سعيد سريح السماحي يتذكر: أقمت أول مدرسة بمنطقتي من «دعون» النخيل

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 4 شعبان 1423 هـ الموافق 10 أكتوبر 2002 بالعلم والمال يبني الناس ملكهمو لم يُبن ملك على جهل واقلال بهذه المقولة الشعرية الشهيرة يعبر الحاج سعيد سريح السماحي عن حركة الحياة في وطنه خلال الثلاثين عاما الاخيرة والتي تمثل ثلث عمره تقريبا. ولانه بدأ رحلته في الحياة مع العلم ـ متعلما ومعلما ـ فانه يقدم شهادته للتاريخ بان نهضة الحاضر ومسيرة التقدم في بلاده لم تكونا الا نتاجا لاجتماع المال والعلم معا في عصر زاد فيه الخير وعم الرخاء فجنى فيه الاحفاد ثمار ما غرسه الاجداد والاباء. يقول الحاج سعيد: لقد اكرمني الله عندما امد في عمري لاشهد ازدهار العلم في بلادي بعد ان فاض الخير في ارجائها فجاءت الثروة التي تحولت على يدي صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة ـ اطال الله عمره ـ الى وسيلة لتغيير حياة الناس الى الافضل، انطلاقا من العلم الذي انتشرت معاهده في كل مكان لتطور حياة الانسان. وقبل ان ينطلق ضيفنا في «حديث الذكريات» يتوقف ليقول: ان ما يحيط بنا الآن من عمران ونهضة لم يكن واردا في احلامنا نحن ابناء ذلك الجيل الذي عاصر شظف الحياة وصعوبة المعيشة، فقد كان الحلم بالرخاء عصيا على النفس في ظل ما كنا فيه من جدب ومحن. المطاوعة اساتذة الجيل ويستعيد ضيفنا من عمق ذاكرته التي لاتزال حية وخصبة تلك البدايات الاولى في حياته عندما وضعه اهله على درب العلم فيقول: كانت العلوم في ايامنا اي اوائل القرن الماضي تتركز في حفظ القرآن الكريم والاحاديث الشريفة ومعرفة المعاني والاحكام الى جانب بعض المعارف البسيطة في الحساب واجادة الكتابة والقراءة، وقد ارسلني اهلي عندما كنت في سن الخامسة عشرة لاتلقى العلم على ايدى بعض «مطاوعة» ذلك الزمان الذين كانوا خير اساتذة للاجيال في امور الدين والدنيا معا. ويستطرد قائلا: لقد غرس هؤلاء المعلمون الاوائل وبأدواتهم واساليبهم البسيطة في ذلك العصر البعيد اهم الاسس والقيم في نفوسنا نحن المتعلمين، مما اوجد لدي الرغبة ان اصبح ذات يوم معلما انفع الآخرين بعلمي وأؤدي دورا في تعليم ابناء مجتمعي، وقد وفقني الله الى ذلك بعد سنوات أمضيتها في مختلف الاعمال كي اوفر لقمة العيش لي ولافراد اسرتي، وعندما منحني الله القدرة المالية اقمت مدرسة في منطقتي ليتعلم فيها ابناؤها. ويواصل فيقول: كانت تلك المدرسة عبارة عن كتاب صغير صنعت جدرانه من الدعون التي نحصل عليها من النخيل المنتشر في منطقتنا «القرية»، وقد التحق به في ذلك الوقت حوالي 25 من الصغار الذين ارسلهم آباؤهم لتلقي العلوم، وكنت اقوم بالتدريس موزعا جهودي بين تعلم الكتابة والقراءة وتحفيظ القرآن الكريم، واحمد الله على انني وفقت في تنشئة هؤلاء الذين اصبحوا اجدادا وآباء يدركون فضل العلم واهميته. ويمضي الحاج سعيد في حكاية رحلة العمر فيقول: هكذا اصبحت اول معلم في منطقتي محققا بذلك حلمي الذي راودني عندما كنت ذات يوم متعلما، واشهد ان ما أراه الآن من نهضة تعليمية في البلاد يسعدني كثيرا فالمدارس الراقية في مبناها ومحتواها تتزايد كل يوم، وفي منطقتي الصغيرة وحدها توجد عدة مدارس للبنين والبنات يدرس فيها آلاف منهم وقد سبقتهم على درب العلم اجيال اخرى تخرجت في الجامعة من بينهم احفاد لي. متغيرات الحياة ويمضي بنا في حديثه ليلتقط من ذاكرته محطات اخرى من عمره الذي يقترب من التسعين عاما فيقول: بعد ان عملت بالتعليم ولاني كنت قد درست العلوم الشرعية فقد عينني المغفور له الشيخ محمد بن حمد الشرقي، والد صاحب السمو حاكم الفجيرة الحالي ـ مأذونا شرعيا في منطقتي ولا ازال حتى اليوم اقوم بهذا العمل وقد مر علي فيه حوالي خمسين عاما. ويضيف: ان الحياة تغيرت كثيرا عن ذي قبل، وألحظ ذلك بعمق في امور الزواج فالناس في سالف الزمان كانوا يتعاملون مع الزواج كرابطة مقدسة يحترمونها ويجلونها ويحافظون عليها رغم ان ظروف الحياة وقتها كانت صعبة ـ كما يعلم الجميع ـ لكن النفوس كانت اكثر ايمانا وقناعة، كما كان اهل الزمن الاول حريصين على الاستقرار الاسري وعلى تربية ابنائهم، واذكر ان الطلاق بين زوجين كان نادرا ولم يكن تصرفا طائشا يلح على احدهما في لحظة غضب او حنين، بل كانت تسبقه ـ اي الطلاق ـ تدخلات من الاهل وحكماء المنطقة وكانت قناعة الناس بالفعل انه ابغض الحلال اما في ايامنا الحالية ورغم اليسر والرخاء فان الطلاق قد تزايدت حالاته خصوصا بين الشباب الذي لم يعد ينظر للحياة بمعيار المسئولية الكاملة. وعلى ذكر الزواج، يقول الحاج سعيد: لقد تزوجت وسني دون العشرين، واتذكر اني دفعت مهرا في حدود مئتي روبية، وكلفتني وليمة العرس حوالي عشر روبيات، إذ اشتريت خمس ذبائح كان سعر الواحدة منها لايزيد على روبيتين، ولازلت اذكر انني نذرت ذبيحة ان رزقني الله بولد وعندما اكرمني الله به لم تكلفني هذه الذبيحة سوى روبية ونصف. ويستطرد قائلا: هكذا كان حالنا في الماضي قناعة بالقليل وشكر لله عله يأتي الكثير، ولم يكن احد من اهل زماننا يعرف الطقوس السائدة في العصر الحالي، فلا عزائم أو ولائم في فنادق او قاعات، ولا مغالاة في تقديم العشرات من اصناف الطعام ولا مظاهر في الاحتفال، كما ان شبابنا لم يعرف هذا الداء الذي يعاني منه شباب الحاضر ألا وهو داء الاقتراض من اجل احاطة النفس بالمظاهر التي تؤدي الى المهالك. امام وخطيب وشاعر وينتقل الحاج سعيد الى محطة اخرى في حياته، وعنها يقول: الى جانب كوني معلماً فانني عملت ايضا اماما وخطيباً للجمعة في المسجد الوحيد الذي اقامه الاهالي في ذلك الزمن البعيد، وقد عرفت ايضا كشاعر بل انني كنت مع سالم سعيد الدهماني «ابن منطقة المنيعي» من اشهر الشعراء في تلك الايام. ويضيف: من ذكرياتي الجميلة كشاعر اني تشرفت بالقاء قصيدة في مجلس صاحب السمو الشيخ زايد بقصر الحصن قبل قيام الاتحاد وبسنوات طويلة وقد منحني سموه مكافأة اعتبرتها ـ ولا ازال ـ هي شهادة باجادتي للشعر، فكلنا يعرف ان سموه ـ متعه الله بالصحة ـ له مكانته العالية في الشعر كما هو في القيادة والحكم والحكمة أيضاً. ويتوقف ضيفنا في محطة الاغتراب ليحكي عن ايامه فيها، فيقول: في بدايات حياتي لم أجد إلا الزراعة وسيلة للحصول على الرزق وكسب العيش فعملت بها مع اهلي حيث كنا نزرع الغليون والحبوب وبعض الخضروات، وكان الغليون هو الأكثر عائدا في كل هذه الانواع من النباتات، وكانت له مواسمه التي يأتي فيها التجار من المنطقة وخارجها ليشتروا المحصول ،وكانت تلك المواسم هي فترات الانتعاش لدينا اما بقية ايام السنة فان ظروفنا الصعبة لم تكن تفارقنا. ويواصل قائلا: عندما بلغت سن الخامسة والعشرين وكنت رب اسرة صغيرة ومسئول ايضا عن رعاية بقية أهلي وجدت ان المسئولية العائلية تدفعني للتفكير في وسيلة لزيادة مواردي لكي أوفر لمن اعولهم كافة احتياجاتهم، وهنا طرأت على ذهني فكرة الانضمام الى رفاقي من شباب المنطقة في رحلة البحث عن مصدر للدخول، وكان ذلك متوفراً بالسفر الى المناطق المحيطة بنا، وقد سافرت بالفعل الى السعودية والكويت وقطر. وعن رحلته للسعودية يقول: عملن هناك في «الدمام» حيث حصلت على عمل في مجال البناء الذي كان مزدهراً في ذلك الوقت، وكنت أحصل على اجر شهري لايزيد على اربعمئة ريال سعودي كنت أراها ثروة كبيرة، وأحاول ان ادخر منها ما يحقق لي عودة الى وطني بغنيمة توفر لي ولاهلي معيشة معقولة. مراعاة التقاليد ويحكي الحاج سعيد سريح عن مشاهداته في رحلة حياته فيقول: في السبعينيات من القرن الماضي عرفت جهاز «التلفزيون» لاول مرة عندما اتى به ولدي البكر وقام بتشغيله على بطارية السيارة لان الكهرباء لم تكن قد وصلت الينا ولم نكن نعرفها وقتذاك، واذكر انني وجدت نفسي وانا القى خطبة الجمعة في مسجد قريتي اشير الى هذا الجهاز الخطير والمدهش واقول للناس: ان ما نراه يجب ان نعتبره حكمة ولابد ان نستفيد منه لمصلحتنا، ولنفع الناس جميعاً، والعجيب أني لا أزال اردد حتى اليوم القول نفسه لان ما نراه قد خرج بهذا الجهاز الخطير عن دائرة النفع والمصلحة لانه تحول الى مصدر للهو والتسلية ولن اقول الانحراف عن القيم والتقاليد الأصيلة. ويستطرد متحدثا عن التقاليد في ذلك الزمان فيقول: كانت الاعياد تجمع كل الناس على مائدة واحدة، فقد كنا نحرص على الغداء المشترك ولمدة ثلاثة ايام كاملة حيث يلتقي الكل لتناول ما اعدوه من ذبائح داخل «التنور» فلم يكن لدينا حينذاك ما عرفناه فيما بعد من مطابخ الغاز والكهرباء. ويضيف: اما عن الاعراس فقد كنا جميعا نعتبر انفسنا اهلا لصاحب العرس فلا يتوانى احد عن القيام بالخدمة واداء ما تفرضه عليه العادات من واجبات، بل اننا في ذلك الزمان كنا نوقف الافراح وما فيها من رزيف اذا حدثت وفاة لدى احد القريبين من اهل المنطقة، واذا اضطر صاحب العرس الى اتمام زواجه فان العرس كان يقام بدون احتفالات، وكان ذلك يتم بتصرف تلقائي ناتج عن شعور الناس بأنهم معاً في السراء والضراء، اما اليوم فحدث ولا حرج. وحول طبيعة الناس في الزمن الماضي يقول: لم يكن الناس يهتمون بالمظاهر او الشكليات، بل كانت حياتهم، جادة، وكانوا راضين وقانعين وكان الله يرزقهم على هذه النيات الحسنة، كما كان الشباب في ذلك الوقت يتمسكون بدينهم وعاداتهم وتقاليدهم ولايرضون بديلاً. ويضيف: لقد كان الشعور بالمسئولية هو الاحساس الدائم لشباب جيلنا، وكان الشاب منا يعرف واجبه ويؤديه باخلاص، واذكر ان المنطقة كانت تضم قبل أكثر من خمسين عاماً حوالي 30 بيتا يعيش فيها حالا يزيد على مئة فرد كانوا في ذلك الوقت قوة بالتعاون والتكافل والمودة وحسن الجوار والتعامل، والان في المنطقة ذاتها ما يزيد على 300 بيت تضم حوالي 4 آلاف فرد لكن الاغلبية مشغولة عن الآخرين والاواصر لم تعد وثيقة كما كنا في الماضي. حوار: محمود علام

Email