قبر «قار».. اكتشافه يسرد قصة الطب الفرعوني

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت الأمور تسير بشكل نمطي في صحراء سقارة المصرية في صبيحة يوم حار من أيام صيف قاهرة المعز مؤخرا حيث تنتشر مجموعات البحث الاثرية حول الهرم المدرج لسقارة بحثا عن اكتشافات جديدة من تلك التي تعج بها الأراضي المصرية من أسوان جنوبا الى السلوم في أقصى الغرب. غير انه كان واضحا للعيان ان واحدة من تلك المجموعات كانت تعمل بشكل مختلف عن المجموعات الاخرى للوصول الى كشف جديد. وبالفعل تم الوصول الى هذا الكشف الذي لم يكن جديدا فحسب ولكنه كان الاول من نوعه في تاريخ الكشوفات الاثرية على الاراضي المصرية. فقد تمكن هؤلاء الاثريون من الوصول الى مقبرة عمرها 4 آلاف و200 عام، ولم تكن اهميتها في تاريخها وحسب ولكن فيما احتوت عليه من اول معدات طبية وجراحية يتم اكتشافها وتخص المملكة المصرية القديمة. فالمقبرة كانت لطبيب مصري يعرف باسم «قار» نقش اسمه على سطح المقبرة التي احتوت على 30 قطعة نحاسية يعتقد بشكل كبير انها تخص عمل هذا الطبيب الذي عاش في المملكة المصرية القديمة. الى جانب هذه الادوات الطبية المثيرة وجد العلماء ابريقا من الخزف يحتوي على حبات زبيب يعتقد انها اقدم بقايا عنب تم العثور عليها في مصر حتى الآن. اكتشاف مثير يقول الدكتور زاهي حواس، الامين العام للمجلس الاعلى للآثار في مصر الذي اشرف على عملية البحث والتنقيب، وهو تتملكه الدهشة من اهمية ومكانة هذا الاكتشاف المثير الذي يمكن ان يؤدي الى معرفة جديدة عن طبيعة الحياة الطبية في العصور القديمة. لقد اكتشفنا المقبرة بالصدفة البحتة. فقد تم ضبط مجموعة من اللصوص ينبشون الارض بالقرب من المقبرة. وعندما بدأنا عملية التأكد من وجود شيء ذي قيمة في المنطقة، وجدنا سورا من الطين، وعندما واصلنا عملية الحفر توصلنا الى مقبرة «قار» التي تحتوي على المعدات الطبية الوحيدة التي تم اكتشافها حتى الآن والتي يمكن ان يعود تاريخها الى المملكة القديمة. وتعتبر المملكة القديمة من اثرى الفترات في تاريخ مصر الفرعونية حيث تحتوي على الاسر من الثالثة الى السادسة. فقد عاشت تلك الاسر في الفترة من عام 2650 الى العام 2175 قبل الميلاد. وتميزت تلك الفترة بالثراء والازدهار المعماري حيث تم بناء الاهرامات الثلاثة اثناء هذه الفترة الى جانب مجموعات من اشهر المقابر في التاريخ الفرعوني والتي تطلب بناؤها تقنيات معمارية وفلكية فائقة التطور وكذلك قدرات بدنية ومادية عالية للغاية تمتعت بها اسر هذه المملكة. وتم كذلك توحيد الابجدية الهيروغليفية اثناء تلك الحقبة حيث تم من خلالها تصوير الحياة بعد الموت وفقا لمعتقدات المصريين القدماء. وعرفت هذه الفترة بتميزها في المجال الطبي حيث تضم مجموعة من ابرز الاطباء الذين عاشوا في مختلف العصور الفرعونية، فالأرقام تشير الى ان المملكة القديمة تضم نصف عدد الاطباء الفرعونيين الاشهر في جميع الاسر، حيث يبلغ عدد هؤلاء حوالي 155 طبيبا، بمن فيهم الطبيب «قار» ونصفهم عاش في فترة المملكة القديمة وحدها. ويعتقد ان معظم المخطوطات التي احتوت على المعلومات التي يملكها العلماء الاثريون حاليا بشأن الطب في العصر الفرعوني قد كتبت خلال (تلك الفترة) التي كان يحتل فيها الطب مكانة عالية بين الناس. يقول الدكتور جون فان، والاختصاصي في الممارسات الجراحية المصرية القديمة ومؤلف كتاب: «الطب المصري القديم» ان البيئة التي كانت موجودة في مصر القديمة جعلت من السهل ان يقوم الناس بتطوير وتسجيل ممارساتهم الطبية فقد كان النيل يضمن تدفقا دائما ووفيرا للغذاء ولم تكن مصر معرضة لغزو اي اطراف خارجية لها. وكان المصريون يملكون اوراق بردي لا تتأثر بالزمن ومخطوطات هيروغليفية واضحة يسجلون من خلالها تطوراتهم الجراحية والطبية. وكانوا يتمتعون ايضا بمهارات ادارية وتقنية وابداعية فائقة. ويضيف «ليس بالأمر المستغرب ان نجد ان الجيل الذي بنى الأهرامات قد قدم اسهامات رئيسية في مجال تطور الطب». مقبرة الطبيب وفي الوقت الذي كان فيه العلماء يقومون بالكشف عن مقبرة الطبيب «قار» ظهر هيكل يتطابق مع الهياكل التي كانت موجودة في أواخر فترات الأسرة الخامسة او اوائل الاسرة السادسة. ووجدت على الحائط الجنوبي للمقبرة نقوش تؤكد ان صاحب المقبرة هو الطبيب «قار» وان هذا الطبيب هو الطبيب الخاص بالملك وانه كان «عميد اطباء» القصر الملكي كما تشير ترجمة النقوش الهيروغليفية التي كانت موجودة على المقبرة. ووجدت كذلك نقوشات اخرى لاسرة وأصدقاء الطبيب وهم يقدمون القرابين لمساعدة المتوفي في حياته بعد الموت، وكذلك صور للطبيب وهو يجلس امام منضدة القرابين وصور اخرى تشير الى الحياة بعد الموت. غير ان بعض العلماء امثال فان يشككون في امكانية ان تكون الادوات الطبية التي وجدت في المقبرة بالفعل تنتمي الى الادوات الطبية التي كانت تستخدم من قبل اطباء تلك الفترة. وهؤلاء يدللون على وجهة نظرهم بأنه لو كانت هذه الادوات اصلية بالفعل وتم دفنها مع الميت لمساعدته في حياته الاخرى، فلماذا تم وضعها في الجزء الامامي من المقبرة ولم توضع مع تابوت المتوفى خلف الباب السحري الذي تعود المصريون القدماء وضع الموميات خلفه؟ غير ان حواس يؤكد ان الاطباء في العصر الحديث يؤكدون انها بالفعل ادوات جراحية لطبيب وليست كما يدعي البعض ادوات عادية نسيها اقارب المتوفي عند دفنه في المقبرة او ادوات تخص من حاول اكتشاف المقبرة في سنوات سابقة. غير ان الشيء المؤكد ان اكتشاف مقبرة طبيب في صحراء سقارة امر مهم للغاية لا سيما وأنه من النادر جدا ان توجد مقابر لاطباء في هذه المنطقة التي من المعروف انها تحتضن مقابر علية القوم ممن ماتوا في مدينة ممفيس القريبة وهي عاصمة مصر اثناء فترة المملكة القديمة. وحتى الآن لا يوجد دليل دامغ من أوراق البردي او الاكتشافات الاثرية المتلاحقة ان المصريين القدماء كانوا يقومون بعمليات جراحية معقدة ولكن اذا تم التحقق بالفعل من ان تلك الادوات تنتمي الى طبيب من اطباء المملكة القديمة فإن الامر سيصبح بيناً ان الفراعنة كانوا قادرين على ممارسة الطب الجراحي. واذا لم يثبت هذا فإن الامر سيبقى كشفا اثريا مهما يحمل معلومات عن اسلوب حياة الاطباء في تلك الفترة وكيف كان يتم دفنهم وتوقيرهم. حاتم حسين

Email