محمد ناجي يضع مجتمعه تحت الضوء

"لحن الصباح" صراع التقابل والتضاد

ت + ت - الحجم الطبيعي

صدرت (منذ أيام) عن مكتبة الأسرة 2005 في مصر، طبعة (جديدة) من رواية »لحن الصباح« لمحمد ناجي، وهو كاتب (روائي)، فقد أصدر خمس روايات، هي "خافية قمر« (1994)» لحن الصباح« (1995)، »مقامات عربية« (1999)، »العايقة بنت الزين«(2001)، و»رجل أبله ..وامرأة تافهة«(2002)، في الوقت الذي لم يكتب فيه أية قصص قصيرة!

»لحن الصباح« رواية قصيرة، يشي بناؤها (الموسيقي) البديع بوجه (ظاهر) بسيط متدفق واضح السمات، و(باطن) كاشف لأخطر (ظلال) المجتمع الحديث (المدمرة) للأفراد، بدءا من ساحة الصراع في الرواية، وشخصيتيها المتقابلتين!

تبدو الحاجة ويكا، في المشهد الرئيسي من الرواية، وراء رخامة سوداء بداخل دكانها بأحد الأحياء الشعبية، الذي ارتفعت عليه لافتة »سوبر ماركت العهد الجديد«، بينما افترش الرصيف المقابل للدكان رجلان، يفصل بينهما عدة أمتار.

يبيعان نفس البضاعة من كتب، وأدعية في حجم الأحجية، بخور، علب عنبر، جوز الطيب، مساويك وسبح بلاستيك.هنا، يبدو الرجلان كوجود زائد متطفل على المكان، عرضة لمطاردات الشرطة، وعبث الحاجة ويكا نفسها بأي منهما!

تبدأ الرواية مع أنغام برنامج »لحن الصباح« يذيعه راديو الحاجة ويكا، ليتدفق فيه تيار الحكي، كقطيع موسيقي، طويل، عذب، سلس اللغة، ساطع المفردات .

يبدأ متفجرا بمقدمة يتصارع فيها لحناها الأساسيان، حين ينقض عباس الأكتع على نوفل العجوز الضعيف (كأنه تمرين الصباح الأول) ليجعله يضحك، لأن ذلك الرجل عبوس جهم لا يضحك أبدا، ثم ينفصل عنه، بعد تدخل لحن ثانوي، الحاجة.

ويكا، ليمضيا منفصلين، كل في طريق، من خلال عزف منفرد ذاتي، متقابل، صاعد، يستمر لمدة أربع وعشرين ساعة، يكشف فيها كل منهما عن عالمه، بكل ما يجيش به من متناقضات، عبر ثمانية مقاطع لكل منهما، وان بلغت صفحات العجوز ضعف صفحات الأكتع.

وقد يرجع الأمر إلى طبيعة كل منهما، حيث يميل العجوز إلى التأمل الهادئ بينما يجنح الأكتع إلى الفعل العنيف المركز، لينتهيا إلى الالتحام ثانية (في مقطع أخير)، عند مشرق يوم جديد.

حين ينقض الأكتع على العجوز، فيقضي عليه، دون أن يقصد، لينفرد بساحة المعركة وحيدا، منتصرا، على أنغام »لحن الصباح« (الرياضي)، فإذا هو نصر شديد المرارة، الغالب فيه هو المهزوم الأكبر !

هذا هو وجه الرواية (الظاهر)، التي تبدأ بفعل لم يكتمل كدعابة من الأكتع، لتنتهي بنفس الفعل وقد اكتمل كمأساة دامية!

ما بين البدء والمنتهى .. كيف تفسّر هذه المأساة الدامية؟!

قد يفسر الأمر علي ضوء الغوص في (باطن) الرواية، لاستجلاء تناقضات الواقع، التي صنع منها محمد ناجي لبنات متنوعة الأحجام، شاد عليها باقتدار بناء العمل، من خلال تضفيرها معا، في تيار واحد متدفق، سيطر ظله كقدر قاهر على الرجلين معا، دافعا بالأحداث إلى ذروتها الدامية!

يظهر التناقض فيها فاجعا، وانظر إلى عباس الأكتع بعد أن استقر في سكنه، فعلق على المدخل لافتة كتبها له صبي من طلاب المدارس على ورقة رسم، »تجارة أبطال التحرير«، وانظر إلى رد فعل الحاجة ويكا، حين زرعت قرن فلفل حار في مؤخرته.

وقالت له »مفتشو الضرائب مروا، قرؤوا اللافتة وأخذوا عنوانك واسمك. كنت نائما وقتها، ربنا يستر«، فمزق اللافتة، بينما ظلّ قرن الشطة يلسع دبره شهورا حتى فهم أنها كانت تسخر منه، فضحك وعمل لها أكبر شقلباظ عنده، وقال »كنت أعرف والله«.

وعلى الرغم من أن عباس الأكتع كان فعلا بطلا من أبطال التحرير، إلاّ أنه لا يملك أن يعلن هذا الشرف أمام الملأ، وإذا ما أوضح لها أنه كاد أن يموت في الحرب، فإنها تتشاغل عنه كأنها لم تسمعه.كما أصاب نوفل الكبر والعجز أيضا، فارتعشت يده،بعد أن كان يوما ملء السمع والبصر كخطاط، يخطب المعلنون وده ورضاه.

كلاهما، إذن، لا يحتلان مكانا يليق بماضيهما الكبير، بل هما محاصران، مزاحان إلى مكان هامشي، فانظر إلى ما يجري على ساحة الصراع تلك، وتعجب مما ترى من تقابل فاجع بين الحاجة ويكا، التي تتمتع باستقلال تام، وهي مستقرة آمنة في حياتها وعملها، وتتخذ من أحدث صيحات العصر اسما لدكانها دون أن يحاسبها أحد على اختيارها.

ورجلان يفترشان الأرض ببضاعة تافهة، لا يتمتعان بأي استقلال، رغم ماضيهما، بل تبلغ السخرية أقصاها، حين ينقلب الحال، فإذا هما يعيشان متطفلين على الحاجة ويكا، حين يفطران من بقايا طعامها.

ويدخنان من سجائرها، ويرشان موقعهما بماء من دكانها، ليتعاظم دورها، كأنهما يعيشان تحت أمرتها أو هما مجرد رعايا في مملكتها، حين تلعب دور الناصح الأمين لعباس الأكتع حتى لا يتمادى في عبثه مع نوفل، ثم حين تختار عروسا عوراء للأكتع!

على الرغم من أن عباس الأكتع ونوفل يشتركان في أنهما امتلكا ذات يوم ماضياً باهراً، إلاّ إنهما يعتبران شخصيتين متقابلتين تماما. جنّد عباس الأكتع في الجيش، وشارك في حرب التحرير، وفقد فيها ساقيه، بل وكاد أن يموت هناك، وأصبح يستخدم قطعة خشب مسطحة ذات عجلات أربع كعربة في مشاويره الطويلة.

وعلى الرغم من أنه قبض تعويض الإصابة، إلاّ أنه أهدره في القمار، ويحلم أن يكسب مرة أخرى، ليشتري عربة معدنية بعجلتين كبيرتين .لكن الحرب كانت قد دمغت شخصيته، وأصبحت محور حركتها.

وإذا كان الواقع يقف حجر عثرة أمام عالمه، فسرعان ما يتلاشى هذا العائق بعد أن يتعاطى زجاجات عصير القصب المخلوط بالسبرتو، فيزحف على عربته وعجلاتها تجلجل على الإسفلت كأنها مدرعة، وسرعان ما يقوم »بمناورة بارعة بالعربة، سريعا إلى الأمام ثم إلى الخلف، وعمل دورات كاملة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار«.

هنا، يستعيد عالمه القديم، ليمارس فيه مناورات (وهمية)، وهو يرى نوفل من خلال عالمه العسكري»شيئا لا لزوم له، مجرد قطع غيار«.

هكذا تتوزّع شخصية عباس الأكتع بين ماض قوي مكتمل وحاضر ناقص عاجز، يستعين عليه بالخمر الرخيص، فيبرز جانبا (عنيفا) كامنا من تكوينه .أما نوفل، فهو خطاط سابق، كبر عمره وارتعشت يداه فمنعته من ممارسة مهنته الحبيبة، فلم تنفرج شفتاه بعدها عن ابتسامة، لكن ظلّ ماضيه مازال قويا مؤثرا، وهو دائما ما يستعيده ويأسى له!

كان متزوجا من امرأة تصغره بعشرين عاما، أنجب منها ابنا واحدا، سافر إلى الكويت بعد أن صار شابا وضاع هناك، وهو ينتظر التعويض عنه بعد أن انفصل عن زوجته، التي ساوره الشك فيها، فطلقها.

وإذا كان عباس يجد في الخمر ملاذا، فإن نوفل يلوذ بعالم الشيخ فرغلي أمير المرعوشين وولي أهل الرجفة، ويرتاح إلى حكايات حارس الضريح حول الأمير، الذي سيتحقق العدل من خلاله!

هنا تتوزع شخصية نوفل بين ماض كان فيه ملء السمع والبصر، وحاضر ذليل منكسر، يستعين عليه بالجنوح إلى عالم غيبي، حالما بعودة أمير سيحقق العدل، الذي عجز هو عن تحقيقه!

ويبقى أن الرواية، حين قدمت الوجه المقابل لتأثير ظلال المجتمع الحديث والحرب على نفوس الأفراد الهامشيين خاصة، فإنها بذلك تعتبر صيحة تحذير تدعو إلى ضرورة إسراع المجتمع إلى معالجة هذا الخلل، واحتضان هؤلاء الأفراد، الذي أدوا دورهم للمجتمع ودفعوا ثمنا باهظا، حتى يتبوأوا المكانة التي تليق بتضحياتهم!

حسين عيد

Email