العمارة المصرية الحديثة تعيد للصلصال عمقه الحضاري

ت + ت - الحجم الطبيعي

بيان 2: يعد رمسيس ويصا واصف «1911 ـ 1974 » عمود العمارة المصرية المحلية البيئية الحديثة له اسهامه الكبير والذي شاركه فيه حسن فتحي العمود الاخر في البحث والكشف عن الأصول الحقيقية للعمارة المصرية، التي كانت قد طمرت تحت جثث الغزاة وما جلبوه معهم وتركوه هنا وهي التي خطفت من أهلها حين سباها الحكام المحليون وسرقوا معها ورود الحرفيين وحبسوها داخل قصورهم وقلاعهم. ولد المعماري رمسيس ويصا واصف في عائلة قبطية ذات مواقف وطنية وكانت الثقافة والفنون تشغلان في حياة افرادها مكانة كبيرة وأصيلة كان والده محامياً وسياسياً وعضواً فاعلاً في حزب الوفد، وكان من رواد صالونه الثقافي المثال محمود مختار الذي كان موضع اعجاب كبير لدى رمسيس الصغير الذي أظهر بوادر غير عادية لموهبته الفنية خصوصا في النحت واصبح معروفا بين عائلته باسم الفنان. وكان حلمه أن يصبح نحاتا لكن الده أقنعه أن يدرس العمارة أفضل بدلا من النحت وفي عام «29» التحق بمدرسة «البوزار» في باريس لدراسة العمارة. وأثناء دراسته مات الأب مسموما بمكيدة من الملك فؤاد على أثر خصومة قضائية كانت بينهما مما منعه من النزول إلى مصر طوال دراسته فأستغل الفرصة وراح يدرس النحت مع العمارة. ورغم ذلك خيبت الدراسة الأكاديمية التي تلقاها على مدى ثماني سنوات آماله، ورآها مسببة للإحباط بدلا من أن تكون وسيلة لتفجير الطاقات الإبداعية لديه. وكان مشروع تخرجه منزلاً لخراف في مصر القديمة وقد نال عنه المرتبة الأولي تعبيرا عن إهتمامه المشبوب بالفنون الحرفية المصرية. حين عاد إلى مصر كان غير راضٍ عن العمارة وكتب مالا أستطيع أن أفسره هو لماذا لحضارتنا الفنية أن تفرز هذا الكم من البرودة والقبح اللذان يحلان مكان العمارة الأصلية الفنية. أنه حتى في الأحياء القديمة العريقة بدأ يظهر طفح المباني الحديثة، إنها إهانة للحس الإنساني وهي مدعاة للحزن الشديد عندما تظهر هذه المباني في الريف المفتوح وكان رمسيس يرى أن العاصفة المعمارية الحديثة التي اكتسحت القاهرة أفرزت ومازالت عديدا من المباني التي أقيمت دون مراعاة للحس الجمالي والبيئي والحضاري والاقتصار فقط على عائدها المادي. على مر سنوات طوال ظل رمسيس يقوم بجولات في أحياء مصر القديمة وفي هذه الجولات كان يتأمل المباني القديمة ويتحدث إلى سكانها ويلتقي بالحرفيين من نساجين وفخارين، ومشكلي زجاج ونحاتي أحجار. من خلال لقاءاته بهم اكتسب خبرة في مهارات الحرف التي مالبث أن إستعان بها في أعماله المعمارية لكن ربما كان الأمر الأكثر أهمية بالنسبة له أنه أدرك أن هذه الحرف في طريقها إلى الإندثار. وذلك لأنه رغم صدق وأمانة هؤلاء الحرفيين، فقد كان واضحا أنهم لم يعودوا يشكلون القدرة على الإبداع لأن كثيراً من هؤلاء الحرفيين توفي دون أن يدرب من يخلفه في حرفته من الصبية. تركت هذه الحقائق أثرا عميقا في نفس رمسيس، مما دعاه إلى التأمل في مصير الإنسان العادي في عصر الآلات وكيف أن هذه الميكنة المتزايدة ووسائل تعليمها التجريدية تخرب ملكات الإنسان الطبيعية لذا استقرت نيته أن يدع إتجاهات العمارة الحديثة وراح يعمل على إيجاد منظومة فكرية متماسكة تعطي العمارة المصرية شخصية وطنية مستمدة كما كان الحال دائما من أسلوب ونمط حياة أهلها ومن مناخها وتقاليدها، وبشكل عام من حصيلة ضخمة من الثقافة والتراث. عمارة قرى النوبة وكما كانت الفنون الحرفية التقليدية التي وجدها في مصر القديمة إجابة لبحثه عن الهوية في الفن والحرفة كانت عمارة بيوت القرى النوبية المبنية بالطوب اللبن والمسقوفة بالقبب والقباب من نفس الخامة إجابة لبحثه عن سؤال الهوية في العمارة المصرية درس رمسيس هذه العمارة ودرس التطورات والتنويعات التي طرأت عليها عبر عصور مصر الحضارية المختلفة الفرعونية والقبطية والإسلامية واكتشف أن هناك تراثا هائلا للعمارة المصرية به من الحلول والأفكار ما يمكن أن يحل لنا كل مشكلة معمارية معاصرة أو على الأقل يكون منطلقا بإتجاه الحل ورأى أن هذا هو السبيل السليم للعمارة المصرية وليس الحل المبتذل والمتمثل بإعتماد العمارة الأوروبية سبيلا وحيدا لإقامة العمارة الحديثة في مصر. هذه الأفكار عن العمارة المصرية وتطبيقاتها كانت جوهر رسالة رمسيس في العمارة والتي راح يؤكدها تارة بتدريسها لطلبته في قسم العمارة بالفنون الجميلة أو بتطبيقها الفعلي في الواقع. ولكن هنا كانت تلزمه حركة عامة في المجتمع لممارسة دوره كمعماري على الوجه الصحيح ولغياب هذه الحركة كان يقوم بدوره المعماري في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية المضادة لأفكاره في مساحة ضيقة ومخنوقة. فقد اشترك في البداية مع حسن فتحي في مشروع القرنة لكن سرعان ما تركه قبل أن يتم بدء البناء نظرا لإختلافه مع حسن فتحي صاحب المشروع الأصلي لا لشئ إلا لضيق الفرصة على الاثنين ليمارسا حريتهما في التفكير والإبداع لذا لم يحقق أفكاره المعمارية إلا حين اشترى قطعة أرض في قرية الحوانية أقام عليها مركز للفنون الذي علم فيه بطريقة مبتكرة أطفال قرية الحرانية مجموعة من الفنون الحرفية أبرزها السجاد المرسوم والذي بات معروفا في الأوساط الفنية في كل العالم لما فيه من قيم إبداعية شديدة الصدق والجمال. في هذا المركز بني رمسيس بمساعدة بنائين من النوبة خانات عمل هؤلاء الفنانين كلها من الطوب اللبن ومسقفة بالقبب والقباب وغير اقتصاديات البناء في عمارة الخانات فهي توفر تهيئة مناخية ذاتية لهذه الخانات وأيضا فيها ما يؤكد على الإتصال الحضاري والتاريخي فقد صمم رمسيس هذه الخانات بحيث يمكنك أن تتأمل فيها ممرات صغيرة ومسقوفة في أنحاء منها ومنحنية بحيث تجعل المرء وكأنه بين جنبات مدينة الفسطاط القديمة. الصلصال اساس الابداع كان يتميز رمسيس بإنه كان يمزج دائما بين النحت والعمارة في مبانية وكان يرى أن البناء لن يعكس الإحساس العميق بالطبيعة ومحاكاتها إلا حين يصبح متفاعلا مع ذات الإنسان وكان يري أن المبني يجب نحته أولا بمادة الصلصال ثم رسمه على الورق وحضور تنفيذه أولا بأول مع إمكانية التغيير وفقا للإحساس الفني وفي مركز الفنون بنى رمسيس متحفا لأعمال تلاميذ حبيب جورجي من الفنانين التلقائيين لما كانت أغلب أعمال هؤلاء الفنانين معبرة عن معيشة القرية المصرية جاء المتحف الذي صممه وبناء رمسيس بخامة طين اللبن وسقفه بالقبب و القباب جاء ليس مثل البيت الريفى فقط بل به من التمثيل المباشر و الرمزى بالمفردات المعمارية ما يجعله ممثلا للقرية المصرية التقليدية. من ذلك على سبيل المثال ان القاعة الكبرى الوسطى فى المتحف وهى التى تعلوها قبة و تتوزع فى جنباتها مصاطب من الطين تعرض عليها التماثيل التى تمثل الفلاحين و الفلاحات هذه القاعة توحى بكثافة بانها باحة القرية والقبة من الخارج تحس انها قبة ضريح ولى القرية. و قد حصلت عمارة رمسيس فى هذا المركز على جائزة منظمة الاغاخان فى عام 1983.لم تقتصر عمارة رمسيس على خامات الطوب اللبن.و التسقيف بالقبب والقباب بل بنى متحف المثال مختار بالحجر و يقول المهندس نسيم حنين احد تلاميذه ان رمسيس استوحى عمارة شبابيك معبد الكرنك فى واجهة عمارة المتحف. من ناحيتنا نحن شعرنا حين التجول فى المتحف وان مسار المتحف يوحي أيضا بمسار معبد الكرنك هنا تصحبنا الرهبة والغموض حتى نصل إلى ضريح مختار في نهاية المتحف مما يوحي أنه يقابل قدس الأقداس في معبد الكرنك أما شعور الإنقباض الذي يحس به المرء في المتحف هو في نظرنا ليس عيبا في البناء ذاته إنما هو ناتج عن الحرج الذي سببته المعادلة المختلفة للتواصل مع تاريخ العمارة المصرية فإذا كان استوحى رمسيس عمارة الكرنك في بناء المتحف للتواصل بها مع العمارة المصرية القديمة فقد ترسب لديه معنى لم يستطع تصريفه فعمارة الكرنك كانت لملك ديكتاتور يستعبد الناس أما المتحف فهو تمجيد لفنان كان يعمل على تحرير الناس من دور عقد رمسيس التي تكشف عن حجم عبقريته المعمارية عمارة كنيسة العذراء مريم بضاحية الزمالك فعمارة هذه الكنيسة لابد أن تستوقف كل من ينظر إليها وعليه أن يتأملها كثيرا قبل أن يستطيع أن يقيم حوارا معها فالمفردات المعمارية التي من عصور حضارات مصر المختلفة والتي كثفها رمسيس بعبقريته في كل واجهة وموضع من الكنيسة جعلها وكأنها مركب معماري تتكثف وتتكتل فيه كل المفردات المعمارية التي لا تعبر عن عمارة الديانة القبطية فحسب ولا حتى عن عمارة الديانة الفرعونية وعمارة الإسلام بل هي تكشف أيضا عن التمازج والترابط في هذه الديانات عبر حوار عناصر كل عمارة منهم فالواجهة الأمامية للكنيسة تجمع في آن واحد بين البوابة الفرعونية للمعبد بشكلها المسطح المستطيل وبين إيوان يمثل لمدخل الجامع الإسلامي وقبة مكورة تشير إلى الكنيسة القبطية كذلك الواجهات الجانبية تنظر فيها شبابيك الكرنك الطويلة تفصل بينهما أعمدة بها من الإشارات ما توحي أنها أعمدة معبد فرعوني ومسجد وكنيسة أعلى هذه الشبابيك شبابيك معقودة تذكر بشبابيك الجوامع والكنائس. برج الكنيسة نفسه يجمع في شكله بين المسلة الفرعونية والمأذنة الإسلامية وبرج الكنيسة حتى الصليب على برج الكنيسة وقبتها صممه رمسيس برشاقة بحيث ترى فيه مفتاح الحياة الفرعوني والصليب القبطي والهلال الإسلامي لرمسيس تجربة مارس فيها دوره كمعماري في البناء للفلاحين.. سبعة من فناني المركز الذين هم في الأصل من فلاحي الحرانية طلبوا من رمسيس أن يبني لهم البيوت اشترى رمسيس الأرض بحيث يسدد ثمنها الفلاحون فيما بينهم بالتقسيط أما تصميم كل بيت فقد أحضر رمسيس لكل واحد منهم قطعة طين وجعله يصمم بيته كما يحلو له وفيما بعد بنى رمسيس هذه البيوت بنفس التصاميم التي وضعها لها أصحابها وكل البيوت كانت من الطوب اللبن ومسقوفة بالقبب والقباب ومتجاورة وتنفتح جميعها على صحن مشترك. هذه التجربة الفريدة استطاعت أن تمر وتنجح وسكن في هذه البيوت الفلاحون الفنانون لعدة سنوات لكنها لاقت الإجهاض والاختناق في النهاية والأسباب في ذلك متداخلة وغامضة يقول عن ذلك مهندس إكرام نصحي أحد تلاميذ رمسيس وزوج ابنته ومن القائمين على إدارة مركز رمسيس للفنون حاليا أن الفلاحين هم الذين تركوا البيوت فبعد وفاة رمسيس عام «74» أو عز إليهم الناس بالقرية أن هذه البيوت لن تكون من أملاكهم أبدا، وأنهم عليهم أن يكون لهم بيوت بالخرسانة المسلحة لا بالطين هذا فضلا عن أن بعضا منهم أخل بشرط كان وضعه لهم رمسيس حين بنى لهم هذه البيوت أن من يتجاوز في خلفته خمسة أطفال عليه أن يترك البيت ويأخذ ما دفعه. من جهة أخرى تقول السيدة صوفي زوجة رمسيس أن بعض الفنانين الذين يسكنون البيوت كانوا قد تركوا العمل في المركز فطلبت منهم إخلاء البيت لأنه لا يعقل أن لا يكونوا يعملوا لدي ويسكنون عندي. البيوت بعد أن أخليت من الفلاحين، رآها السياح الأجانب واعجبوا بها وحاليا تأجر لهم لأوقات الاستجمام بعدما أجرى فيها بعض التعديلات لتناسب من يأتي إلى الريف للإستمتاع به لا من يعيش فيه لتؤول في النهاية بيوت الفلاحين وفنونهم وعصارة وجدان هذه الحضارة إلى الأجانب وكأنها دائرة شيطانية تجهض كل محاولة للخروج. القاهرة ـ محمد عبدالحميد

Email