قصة الاسبوع، بقلم: علاء سلمان الدحدوح ، ثلاث رسائل من ثلاثة مسافرين

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس غرة صفر 1424 هـ الموافق 3 ابريل 2003 رسالة المسافر الأول عزيزي (تي): سأحضر في باص السابعة، أتعرف (ين) ان اسمه باص الحياة انظر (ي) كيف قفزت مباشرة الى الحديث عن «الباص» قبل ان اتحدث عن الشوق الى رؤيتك الذي يملأ قلبي. ذلك ان اسمه اوحى لي بأشياء جميلة ومهمة جداً، اهم بكثير من الوردة الحمراء التي سأحملها اليك من حديقتنا والتي ارجو ألا تذبلها ساعات السفر الفاصلة بيننا. لو تعلم (ين) السعادة والتفاؤل اللذين اشعر بهما! ينوءان عن الوصف! كيف لا وقد بدا لي اسم «الباص» البشارة بما ستكون عليه حياتي وانا اتحدث الى جانبك؟ ستكون حتماً سعيدة مثلما أنا الآن. لن اخجل من قول ان الاسم ذكرني، اول ما ذكرني، بـ «عربة اسمها اللذة» ربما ستفكر (ين) ان قراءاتي ومشاهداتي المسرحية مخجلة. سيسعدني ذلك! صحت هاأنذا سأركب «مركبة اسمها الحياة»! مكتفياً بالمقارنة بما يوحيه فقط عنوان المسرحية. مهملاً، لأن ذلك لا يعنيني، احداثها المؤلمة. لماذا اهمل الاحداث المؤلمة؟ هكذا يروق لي وهذه حقيقتي التي انا مقتنع (ة) بها، دون سؤال، ودون شرح ودون دليل. سأركب اذن، في طريقي إليك، باص «الحياة» ألا تدرك ان معنى هذا ان حياتي ستبدأ فقط وأنا في طريقي إليك؟ سأحمل معي وردة حمراء. تعرف كم أنا جاهل (ة) بمعاني ألوان الزهور، الحقيقة انه لا يهمني معرفتها ففكرة تقنين الذوق في مجال الازهار غير سليمة في اساسها، لأستعمل الكلمات الجريئة كما تحبها (لأنك لا تحبها) لأقول انها فكرة غبية بلهاء. تصور (ي) شخصاً رقيقاً، محباً للحياة مثلما نحبها، وربما أكثر (هل هذا ممكن؟)، يعشق زهرة من الزهور عشقاً عميقاً عمق حبّه للحياة، فإذا أحد ممن يزعمون معرفة «لغة الزهور» يخبره انها زهرة مآتم. اتصورك تضحك (ين) عاد (ة) كلامي خروجا، كالعادة، عن المألوف، اخبرتك ان خيالي «الواسع!» يصور لي المألوف مثل كرة اركلها بقدمي بقوة مخلوق اسطوري فإذا هي تخرج ليس من ارضية اللعب فحسب بل تعلو فوق المدرجات والجالسين عليها وتتجاوزهم الى خارج الملعب كله. هكذا انا، وهكذا تحبني (تحبينني). اقرأ ذلك كل مرة في عينيك. ألقيت وراء ظهري ما يعتقدونه يفصلني عنك. كم بدت لي تلك الحواجز ضحلة! ربما ليست في ذاتها ضعيفة الى هذا الحد، ولكن نحن الذين يجب ان نضعفها في أنفسنا، لا ارى (او على الأقل لم أر الى الآن) قوة قادرة على ان تحول بيني وبين سعادتي، يعني بيني وبينك. لا تغتّم (ي)، ولا تضطرب (ي) من جرأتي، ولا تهول (ي) الامور، كعادتك، ألست انا من يفعل كل شيء بينما اتصورك الآن في غرفة الفندق قلقا (ة) تجوبها (تجوبينها) طولا وعرضاً، مرعوباً (ة) من مسايرتك لجنوني. سأترك الولد لجدته. هي متمسكة به وهو متمسك بها. آلمني كثيراً هذا الحل ولكنني اجد العزاء في كونه الحل الامثل. لم اكن لاحسن لعب دور المضحي (ية) بحياته من اجل غيره، فهذه الادوار لا تستهويني حتى في الروايات والسينما. اذكر جيداً الى اي درجة قرفت من شخصية «الأب غوريو» حتى ارغب ان اكون مثله سيكرهني الولد وسيكون حمل تضحيتي من اجله ثقيلاً عليه وسينغص عليه حياته بينما عيناي تتسول شفقته ورد احساني اليه في طفولته.. كم ارى هذا مقرفاً، مثيراً للاشمئزاز! وبماذا ستلقاني (ستلقينني) أنت؟ بحد ادنى، كما ارجو، من القيود التي تأسرك توافقني (توافقينني) طبعاً، انني لم اتخلص من قيودي لاغل نفسي بقيودك كم سيكون ذلك عبثياً وانا اكره، كما تعلم (ين) العبثية (ي): هذه الكلمة التوأم للشقاء والسوداوية، كل من وصف الحياة بالعبثية فعل ذلك بدافع القنوط واليأس منها.. آه، لكم يعتقد الانسان احياناً اشياء خاطئة، هاأنذا اذكر ان فلاسفة اللذة، هم ايضاً، يرون الحياة عبثاً كلها وكذلك شعراؤنا الخمريون. غريب كيف لم يخطر، من قبل، هذا الامر ببالي: لن اكره من الآن فصاعداً كلمة العبثية». ففي النهاية لا تحمل اية كلمة من الكلمات معنى واحداً لا ثاني له. لا ينبغي للانسان ان يكون اسير شيء اخر سوى سعادته. تعلم (ين) انه لا يمكن للانسان ان يكون حراً. حتى الحرية نوع من انواع السجون. واذا كان لابد من كونه اسيراً، فليكن اسير سعادته، ولأنك سعادتي فهذا هو سر تعلقي بك. هذه الكلمة: «التعلق»، تخفيني ايضاً. لو تعلم (ين) كم تختزن من التبّعية والتسليم! لو كان الامر متعلقاً بغيرك، لما رضيت بالتبعية لشيء والتسليم له.. ولكن الا يمكن ان يكون «للتعلق» ايضاً معنى لذيذاً غير هذا المعنى، مثلما «للعبثية» معنى جميل ايضاً؟ وما الذي يهم في كل هذا؟ لا شيء سوى انني اتكلم، كالعادة، وانت صامت (ة).. هكذا تحبّني.. ان افاجئك دائماً! لأعد الى عربة اسمها لذّة. ان كلمة «عربة» كما ترى (ين) بائسة. لو كنت انا من ترجمها لاخترت كلمة اخرى لا توحي بالعودة قروناً الى الوراء. حتى القصة بائسة هي الاخرى. كان يمكن لكاتبها ان يمجّد فيها الرغبة في محو الماضي والانطلاق من جديد ولكنه فضّل ان ينقّب في نفايات الانفس وتعلم (ين) كم ان علم النفس، عندي ليس الا البحث في نفايات النفس التي يسمّونها الانا الباطن، وقيود الماضي. مع ذلك فإنني قريب جداً من ان اغفر لهذه القصة بؤسها بسبب كلمة «اللذة». سأجدك حتماً بانتظاري، ستنهض (ين) كما اعرفك ساعتين قبل السابعة وستقضي (ين) ساعة ونصف متردد (ة) في المجيء الذي سيجبرك على مسايرة الجنون ومواجهة الناس، وباحثاً عن حل وسط لا يهدم كل شيء هدماً، ويحافظ على حدّ ادنى مما لم اعد اذكره من كلماتك الرزينة، التي لن تمنعك في النهاية من تسليم يدك لي لأقودك وسط الصخب الى حيث اريد. ذلك لأنك تحبّني، وتحب في الاشياء التي، لأنك في الحقيقة تحبّها، تكرهها. رسالة المسافر الثاني السيد.. سيكون موعدنا في المحطّة. سأنزل من باص الساعة السابعة. انا واثق انك، لن تجد، بالمعلومات التي ارسلتها اليك، صعوبة في التعرف عليّ، لكن ولاجتناب اي خطأ محتمل سأكون مرتدياً بنطالاً اسود ومعطفاً اخضر سأرفع ياقته الى اعلى، وسأقف الى الجهة الخلفية للحافلة فور نزولي وسأطبطب على فخذي الايمن. قل لي حينئذ كلمة السرّ وسأجيبك عنها. لست ادري لماذا اواصل الكتابة مع اني انهيت ما كان ينبغي ان اكتبه. بل اني اكتب وانا واثق، حسب الصورة التي شكلتها لك في ذهني، انك لن تقرأ اكثر من السطرين الاولين الضرورين لانجاز مهمتك. كل ما خلا ذلك «ادبيات» تضر بالعمل. ربما لست في النهاية اكتب الا لنفسي، الا انني سأظل اخاطبك، لأنه اصبح من المؤلم لي جداً ان اكلم نفسي، ذلك الحديث المرّ الذي يسمونه اجترار الافكار السوداء. قبل نصف ساعة، خطرت بذهني مجدداً فكرة الانتحار. كنت سأريحك، او ربّما، بالعكس تماماً، كنت سأحرمك لذّة سادية عارمة، ما دمت ستوصلني الى النتيجة نفسها على كل حال، مع تلك النشوة الانتصارية التي اظنك في انتظارها. يبدو انه بقي في رأسي، بقية عقل. فهو، اضافة الى انه لا يزال يرفض فكرة الانتحار، دفعني الى البحث في الموسوعة والقراءة عنها قراءة متأنية، مستقصية، عميقة ومتجرّدة حيادية. لم اكن اعتقد أني قادر على ذلك. الانتحار كما قالت الموسوعة هي الجريمة التي يمتزج فيها القاتل والضحية. ومعنى هذا كما هو واضح انه يمكنك النوم ملء عينيك هانئاً ا تزعجك الكوابيس وسوء الاحلام. فأنت في حقيقتك لست الا الآلة التي استعملتها انا لأقضي على نفسي انا المجرم الضحية. لو كنت اقوى قليلاً، نفسياً، لحاولت التعمّق اكثر في فهم كيف تمتزج شخصيتا القاتل والضحية كي تعطي هذا المخلوق الغريب الشاذّ الذي يسمّى المنتحر. لكن عوض ذلك، وتماماً مثلما تحدث في بعض الجنائز وقائع طريفة لا تقع في غيرها، تذكرّت نكتة افريقية. الظروف المختلفة تعطي مفاهيم مختلفة لمعارفنا. لهذا فهمت تلك النكتة كما لم افهمها من قبل! ولأنني متأكد انك لم تصل في قراءتك الى هنا، ولأنني اعرف انك لا تملك، لحسن حظك، روح الدعابة حتى وان كانت سوداء مثل هذه فإنني اقول انها تتعلق بحيوان «التمسبع» الخطير. تقول النكتة الافريقية انه حيوان شبيه بالتمساح. ولكن عوض ان تكون له مؤخرة كغيره من التماسيح فإن له مكانها، رأس أسد. وتسأل النكتبة لماذا هذا الحيوان خطير أكثر من غيره، فتجيب لأنه لا يستطيع قضاء حاجته! لم أضحك!.. تألمت لهذا الحيوان الذي لا وجود له والذي ينتحر ببطء كلما أكل قليلاً، وقلت حتى مع علمي بسذاجة ما أقول غير انني لم اجد احسن منه لألخص به ما أسميه حياتي. قلت: كل لذة نقضمها أو نقضيم جزءاً منها هي، بشكل من الأشكال، انتحار أو جزء منه. لم تبد لي، فيما اذكر أبدا فكرة ان كل مخلوق يتوق (وليس يسير فقط) الى الموت، اصح مما بدت لي حين تذكرت النكتة. آه!، ان العقل آلة غريبة.. ينقلك من موضوع الى موضوع بطريقة لا يتصورها هو نفسه في البداية.. فأنا لا أكتب لك طبعاً لأرروي الطرائف والملح. حين يصل المرء في نهاية حياته الى مثل ما وصلت اليه يتساءل عن جدوى عيشته بتفاصيلها كلها اذا كانت هذه نهايتها. يتذكر التعب والشقاء والخيبات والألم ويتذكر ايضا الانتصارات الصغيرة والآمال الكبيرة التي جعلته يسعى ويركض ويقفز ويعض ويسهر، فيقول: اي نتيجة لهذه الدوامات الصغيرة كلها؟ كنت أمر، عندما كنت صغيراً، بمتسول عجوز جالس الى جدار متهالك، يمد يده دون أن يسمع له صوت، وكنت أعجب كيف يمكن ان يوجد متسول في مثل تلك السن وأقول لنفسي، لو كان قد وفر في كل يوم من حياته الطويلة فلساً واحداً لما اضطر الى مد يده. كان عقلي براغماتياً.. منذ صغري! ما أكثر ما قيل لي هذا.. ولكن ما نفعني شيئاً؟ أنا متأكد الآن أنك لم تصل الى هذه الاسطر. وإن ساورني الشك في كون الفضول قد دفعك الى تجاوز الملل قليلاً وقراءة ما كتبته من قبل. وأنا في غاية الأسف لأنك لن تقرأها، لأنني سأقول فيها إنه لا توجد حياة تستحق أن تعاش إلا حياتك. ربما لا أعرفك ولم أرك من قبل، ولكن عندي تصور كامل عنك. أنت باختصار، شخص، لا ضمير له. أعرف انك لن تقرأ هذا ولهذا أكتبه. ثم انني لا اقصد به أي نوع من أنواع الذم. فالشخص الذي لا ضمير له، هو فيما صرت أعتقد الذي لا يستوقفه من خصوصيات الناس حسنها وسيئها، شيء، هو الذي لا يتساءل إن كان الشخص الذي حياه في الصباح تعيساً أو سعيداً، هو الذي لا تثنيه قراءة اليأس في عين شابة، أن يبيعها سم الفئران، تماماً مثلما يبيعها، وهو يراها سعيدة، وردة حمراء تهديها لحبيبها. هو الذي ينام مباشرة حين يدخل فراشه ولا يذكر في الغد انه حلم أي حلم سعيد أو مزعج. لهذا تجدني لا أكرهك.. خاصة وانك لا تشعر بأي نوع من العداوة تجاهي. سأرتدي بنطالاً أسود ومعطفاً أخضر سأرفع ياقته الى أعلى، وسأقف الى الجهة الخلفية للحافلة فور نزولي وسأطبطب على فخذي الأيمن. قل لي عينها كلمة السر وسأجيبك. اسم الباص هو «باص الحياة». لكم هو معبر. رسالة المسافر الثالث العزيز.. أكتب لك لأخبرك انني قادم. لا اتوقع منك انتظاري في المحطة. فأمثال هذا الأمر لا تهمني كما لا تهمك انت أيضاً. قد تكون مع ذلك امور وترتيبات تريد ان تسبق غيرك باعلامي بها ولن افاجأ حينئذ برؤية تقاسيم وجهك ال... لأسميها العادية التي لا شيء يميزها، أول شيء يقابلني عند باب الباص. طبعاً ليس في قولي تقاسيم عادية أية اهانة، حتى وان كان غيرك يعدها كذلك، فهي بالنسبة لك «مثلي تماماً» غير جارحة. الناس يضفون على الاشياء والاقوال صفات المهينة، والمغضبة، والجميلة والمفرحة الخ، ليعطوا ان لم يكن معنى فعلى الاقل نكهة لحياتهم التي هي في حقيقتها بطحاء مسطحة لا طعم ولا لون ولا رائحة لها، تماماً مثل تقاسيم وجهك. سيصل الباص على الساعة السابعة، بعد سفر طويل «ممل بالتأكيد» سأحاول ان انام خلاله، لأن لا شيء يسترعي الانتباه أو يستحق الاهتمام طول الطريق الذي سيمر بمناطق جرداء ومدنا شبيهة ببعضها وعدداً من القرى الاشباح. ما الذي يمكن ان يفاجئني وانا عائد لتوي من الصين والهند ولم ار فيهما ما يثير ادنى دهشة. الناس كلهم اشباه بعضهم واهتماماتهم هي نفسها. لكم بدت لي دهشة السواح الذين كنت معهم مفتعلة وسعادتهم مصطنعة وهم يجولون في التاج محل والمدينة المغلقة، ويخطون، متعثرين، خطوات الرقصات المحلية بعد ان غيروا ملابسهم بأخرى ملونة تزعم ادخال البهجة وتحقيق الفرحة. كانت دواخلهم المليئة بالضجر والملل تنفضح امامي وهم يكسلون عن النهوض في الصباح، ويتحققون المرة تلو الاخرى من مواعيد ايابهم ويتناولون اكلات بلادهم العادية بعد يومين او ثلاثة من حماسة تناول المأكولات «الاكيزوتيكية». شيء واحد في هذا كله يثير العجب!: تلك القدرة على الكذب على النفس ثم تصديق هذا الكذب! اعتقد ان هذه القدرة هي التي تبني عليها حقائقها تلك المعالجة النفسية المتمثلة في اقناع الذات بما ليس فيها. ينبغي ان يدعوا هذه الحقائق: الحقائق الكاذبة أو الكذبات الحقيقة! بمثلها يقولون انه يمكن للرجل الجبان ان يصبح شجاعاً بعد ان يردد عدداً من المرات: انا شجاع.. انا شجاع.. انا شجاع! هكذا ضحكاتهم ورقصاتهم، نوع من الترديد عدداً من المرات يومياً أنا سعيد.. انا سعيد.. انا سعيد. من هذه الزيارة اخذت عادة الاطلاع على خارطة الطرق والاماكن التي سنمر بها. ولهذا قلت لك اننا سنمر على مناطق لا أهمية لها. ليس الأمر تشاؤما اذن، هو فقط وصف الواقع بما فيه. لا تعرف طبعاً. فهذا امر لا يهمك، انني حاولت فهم لماذا اصبح الواقع رتيباً هكذا. اخبرك، مع علمي ان هذا الامر أيضاً لا يهمك، انني توصلت الى السبب: انه استتراف الدهشة. منذ ان اصبحت الدهشة وظيفة تخصص فيها الكتاب والسينمائيون واصحاب شركات السياحة ولاعبو السيرك والمسرحيون والرياضيون ولا أدري ماذا أيضاً وأصبح الانتاج فيها آلة لا تعرف التوقف، والدهشة الحقيقية «عدا تلك المفروضة علينا على شاكلة انا مندهش.. انا مندهش» في انحصار. مدهش! هل ذقت الشوكولاتة بالفستق ونكهة الفراولة؟ ولحم الدجاج بمذاق لحم البقر. هل ذقته؟ انه رائع. وهل شاهدت ذلك الفيلم الذي ليست السيارات فيه الا عفاريت قدمت من ماض سحيق ومن كوكب اختفى قبل ولادة هذه العفاريت؟ كانت السيارات تطير كأنها طائرات ولكنها تتوقف كذلك في الهواء وترجع إلى الخلف و.. وتحب أيضاً وتفعل اشياء اخرى مدهشة! أنا وأنت، نفهم كم ان هذه الدهشة مسكينة! لهذا ستفهم أيضاً انني سأرخي الستار على نافذتي في الباص الذي نسيت ان اخبرك ان اسمه «باص الحياة». ولا عجب. هل يمكن ان يكون اسمه إلا هذا، ونحن نقوم برحلة رتيبة اشد ما تكون الرتابة؟ الأولاد ينتظرون بالتأكيد ما الذي احضرته لهم. اصدقك القول انني لا اعرف، اذ لست انا الذي اخترتها. فقد كانت معنا امرأة تضع قبعة مخروطية ملونة كقبعات السرك على رأسها وتضحك طول الوقت. طلبت منها شراء هدايا للأولاد وضعتها في الحقائب دون ان اراها. لم افاجأ، وقد تعارفنا قليلاً تعارفاً اخشى ان تكون عدته صداقة، من كون مرحها وضحكها يخفيان، ان لم يكن تعاسة، فسآمة كبيرة من الحياة. ظللت مهذباً وبقيت صامتاً. ولكنني اصدقك انني لم اكن استمع جيداً إلى تفاصيل حياتها التي اعتقدت بالتأكيد خاصة حين كانت تمسح بين الفينة والاخرى دموعها، انها جديرة بأن يستمع اليها. عموماً، حياتها لا تختلف عن حياة كثير غيرها. تتعلق، فيما فهمت من بعض حديثها، بشخص احبته ولكنه ذهب مع امرأة غيرها. لا اذكر جيداً. ربما القصة غير هذه، ولكنها شبيهة على كل حال. الأولاد اذن، بما انهم، مع الجهال والمغفلين، الوحيدين الذين لهم الحق في الدهشة، سيسعدون حتماً بألعاب هذه السيدة. أما لي ولك، فقد اشتريت ألبسة داخلية قطنية تقي من البرد، وبناطيل واحذية. النهاية: حافلة السابعة لم تصل. تعرضت لحادث في منتصف الطريق تقريباً. أغلب المسافرين أصيبوا إصابات طفيفة، إلا ثلاثة: واحد قضى، والآخر اصيب بجرح بالغ، والثالث سلم كأنه لم يكن داخل الباص

Email