معها وفيها، والارتحال على السطوح والمساحات الكبيرة، وكأنه بذلك يؤكد على رفضه التوقف عن هذه الجدلية الازلية مع اللون،

وكأنه لا يريد وهو الذي يخاف من الزمن كثيراً ان يستريح من الدخول الدائم والمستمر في التحديات المشتركة مع اللون الذي يأخذ في بعض الأحيان شكله الجمالي الذي يطغى على ما سواه، فيصير هو اللوحة، وهو المساحة التي تكمن فيها لعبة التحليل السيكولوجي لموضوع العمل، وعملية الانتقال من الشكل إلى الحالة، ومن الحالة إلى الشكل.

يرسم جبر علوان وكما قال من داخله الذي تختبيء فيه طفولته المستمرة، ولعل علاقته المتداخلة بالأنثى هي طفولة متحررة من الحرج والخوف، لكن هذا الطفل المتخفي استطاع مع الوقت ان يجد في هذه الأنثى الرمز والدلالة والمنعطف، فهو ينطلق من المرأة ويعود إليها، يطلقها يحررها من جملة القيود اللامنتهية، عبر الألق الذي تتمتع فيه.

والتحفز الساكن في مواضع حركتها، لكن هذه المرأة أيضاً لا تمثل ذاتها، بل إشارة ودلالة وايحاء، على واقع وظرف تاريخي واجتماعي عربي، كان ولا يزال.

وإن عدنا إلى الشبه الذي التقطه سعد الله نوس بين جبر علوان، وفليني، يمكننا الإشارة إلى ان هذا الفنان منح وسام محافظة روما، وهو ذات الوسام الذي ناله فليني في إحدى السنوات.

حازم سليمان

Email