رحلة إلى أوروبا 1912

ت + ت - الحجم الطبيعي

بيان الكتب: هذه الرحلة من بين الأعمال شبه المجهولة لجرجي زيدان اعادتها إلى النور في سلسلة ارتياد الآفاق «تييح للقاريء العربي فرصة الأطلاع على أثر مهم من آثار واحد من ابرز اعلام النهضة العربية. ولم تكن رحلة جرجي زيدان الى اوروبا سنة 1912 رحلة استجمام واستمتاع بقدر ما كانت رحلة علمية مبرمجة، تجشم القيام بها في آخر العمر ليكتب وصفاً مفصلاً ودقيقاً عن احوال المدينة الغربية ممثلة بكل من فرنسا وإنجلترا اللتين تجسدان خلاصة هذه المدينة في جانبيها المادي والمعنوي، في الوقت الذي كانت تتطلع فيه عيون الشرقيين إلى الخروج من ربقة التخلف، والسير في ركاب الأمم المتمدنة. لقد أراد صاحب الرحلة ـ على حد قوله ـ أن يبين «ما يحسن أو يقبح من عوامل تلك المدينة بالنظر إلى طبائعنا وعداتنا، واخلاقنا» فأختار أهم العناوين التي تقاس بها المدنيات ليقدم للقاريء العربي وصفاً أميناً لما يندرج تحتها من تفصيلات تعتمد على الإحصاء الدقيق المسند إلى السجلات الرسمية. فبدأ بالتعريف بنظام الحكم في كلا البلدين، فهو في فرنسا جمهوري ينتخب فيه الرئيس لمدة سبع سنوات بأغلبية الأصوات من قبل مجلس الأمة ومجلس الشيوخ، وعليه تنفيذ قرارات وتشريعات هذين المجلسين. وتناط بهذين المجلسين السلطة التشريعية، في حين تكون السلطة التنفيذية بيد مجلس الوزراء، أما في انجلترا فنظام الحكم ملكي مقّيد، وانجلترا من اعرق الأمم في الدستور. والحكم فيها يرجع إلى رأي الأمة التي ينوب عنها مجلس الاعيان والعموم. ان نظام الحكم في البلدين لا مجال فيه للاستئثار بالسلطة، والاستبداد بالشعب، وحرمانه من المشاركة في الشأن العام كما هو سائد في معظم حكومات الشرق. ثم يتّطرق صاحب الرحلة إلى الأمور التي تهم القاريء العربي الذي يتطلّع إلى تحدي مدنية الغرب في نهضته المعاصرة، فيصف العمران، والمدن، ونظامها الدقيق، ونظافة شوارعها واسواقها، ومتاحفها، ومعابدها، ومكتباتها، وآثارها، وحياة الناس فيها، وما توافقوا عليه من عادات في اللباس، والطعام والشراب. ولا يفوته ان يحصي الثروات في كل بلد، والحالة الاقتصادية، ثم الحالة العلمية، وأسماء الجامعات والكليات في كل بلد، واعداد طلبتها، وتاريخ تأسيسها ثم يصف حال المرأة في أوروبا عامة وفي فرنسا وانجلترة خاصة، وما أحرزته من تقدم في نيل حقوقها في التعليم والعمل، وحرية التصرف التي قد تصل الى حد الشطط في بعض الأحيان. إن الحديث عن الجوانب المادية في حضارة الغرب لم يشغل صاحب الرحلة عن الالتفات الى الجوانب المعنوية، وبخاصّة الأخلاق المصاحبة لهذه الحضارة. فذكر طباع الناس في كل بلد، وما يمتاز به كل شعب عن الآخر، فالفرنسي نشيط، دؤوب ينهض الى عمله بهّمة وحماسة يحب الجمال، ويميل إلى الاقتصاد في النفقات ويحب الترتيب والنظافة في المأكل والملبس، ويحرص على اداء الواجب، ويعرف قيمة الوقت، ويصدق الوعد، ويفخر بعظماء وطنه ونابغيه، ويعتز بحريته. في حين ان الانجليزي يمتاز بالثبات على الحقيقة، والكبرياء، والانانية، ويعنى بالتربية البدنية والعقلية، ويحافظ على التقاليد، ويمتاز بالصدق والوفاء، والتدين، يحب النظام ويؤدي الواجب دون رقيب. ان الناظر الى المزايا الاخلاقية لكلا الشعبين يرى أن وجوه الاتفاق فيها أكثر من وجوه الاختلاف، كما ان هذا التقدم المادي يصاحبه تقدم معنوي وأخلاقي يدفع بهذه الحضارة إلى الأمام ويحول دون تدهورها وانحطاطها. ومما يلحظه القاريء لهذه الرحلة حرص كاتبها على الموازنة بين الشرق والغرب في الكثير من المسائل، كالتعليم في فرنسا، ونظيره في مصر، والفرق بينهما من حيث المستوى والانفاق، كما وازن بين فن التمثيل في فرنسا ومثيله في مصر، وبين وجوه الاختلاف، فالفرنسيون يجمعون في فن التمثيل بين الجد والهزل وينتقدون السلبيات ويهتمون بالشئون اليومية لحياة الناس. الجدير بالذكر تلك الموازنة التي عقدها جرجي زيدان بين الاسس الاخلاقية التي تقوم عليها حضارة الغرب، والاسس التي قامت عليها حضارة العرب في الماضي، فمدنية العرب اساسها مناقبهم في صدر الاسلام، كالاريحية، والنجدة، وحسن الجوار، والوفاء، والحلم وكرم الخلق ونحوها، وهذا مما لا يلائم المدينة الحديثة التي تقتضي مبادلة الحقوق والواجبات، لا حلم ولا عفو، ولا اريحية ولا نجدة، وانما ينال المرء من الرزق والمنصب على قدر سعيه ومواهبه بمقتضى القواعد الاخلاقية والاقتصادية، والاعتبارات السياسية. ان هذا الرجل القادم من الشرق الى اوروبا، لم تبهره حضارة الغرب الى الحد الذي يحجب عنه الرؤية الواضحة لمحاسنها وعيوبها، كما انه بدا متماسكاً ازاء التفاوت الكبير بين احوال الغرب واحوال الشرق، فأقصى عواطفه جانبا، ليترك الارقام والاحصاءات تتحدث عن واقع الغرب، ومع ذلك فقد سمح لنفسه ان يتحدث على نحو مباشر مبيناً ما ينبغي اخذه من المدينة الغربية، وما يجب تركه فقال: «في مدينة فرنسا وغيرها من مدنيات أوروبا حسنات كثيرة يجب علينا اقتباسها والاستفادة والابتعاد عنها، فالحسنات التي يحسن بنا اقتباسها هي، معرفة الواجب، والمحافظة على الوقت، وصدق المواعيد، وتهذيب اخلاق العامة بالتربية الصحيحة وتعليم المرأة وتثقيفها، وترقية التعليم والتوسع في الآداب، والعمل والجد. اما ما يجب علينا تجنبه من ادران تلك المدينة، أهمه: الافراط في الحرية، واستخدامها في غير موضعها، وما يخالف الحشمة الشرقية، على ان نأخذ من العلم والتربية القدر الملائم لعاداتنا، والفتور في الدين، والمجاهرة في الكفر، فإنه من اسس الخراب. في سويسرا سويسرا كانت المحطة الثالثة والاخيرة التي توقف فيها جرجى زيدان على عجل، ولم يوفها حقها من الوصف، مما يرجح انها كانت محطة الاستجمام الوحيدة في رحلته، لما تتمتع به من طبيعة ساحرة تجذب السياح من انحاء العالم كافة. لقد ذكرته جنيف من حيث مناظرها الطبيعية بالاستانة وبوسفورها بما على شاطئيه من التلال المكسوة بالاشجار والقصور، ولكنه لم يجد مسوغا للاطالة في وصف هذه البلاد، لأن رحلته رحلة عمل اراد فيها وصف مدينة الغرب في اكثر نماذجها تقدما ورقياً. بين فرنسا وانجلترا وفي حديثه عن نتائج حملة نابليون على مصر كان جرجي زيدان مبالغاً في تقدير ايجابياتها بحيث جعل لفرنسا فضلا على الشرق كله من اوجه كثيرة ظهرت آثاره في اخلاق اهله وآدابهم، فهذه الحملة نقلت معها بذور المدنية الحديثة، وذلك من خلال الحملة العلمية المصاحبة لمدافع نابليون وجيوشه الجرارة، والتي جمعت نخبة من خيرة علماء فرنسا آنذاك. وحينما ارتد الفاتح على اعقابه، وانسحبت فلول الجيش الفرنسي من مصر، ظلت تلك البذور كامنة الى ان تعدها رجال من الشرق بالعناية والرعاية، فأتت اكلها وكانت منطلقاً للنهضة العربية الحديثة في مصر والشام، كما سعى كل من الاتراك والفرس الى الافادة من مدينة فرنسا لما هموا بنهضتهم الاخيرة، ومما لا شك فيه ان لحملة نابليون آثاراً ايجابية نجمت عن ذلك الاحتكاك القسري بين الغرب والشرق من جانب نابليون الذي كان يحلم بالسيطرة على العالم، واخضاعه لصولجانه بالقوة القاهرة، وهذه الآثار انما هي من باب تأثير الغالب في المغلوب. فكيف يمكننا ان نسلم بتسمية كل ذلك فضلاً؟ ويقول قاسم وهب في تحريره وتقديمه للرحلة، لو عاصر جرجي زيدان ما فعلته فرنسا بالشرق فيما بعد لاعاد النظر في هذه التسمية، وحينما يذكر جرجي زيدان الاستعمار الانجليزي، لا يبدي ازاءه ذلك القدر من التعاطف الذي ابداه في حديثه عن الفرنسيين، بل توخى الموضوعية في الوصف، فالانجليزي تهمه الفائدة الحقيقية من الاستعمار، وهو لا يعبأ بزخرف السيادة وأبهة السلطة، وذلك عائد في رأي الكاتب إلى الخلق الانجليزي الذي يعول على الحقيقة مع الثبات. والانجليز يمتازون بالاناة والصبر لتحقيق مطامعهم الاستعمارية، لهذا لا نراهم يستعجلون بسط الحماية على مستعمراتهم، او اعلان السيادة عليها، فيسمحون لها بالاستقلال الاداري شريطة المحافظة على مصالحهم المادية. عبدالرزاق المعاني

Email