الرؤى الكونية في تطور مستمر من الخيال للخيال

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 5 شعبان 1423 هـ الموافق 11 أكتوبر 2002 تبنى القدماء طرقاً غريبة لتفسير الكون، لكن برغم القرون الطويلة التي تفصلنا عنهم والتقدم الهائل في مجال العلوم والفلك، فإن نظرياتهم يمكن ان تقارن بشكل مباشر بنظريات اليوم من حيث غرابتها وجموحها. لقد كان المصريون القدماء يعتقدون ان الكون يتخذ شكل الجسم المنحني للآلهة نوت. في حين أن الصينيين اعتقدوا بان الكون ولد عندما استيقظ عملاق نائم وخرج من بيضته الضخمة. اما الإغريق فقد اعتبروا ان الكون هو عكس التشوش والفوضى. على مدى آلاف السنين بزغت قصص عديدة لتفسير بداية الوجود. لكن لم يتمكن العلماء من نبش الإجابات الحقيقية إلا في السنوات القليلة الماضية. واستخدمت في هذه المهمة الهائلة، بعض اكثر التقنيات تكلفة وتطورا في التاريخ، من التلسكوبات الارضية العملاقة الى الاقمار الصناعية المدارية. لكن تبين ان التقنية الأقوى على الإطلاق هي القلم والورق في ايدي علماء الكونيات الذين يحاولون فك الغاز الكون. ويتمحور جوهر الفهم الجديد غول مزاوجة أهم فكرتين في الفيزياء الحديثة: نظرية الكم (قوانين عالم الجسيمات الذرية) ونظرية آينشتاين للنسبية العامة، والتي تصف النسيج الذي صنع منه الكون بالنسيج الذي تتشابك فيه خيوط المكان والزمان. للوهلة الأولى، قد لا تبدو القوانين التي تحكم الجسيمات الذرية ملائمة لفهم الكون الشاسع الذي لا يمكن تصور حدوده، لكن الحاجة لأخذ هذه القوانين بعين الاعتبار جاء نتيجة للخاصية الأهم من خصائص كوننا، والتي اكتشفت قبل سبعين عاما، وهي خاصة توسع الكون. تظهر المشاهدات الفلكية للمجرّات البعيدة أنها تتحرك مبتعدة عن بعضها البعض مثل صور ملصقة على سطح بالون يتم نفخه بالهواء. ويوحي هذا التوسع المطرد مع الزمن بان الكون كان أصغر مما هو عليه الآن. وتشير المشاهدات الرصدية الحالية بان الكون قبل حوالي 14 مليار عام كان اصغر حتى من أصغر جسيم داخل الذرة ومرّ بانفجار هائل سمي بالانفجار العظيم. ومن الواضح ان أي محاولة لفهم كيفية نشوء الكون من حالة الجسم الذري يجب ان تعتمد على قوانين الفيزياء ذات الصلة، وبالتحديد نظرية الكم أو النظرية الكمية كما يسميها البعض. لكن النظرية الكمية لوحدها لا تعطي كل الاجابات فالكون، بالتعريف، هو كل شيء مادة وطاقة ومكان وزمان. وتعتبر نظرية النسبية العامة افضل توصيف متوفر لدينا عن العلاقة بين تلك العناصر الاربعة، ولذلك يجب اخذها بعين الاعتبار في اي محاولة لفهم ماضي وحاضر ومستقبل الكون. لكن التوفيق بين نظرية الكم ونظرية النسبية العامة اثبت انه امر صعب للغاية ففي حين ترى النظرية الكمية كل شيء وحتى المكان، على انها كتل منفصلة تدعى «كمّات» (جمع كم) فإن النسبية العامة تتعامل مع المكان والزمان كنوع من «نسيج» ناعم تشوهه المادة، وكأنها كرات رخامية موضوعة على قطعة قماش. وبرغم ذلك، فقد أحرز المنظرون الفيزيائيون مؤخراً تقدماً كبيراً، في التوفيق بين النظريتين، اثمر نتائج مذهلة لعلم الكونيات. وكان العلماء في السابق يعتقدون ان الجاذبية هي القوة الوحيدة الأهم في ضبط الكون، وتتكهن نظرية آينشتاين انه في اللحظة التي ولد فيها الكون، لابد أن الجاذبية كانت قوية بشكل غير محدود. إذن كيف بدأ التوسع الكوني الذي نراه اليوم؟ نظرية الكم يعتقد علماء الكونيات الآن بان الاجابة عن هذا السؤال تكمن في التأثيرات التي فسرتها نظرية الكم. وبحسب «مبدأ الارتياب» الفيزيائي من الممكن معرفة حجم الطاقة الموجودة حتى في الفراغ الفضائي وتوصي هذا الارتياب بان الطاقة يمكن ان تنبثق في اي مكان، وتمتلك ايضا خاصية غريبة وحاسمة في الوقت ذاته وهي أن بامكانها ان تعمل كجاذبية مضادة. ويعتقد علماء الكون الآن بأن شكلاً من اشكال طاقة الفراغ الناجمة عن الانفجار العظيم في مراحله الأولى يتغلب على الجاذبية في عملية تعرف بالتضخم الكوني، وحتى وقت قريب، كان العلماء يعتقدون ايضا بان طاقة الفراغ تلاشت بعد فترة وجيزة في الانفجار العظيم. لكن الدراسات الحديثة للمجرات البعيدة اظهرت ان الكون يتوسع بوتيرة متسارعة باستمرار، مما يشير الى آن طاقة الفراغ لاتزال موجودة. وفي الحقيفة فإن البيانات الأخيرة تشير الى ان الطاقة لاتزال هي الطاقة الأقوى في الكون. ومن أكبر التحديات التي تواجه علماء الكونيات تفسير سبب كل هذه القوة الهائلة التي تمتلكها طاقة الفراغ. ومن المفترض ان تأتي الاجابات في المحاولات الرامية لبناء نظرية كل شيء التي تستوعب كل القوى العاملة في الكون والجسيمات الذرية التي تؤثر فيها تلك القوى. نتائج مذهلة وفي النتائج المذهلة التي تمخض عنها البحث عن هذه النظرية الشاملة ان عالمنا رباعي الابعاد، القائم على المكان والزمان، ربما يكون مجرد فترة صغيرة من العالم الحقيقي. وقد وجد واضعو النظريات بقيادة عالم الفيزياء الاميركي ايد ويتين بان المزاوجة بين النسبية العامة والنظرية الكمية يبدو أنها تستلزم وجود المزيد من الأبعاد للكون. قاد هذا الى الاقتراح بان كوننا ليس كبيراً بشكل غير محدود وحسب، بل له 11 بعداً أيضاً. ويعتقد أن معظم تلك الأبعاد الاضافية صغيرة الى درجة تجعل من المستحيل رصدها. والكون الذي نراه ربما يكون السطح رباعي الابعاد المحيط بفقاعة المكان والزمان اللامتناهية ومتعددة الأبعاد. وهناك جدل محتدم الآن حول هذه الرؤية الثورية لعالمنا فالمنظرون من امثال نايل توروك في جامعة كمربيدج يعتقدون ان الاصطدامات بين «السطوح» المختلفة للكون ربما تطلق شرارة «انفجارات عظيمة» تالية للانفجار الذي ولد منه الكون. وهكذا نجد أن الاساطير الكونية العجيبة التي تبناها القدماء بكل ما فيها من جموح وغرابة تبدو متواضعة امام جموح الرؤى الناشئة اليوم عن كوننا الفسيح اللامتناهي الذي تقف امامه اعظم عقول البشر حائرة عاجزة امام عظمة الخالق. علي محمد

Email