على محك النقد ـ «موت المؤلف» غيلة مدبّرة لا ميتة مقدّرة ـ بقلم: د. غازي مختار طليمات

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 26 رجب 1423 هـ الموافق 3 أكتوبر 2002 «موت المؤلف» مصطلح نقدي بنيوي، يشير الى طغيان الناقد على الأديب، والقارئ على الكاتب، وصاحب الحق في النص على من لا حق له فيه، والى حصر الدراسة النقدية في الانساق اللفظية التي يتألف منها الأثر الأدبي ابتداء من اصغر العناصر المكونة للنسق، وانتهاء الى النسق العام، والغرض من ذلك النقد اللغوي الخالص عزل النص عمن كتبه، وعن العصر الذي انجبه، اي: عزله عن شخصية المؤلف وثقافته واهوائه وعقيدته وبيئته، واطلاق يد الناقد فيه، يحلله ويعلله، ويفككه ويدككه، ويقطعه ويرقعه على النحو الذي يتراءى له غير مكترث بالمخيلة التي تصورت قبل ان تصور، والموهبة التي فكرت قبل ان تعبر، وبالنفس التي تخلج فيها الشعور قبل ان تنفث ما شعرت به في اعطاف قصة او مسرحية او قصيدة، كأن الأبنية اللغوية هي الأدب كله. ومن يتعقب المراحل التي مر بها تطور النقد الغربي من مطلع القرن العشرين الى السنة التي أعلن فيها موت المؤلف وجعل موته شعاراً نقدياً يدرك ان وراء هذا الموت من الانتحال والاحتيال ما يهوي به الى دَرْك الاغتيال وحينما ظهر هذا المفهوم لم يكن اكثر من فرية نقدية، افتراها النقد الغربي منذ مطلع القرن العشرين، لكن اوراق النعي لم تطبع، ولم توزع على المدعوين الى المشاركة في التشييع الا في بداية الثلث الاخير من هذا القرن. كان ذلك على وجه التحديد عام 1968م حينما نشر (رولان بارت) مقالاً أعلن فيه على نحو صريح لا يعروه لَبْس، ولا تخفف وطأته تعزية (موت المؤلف) وحياة القارئ ويبدو ان الاوساط الأدبية كانت مستعدة لتقبل النبأ، فلم تجزع، بل تلقت الفجيعة بالشماتة، وطغى النقاد على الادباء، وراحوا ينازعونهم قصب السبق في ميدان الابداع، ودفعوا النصوص الادبية الى مشرحة النقد البنيوي والتفكيكي، تقطعها بمباضع البنيوية، وتمزقها بمشارط التفكيك، ثم أخذوا يفرضون عليها تأويلاتهم سواء أرضي اصحابها ام غضبوا وانّى لهم ان يغضبوا بعدما سلبوا ما كتبوا؟ واذا جاز للباحث في تاريخ الأدب والنقد ان يتحول من مراقب مواكب الى قاض من قضاة التحقيق فإن تحقيقه في تاريخ هذا المصطلح يفضي به الى الوقوف على جريمة مدبرة اقترفها ثلاثة اطراف: طرف معارك، وطرف مشارك، وطرف مبارك وربما قاده التحقيق الى ان وراء هذه البدعة النقدية دوافع وجذوراً سياسية ترمي الى تحقيق اغراض مشبوهة، فما هذه الجذور؟ وما الأغراض التي ترمي الى تحقيقها؟ غالب الظن ان لموت المؤلف جذوراً فكرية وسياسية خفية، لكن اصحاب القضية ألبسوا قضيتهم ثياب الأدب والنقد وان الطرف المعارك فيها هو الرعيل الأول من البنيويين المتأثرين بالشكلية الروسية، وبالفكر الماركسي. ومن غير المفيد ههنا ان نعود الى آراء الشكليين الاوائل في الادب والنقد، ومنهم (فكتور شلوفسكي) و(فلاديمير مايكوفسكي) وانما المفيد ان نشير الى مدى التوافق بين البنيويين والماركسيين في مواقفهم من الحياة والأدب. ان البنيوية تلتقي بالماركسية في ملتقى واحد، وهو ايثار النظرة الشمولية الى الحياة على التنوع والتعدد، وتفضيل الاهتمام بالأنساق الأدبية للنصوص على الخصائص الفردية التي يتميز بها كل اديب، وكل نص «ان المشروع النقدي البنيوي ـ والكلام للدكتور عبدالعزيز حمودة ـ يقدم النظرة الكلية Holism على النظرة المجزأة otomism» والنظام الماركسي حريص على تذويب الفرد في الجماعة، وهذا الحرص يتبدى في ميادين الحياة المختلفة لا في ميدان الأدب وحده، تجده في الرياضة الجماعية، كما تجده في المنحوتات والصور التي تخلد بطولات الشعب لا بطولات الافراد. ان الشعب في الدول الاشتراكية هو البطل وان المجتمع هو الكائن الاسمى واما المواهب الفردية فيجب ان تذوب في المجتمع لتكون الجزئياتت سبباً لخلود الكلي، والكلي هو المجتمع. اما تطور الشكل الفني عند الماركسيين فلا يرتد الى مواهب فردية تستبدل بالأساليب القديمة أساليب جديدة، وانما يرتد الى عوامل اقتصادية. فمتى تبدلت وسائل الانتاج وطرائق التوزيع، ودرجة التفاوت الطبقي، وظهرت افكار جديدة فإن هذه الافكار تفرض على الادباء انماطاً جديدة من التعبير، وتحدث تغيراً في الشكل. ويلخص الماركسيون هذا الرأي بقولهم: «ان المضمون يسبق الشكل، وان تغير نمط الانتاج يستتبع تغيراً حتمياً في الاشكال الفنية» فالفرد في هذا المعترك الفني منفعل لا فاعل، متأثر لا مؤثر، ولذلك فحياة المؤلف وموته سيان. ان الماركسيين يعتقدون ان ابراز الذات، واظهار النزعة الخاصة، والتغني بالعواطف الشخصية ضلالات واباطيل، ابتدعها النظام الرأسمالي، ثم روجت لها الفاشية العسكرية لتعظم البطل الفرد كهتلر وموسوليني ونسيت البطل الحقيقي، وهو الشعب ولهذا فواجب الاديب عندهم ان يتخلى عن ذاته، وان يذوب في أمته، وموت المؤلف نمط من انماط هذا الذوبان فإن احسنت الظن في هذه الميتة قلت: هي تضحية الواحد في سبيل الجماعة، وان اسأته قلت: هي افتراس الجماعة للواحد بعد مصادرة ما يملك. فالشكليون والبنيويون هم الفريق المعارك في اغتيال المؤلف. اما الفريق المشارك فهم الاشتراكيون الغربيون في ألمانيا وفرنسا، فهؤلاء لم يبتهجوا بموت المؤلف وحسب، وانما شاركوا في تشييعه ودفنه حينما تبنوا مذهبي البنيوية والتفكيك. وربما كان لهم بعض العذر فالأبطال العسكريون القوميون من اضراب موسوليني وهتلر دمروا اوروبا ببطولاتهم الفردية، وطالبوا شعوبهم بأن تعظمهم الى حد العبادة، لا بالانقياد للقيادة، ولهذا فحينما حاكم (بريخت) (لوكلوس) كان في حقيقة الامر يحاكم المستبدين والجبابرة ومهما يقس في الحكم عليه وعليهم، فإن قسوته لا تعدل الضراوة التي دمرت اوروبا في الحرب العالمية الثانية. وربما استناداً الى هذه الوقائع التاريخية الموجعة، والى التبرؤ من النزعات الفردية قرر النقد قتل الفرد، وذهب (رولان بارت) الى ان الكتاب لا يكتبون للتعبير عن افكارهم الخاصة، ولا للتنفيس عن مشاعرهم المكبوتة، بل رأى ان كل ما يفعلونه هو تجميع ما لدى المجتمع من افكار، ومراودة ما يراود الناس من مشاعر ثم صبها في انساق لغوية اعدها لهم المجتمع من قبل وحينما يضؤل المؤلف في عين النقد كل هذه الضؤولة، ويهزل كل هذا الهزال فالتضحية به هي النهاية المتوقعة له. وهذه التضحية التي فرض على المؤلف ان يقدمها احدثت فراغاً في الأدب، لأن موته ترك النص يتيماً ولو ملئ هذا الفراغ بالمجتمع لهان ان الخطب، لكنه ملئ بالناقد بعد ان خول الحق في ان يفسر النص على النحو الذي يتراءى له، ثم سمي نقده ابداعاً أفلا ترى ان كل ما فعلته البنيوية والتفكيك هو استبدال فرد بفرد، وانتزاع شرف الابداع من المؤلف ووضعه فوق رأس الناقد تحت شعارات ومصطلحات مزورة، هي اللغة الشارحة او (الميتالغة)، والنقد المفسر او (الميتانقد)؟ وحينما انتقلت اصداء البنيوية والتفكيك الى الوطن العربي باركتها ثلة من النقاد الذاهبين مذهب الحداثة، ووجدت في (موت المؤلف) ما يعينها على تحقيق اغراضها باسم التجديد في النقد، وتحت شعار الموضوعية في الدراسة، وبحجة التجرد من التعصب ولقد اعجبت هذه الفرقة المباركة لما جرى بموت المؤلف لدوافع كثيرة، منها انه ينزع امتياز الابداع من ملكية المنشئ، ويلحق بملكية الناقد، فلا يبقى الناقد دون الأديب، بل يساويه او يبزه، لأنه بنقده المبدع يعيد تشكيل النص، فيرقى كلامه من الأدب الوصفي الى الأدب الانشائي. ومنها ان موت المؤلف يقضي على هيبة الأدب القديم، ويتيح لأصغر النقاد ان يطاول اكبر الادباء والشعراء القدماء وان يرسل في آثارهم مشارطه ومباضعه، فيفسر شعر المتنبي كما يحلو له فإن قلت له: انك بهذا التفسير تتجنى على الشاعر الذي حذر امثالك من الولغ في امثاله بقوله: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم اجابك: ان ابا الطيب أول من اعلنوا موت المؤلف، وذلك حينما قال لمن سأله عن شعره: اسأل عنه ابن جني، فهو أعلم بشعري مني. لقد تناسى هذا الناقد ـ ولم ينس ـ ان ابن جني كان جليس الشاعر وانيسه، ونديمه وكليمه، يعرف من حياته ما أعلن منها الشاعر وما أبطن، ومن افكاره ما أظهر وما اضمر، ومن مشاعره ما ابهج وما أزعج، فإذا تكلم عنه اصاب عين الصواب، ولم يتطوح خلف السراب، ولم يعز الى الشاعر ما ليس له، ولم يستند في نقده الى الحدس والتخمين، ولم يملأ الألفاظ الفارغة بأفكار ما خطرت لشاعر قط، بل استند الى واقع معيش، وحقائق حية، والى تفقه بالشعر، وتضلع من اللغة. وثالث الدوافع وأخطرها ان يجعل موت المؤلف او قتله، ذريعة لنقد النصوص المقدسة، ولضربها على محك البنيوية والتفكيك، وحينئذ تهدم البنيوية قلاع التراث الشامخة، ويفكك التفكيك اسس القيم الراسخة، ويقف الاحفاد على قبور الاجداد لا ليعلنوا موت المؤلف، بل ليندموا على ما أثموا، ويعترفوا بما اقترفوا من ائتمار الصغار بالكبار، وبأنهم كانوا الفرقة المباركة للفرقتين المعاركة والمشاركة في قتله، وان موته كان غيلة مدبرة لا ميتة مقدرة.

Email