عند الحدود الفاصلة، يكتبها: جمال الغيطاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 10 محرم 1424 هـ الموافق 13 مارس 2003 رغم أن الحدود ماثلة في كل الجهات، إلا أنها أكثر وضوحا وأشد إرتباطا بالغرب، نهر النيل يقسم الصحراء إلى شرقية وغربية، بالنسبة لسكان وادي النيل، الأمر نسبي في المكان دائما، فبالنسبة لساكني الصحراء المغربية، أو الجزائرية، أو الليبية، تعد الصحراء الغربية عندنا نحن المصريين شرقية، لذلك أقصر حديثي على وادي النيل، ذلك النهر الذي كان سببا في ظهور الحياة على جانبيه، وكان الأساس لكل ما جاء بعد ذلك من حضارة وتكامل مفهوم إنساني، روحي للكون، الحدود في الصعيد واضحة، الشرق شرق والغرب غرب، الذي حدد الجهات بهذا الحسم، شروق الشمس وغروبها، وذلك النهر المتدفق، القادم من الجنوب إلى الشمال، والذي ترتبط حركة المياه فيه بتوقيت معلوم.ظهور ذلك النجم الذي عرفه اليونانيون بسونتيس، وعرفه العرب بالشعري اليمانية، ظهوره يعني الفيضان، منذ القدم، كانت الأنفاس تتعلق بزيادة مياه النيل، ذلك التدرج البطئ في الإرتفاع، ذلك الإرتفاع الذي لا يتم فجأة، إنما يترقرق متدرجا، أنه أساس التصور المعماري لمداخل المعابر المصرية التي يجب أن يسعى الإنسان إليها عبر مرتقى يتدرج على مهل ولا يكلف الإنسان مشقه الصعود وبالتالي تهدج الأنفاس. في الشرق قصور الملوك والنبلاء وفئات البشر المختلفة، ومعابد الطقوس اليومية والعبادات في الشرق أرض مزروعة، حدودها واضحة وصريحة لأن طبيعة الأرض هنا تصبح صخرية إذ تبدأ مرتفعات الصحراء الشرقية والتي تندرج في الإرتفاع حتى حد البر عندما تصل إلى ساحل البحر الأحمر، حيث الألوان صريحة واضحة، والحدود بينها واضحة جدا، الأزرق العميق للماء، والبنى للصخور، والأصفر للرمال، أما الخلجان وأماكن الشعاب المرجانية فلا تضيف ألوانا جديدة إنما تمنح اللون الواحد درجات مختلفة. الأرض الزراعية شرقا ضيقة، محدودة، فالمرتفعات الصخرية التي نسميها جبالا تحد إنطلاقها. يستمر هذا الوضع حتى مدينة نجح حمادي، محافظة قنا، يصبح الشرق أفسح للخضرة ولكن بحدود واضحة، محددة، الصحراء الشرقية تتميز بالصخور وكنت أطلق عليها الجبال حتى رأيت جبال اليمن وجبال كردستان شمال العراق، فأدركت أن جبالنا في الصحراء الشرقية ليست إلا تلال صخرية متواضعة، لكنها قديمة جدا، ومليئة بالتضاريس، لمحت في صخورها أسماك وأصداف متحجرة ربما عمرها ملايين السنين، وجودها هنا يعني أن المياه كانت تغطي هذه الصحراء يوما، تبدو الجبال مصمتة للناظر إليها من بعيد، لكن عند الاقتراب منها، وبدء السير فيها يكتشف الإنسان إنها مليئة بالممرات والدروب التي لا يعرفها إلا الخبير، الذي اضطرته الظروف للعيش في الصحراء مثل الرهبان، التعامل المؤقت معها مثل المطاريد وتجار المخدرات، أثناء عملى كمراسل حربي في السنوات التي تلت السابع والستين من القرن الماضي، أي عام الكارثة عرفت الصحراء الشرقية لأول مرة، كثير من مناطقها لم تكن مدونة على الخرائط، بل أن الساحل المحاذي للبحر الاحمر كان شبه مهجور، الغردقة لم تكن إلا مجرد قرية صيادين، كذلك سفاجه والقصير، حتى القرن التاسع عشر كان ميناء القصير مكانا شديد الأهمية لأنه طريق الحج، أهم نقطة عليه للقادمين من شمال أفريقيا إلى القاهرة، إلى مدينة قنا، ثم عبور الصحراء إلى ميناء عيذاب، على الضفة الأخرى من البحر ميناء جدة، أي الأراضي المقدسة وصولا إلى مكة والمدينة. خلال أسفاري لم أعرف موقعا بهذه القوة وذلك الحضور أذكر عبوري الصحراء من محافظة بني سويف، عند نقطة تقع جنوب القاهرة، إسمها الكريمات، طريق جديد شقه الجيش المصري ورصفه ومهده حتى يربط محافظة البحر الأحمر الساحلية بالوادي، وتلك المحافظة تعتبر الأطول في مصر، إذ أنها تمتد من جنوب محافظة السويس حتى حدود السودان، أكثر من آلف وخمسمئة كيلو متر، وقد عرفت الساحل شبرا، شبرا زمن الحرب، أنه حدودي بأكمله، فالبر والبحر متجاوران، ممتدان، لم يكن الوصول إليه ممكنا إلا بترتيب خاص، الآن يفد إليه الباحثون عن الراحة والشمس من كافة أنحاء العالم خاصة من صقيع أوروبا وثلوج الشمال. مازلت أذكر وصولي إلى مقام وضريح سيدي أبو الحسن الشاذلي، القطب الصوفي، الذي لاقى ربه وهو في طريقه من المغرب إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، يقع ضريحه في عمق الصحراء، ويؤمن القوم أن من سعى لزيارة ضريحه سبع مرات فكأنه حج مرة، والحقيقة أن المشقة التي يتكبدها هؤلاء أصعب بكثير من مشقة الحج ربما كانت المنطقة من أعمق أماكن العالم صمتا، صمت لم يخدشه صوت مخلوق معظم الوقت، دائما تقع أضرحة الأولياء والصالحين عند الحدود الفاصلة، عند مداخل المدن، عند المرتفعات المطلة على القرى والوديان، عندما قطعت طريق الكريمات، الزعفرانة في حوالي سبع ساعات، قبل أن نرى البحر الأحمر، عميق الزرقة رأيت لافتة تشير إلى دير الأنبا بولا، ودير الأنبا أنطونياس، كلاهما مؤسس للرهبنة القبطية في المرحلة الأولى من اعتناق مصر للمسيحية وإضفاء الخصوصية المصرية عليها، مصر قدمت نظام الرهبنة إلى العالم، وفي تقديري طبقا لما رأيته من شواهد فهذا النظام امتداد بشكل ما في مضمونه وكثير من تفاصيله للنظام الذي كان متبعا في المعابد المصرية القديمة لتربية الكهنة روحيا وجسديا، عندما أتأهب لدخول المعابد المصرية التي وصلت إلينا سليمة تقريبا، لم تدمر تماما، أتذكر أنه كان من المحظور على الرهبان أكل الثوم أو السمك وكل ما من شأنه أن يحدث رائحة كريهة لحظة إفراز العرق، كان لابد من نظام خاص في المأكل والمشرب تمهيدا لأداء الطقوس. تقوم أماكن العبادة عند الحدود الفاصلة بين الزرع والرمل، بين الأخضر والأصفر، بين الجدب والماء، عندما بلغت المكان النائي، البعيد، دير الأنبا بولا، دير الانبا انطونياس، شعرت أنني بعيد جدا، قصى جدا، أستعيد تلك اللحظة من عام تسعة وستين بمهابة، بجلال، كنت مأخوذا بعمق الصمت، وإحساس بالنأي، بالبعد، تخيلت الرحلة التي قطعها هذان الراهبان في زمن بعيد لم تكن فيه سيارات أو وسائل راحة، ترى كم من الوقت استغرقا للوصول إلى هنا ليتفرغا للعبادة بعيدا عن اضطهاد الرومان، كيف قطعا المسافة ؟ لماذا استقرا هنا؟ بالنسبة لتساؤلي الأخير لم تكن الإجابة عسرة، كانت تكمن في عين الماء التي لاتزال تنبع حتى الآن، لتوجد أساس الحياة في هذه المنطقة الجدباء تماما، من هذه العين عاش الرواد الأوائل ومن تلاهم وصولا إلى المقيمين بالديرين حتى يومنا هذا، المكان كله عند الحافة، عند الحدود، الماء في عمق الصحراء يعني الحد الأول والأخير للحياة، المكان كله على حافة الصمت، لكن الوجود الإنساني يضع له حدودا أخرى مع الحياة والفناء هذه الصحراء كلها تمت إلى الشرق بوديانها، ومرتفعاتها، ومخرات السيول فيها، لكن الحدود الجلية، الواضحة تستقر عند الغرب. الغرب لأنه موضع رحيل الشمس، وهذا يعني الحد الفاصل بين النهار والليل، بين النور والعتمة، بين الحياة والموت، لهذا كانت المعابد الجنائزية في الزمن المصري القديم كلها في الغرب. في القرنة، أي البر الغربي للأقصر، أثرى وأعظم مكان في العالم القديم والحديث تجسدت فيه الحدود الفاصلة بين الحياة والموت، بين النهار والليل، بين الاخضر والاصفر، بين النماء والجدب، تتوالى المعابد الجنائزية العظمى متجاورة، معبد أمنحتب الثالث الذي أقيم في بيت بني فوق جزء منه، من يدري ؟ ربما قدس الاقداس، إلى جواره معبد الراسيوم الذي بناه رمسيس الثاني. ومعبد سيتي الأول، وإلى الجنوب معبد هابو الذي بناه رمسيس الثالث ومازال في حالة جيدة، ثم معبد الدير البحري الأشهر الذي بناه المعماري العبقري سنموت للملكة حتشبسوت ومازال في حالة جيدة. المعابد كلها عند الحد الفاصل بين الزرع والصحراء، وهذا ما إستمر أيضا في العصر القبطي، قبل وصولي إلى الاقصر في عيد الاضحى بأسبوع واحد، جئت إلى محافظة قنا لمدة ليلة واحدة، وفي الطريق إلى المدينة التي شهدت تحديثا رائعا على يدي محافظ نزيه، فريد، هو اللواء عادل لبيب، عرجت على مدينة نقادة، وهي مدينة عتيقة معظم سكانها من الاقباط، الحديث عنها يطول، لكنني أقصر فأذكر بسرعة زيارتي للأديرة السبعة التابعين لمطرانية نقادة، كل هذه الاديرة على حدود الصحراء، تقوم على الأرض الجدباء، أحد هذه الاديرة مخصص للنساء، عندما وصلنا إليه كان مغلقا وقفنا أمامه منتصف اليوم. الاسوار مرتفعة، وثمة مقابر قديمة متناثرة، الباب موحد، خفير يحمل سلاحا آليا يقف بالقرب، أخبرنا أنه من غير المسموح الزيارة ولن يفتح الباب، رحت اتطلع إلى الأسوار، إلى الباب المغلق، إلى البناء البسيط القائم على الحافة، في مواجهة الصحراء، تأثرت جدا بهذا الوجود الصامت، خاصة وأن المقيمات كلهن نساء. ليست الأديرة عند الحافة، إنما المساجد أيضا، عند رأس الطريق المؤدي إلى الدير البحري يقوم مسجد آل الطيب، وبه الساحة الشهيرة التي يؤمها المؤمنون من كل حدب وصوب، حتى بعد انتقال الساحة إلى منطقة القرنة الجديدة، ظلت جزءا من المسجد الجديد الذي يقوم عن الحافة، عند الحدود، وفي الساحة أمضيت ليلة ثاني أيام العيد، أتحدث إلى الصحب الحميمين، خاصة الدكتور الشيخ أحمد الطيب، مفتى الديار المصرية، كنت أنعم بالصحبة والمودة، وأقف أيضا عند الحدود.

Email