رحلة الوزير في افتكاك الأسير 1690 ـ 1691

ت + ت - الحجم الطبيعي

بيان الكتب: تتمتع الرحلة المعنّونة «رحلة الوزير في افتكاك الأسير 1690 ـ 1691» والتي قام بها محمد الغساني الأندلسي، بقيمة استثنائية بين مثيلاتها، فهي تأتي بعد خمسين سنة فقط من رحلة أحمد بن قاسم الحجري الأندلسي، لكنها أهم من سابقتها لما جاء فيها من معلومات وصور وانطباعات عن الحياة الاسبانية في القرن التاسع عشر، تفوق في أهميتها ما سطره كثير من الأوروبيين في هذا الميدان. وحسب المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي فإن «ما يمتاز به العرض من حيوية وقوة ملاحظة ليقف كفئاً لأحسن أوصاف الرحلات الأوروبية لذلك العهد، فهو يقدم لنا لوحة دقيقة للحياة الاسبانية، وعلى وجه خاص، حياة البلاط الاسباني في عهد كارلوس الثاني، فضلا عن ثرائها كنص بالغ الموضوعية في قراءة الآخر، ناهيك بقيمتها الرمزية لكونها تمثل يوميات وزير مغربي أوفده السلطان مولاي اسماعيل 1672 ـ 1727 في مهمة دبلوماسية لدى البلاط الاسباني، وفي جعبته مطلبان: تحرير مكتبة من المخطوطات العربية تقدر بخمسة آلاف مخطوط، واطلاق سراح خمسمئة أسير مسلم في فترة شهدت حروبا لم تنقطع بين المغاربة والاسبان، واضطهادات للأندلسيين المتضررين (المورسكيين) دامت أكثر من قرن ونصف القرن بعد سقوط غرناطة، آخر ممالك المسلمين في الأندلس. من هنا فإن نص هذه الرحلة يعتبر، وثيقة نادرة عن بعض موضوعات الصراع بين العرب والغرب، وعن الآخر وعالمه، يبتعد عن كل تلفيق أو تحامل أو تزوير، ويتميز صاحبه بأمانة كبيرة، وروح متسامحة، في فترة عصيبة من الصراع الإسلامي مع الغرب سادت خلالها أوروبا روح التعصب الأعمى، الذي لم يسلم من شروره حتى المسيحيون أنفسهم في محاكم التفتيش. تجدر الاشارة الى ان صاحب الرحلة الوزير محمد بن عبدالوهاب الأندلسي الفاسي المتوفي عام 1119هـ ـ 1707م كان من كبار مثقفي عصره، ترجم له القادري في نشر المثاني بقوله: «هو الكاتب الأرفع أبو عبدالله محمد المدعو حمو بن عبدالوهاب الوزير الغساني الاندلسي الفاسي. كتب للسلطان مولانا اسماعيل، وكان نجيبا في ذلك، ذكر انه كان كل ما يلقي من الاوامر يكتبها ويستوفيها، ولا يغرب عليها شيء منها مع كثرتها. وقد أرسله السلطان إلى بلاد الروم بالاندلس، بقصد ان يستخرج ما بأيديهم من أسرى المسلمين، ويستخرج ما بقي من الكتب بالمشاهد التي كانت للمسلمين، وألف في رحلته تلك كتابا أسماه «رحلة الوزير في افتكاك الأسير». وترجم له سيدي محمد بن جعفر الكتاني في «سلوة الأنفاس» بمثل ما ترجم له القادري وزاد عليه، فوصفه بـ «الفقيه المتفنن الدراك المتقن» ويضيف عنه: «كانت له سرعة في نسخ الكتب لا تعرف لغيره» وحسب المرجع نفسه فقد توفي الغساني إثر وقوعه في المرض عام تسعة عشرة ومئة وألف». أما أغناطيوس كراتشكوفسكي، صاحب كتاب «تاريخ الأدب الجغرافي العربي» فقد ترجم له بقوله: «وأبو عبدالله محمد الوزير الغساني من أسرة أصلها من الأندلس، لكنها استقرت بمراكش، وكان يعمل كاتبا ببلاط الشرفاء العلويين بمكناس في عهد مولاي اسماعيل الطويل الأمير، وقد اكتسب الشهرة كخبير بأسماء الكتب وخطاط وناشر فني». وحول سفارته إلى اسبانيا يضيف كراتشكوفسكي قائلا: «وفي عام 1689 عندما استرجع الشريف مدينة العرائش من الاسبان، ووقعت حاميتهم في يده، فكر في أن يعرض على ملك اسبانيا استبدال الحامية بخمسمئة أسير مراكشي ممن كانوا في الأسر باسبانيا، وخمسة آلاف كتاب من الاسكوريال، ووقع اختياره على الوزير الغساني ليضطلع بهذه المهمة». ويستفاد من المراجع المختلفة التي تطرقت الى الغساني ورحلته ان الرجل تمتع بمكانة رفيعة المستوى في عصره، وان سلطان المغرب مولاي اسماعيل منحه ثقته. انطلقت رحلة الوزير الغساني من المغرب في 19 اكتوبر 1690 وقصد الغساني في طريق الذهاب: مرسى جبل طارق، فسبتة، وقالص، وسانتامرية، فشريش، والبريجة، واطريرة، مرشينة، ايشكا، وادي شينيل من احواز غرناطة، قرطبة، مدينة الكاربي، مدينة اندوخر، مدينة لينارس، الى دشرة تسمى طري كوان ابان، مانشا دار للنزول قرب مدينة شكلانة، المنبريلية، مانسنارس، مدينة مورا، وادي طاخوا وهو يمر بمدينة طليطلة، قرية بنك، مدينة خطافي، وحل في مدينة مدريد عشية يوم السبت السابع من شهر ربيع النبوي عام 1102 ـ الثامن من ديسمبر 1690 ثم توجه الى بيردي، البنطة، المورو، ارانخوس، وعاد الى مدريد. وفي 20 مايو 1691 سلك طريق العودة الى المغرب، فكان خروجه من مدريد ووصوله الى قرية وشقة، وفي طليطلة تنقطع الرحلة. بدأ الغساني نص رحلته بأخبار عن مرسى جبل طارق، وختم رحلته بأخبار ووقائع عن فتح الاندلس، وبين المدخل والمخرج يمتنّ نص الغساني ويتشعب، بينما هو يقف على الأحوال والمشاهد من مدينة الى أخرى من مدن الاندلس، وصولا الى مدريد في قلب الجزيرة الايبيرية، وتتعدد طبقات نصه ومستوياته، وينبني خطابه، فإذا بنا، الى جانب الاديب الناثر وذواقة الشعر والجمال، بازاء عالم اجتماع وسياسي عارف بخفايا الاشياء، ومثقف مطلع ليس على وقائع التاريخ العربي ـ الاسلامي وحسب، وانما الاوروبي ايضا. والى هذا فإن لغة الغساني التي كتب بها نصه تتمتع بالحيوية، وهي تبدو سابقة لعصرها، فليس فيها أي تقعر أو استطراد في غير مكانه، فضلا عن كونها على درجة من السلاسة والبساطة. اذا ما استثنينا تلك المفردات العامية المغربية والاندلسية التي اعتمدها المؤلف في سياق نصه، فإن لغته عموما، تتميز بالاقتصاد والدقة، وهي في بعض الحالات لغة أدبية بارعة من حيث ايفائها لغرض السرد والاخبار والتصوير. لقد التزم الغساني ـ بانضباط تام ـ بوصف المشاهد، وعرض المعلومات وسوق الاخبار والوقائع، من دون أدنى اقتحام لذاته على الموضوع، ومن دون استطرادات طالما ميزت النصوص المشابهة الموضوعة في زمنه، ومن دون تشعب لا يخدم غرض الكتابة، وهو تقديم صورة أمينة لما شاهده، وما وقع له خلال انتقاله من مكان الى آخر، فأتحفنا بنص يقرأ في كل وقت. ومما يحسب للغساني انه لم يلجأ الى المراجع التاريخية إلا عند الضرورة، لكن علمه الغزير وثقافته الرفيعة مكنّاه من تقديم عروض وتحليلات موضوعية ومترابطة للعديد من القضايا المتصلة بالتاريخ. ولنا في استعراضه المكثف لتاريخ القارة الاوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر مثال جيد. يقدم الغساني لقارئه مسردا بالاحداث والوقائع الحربية والسياسية المتصلة بالتاريخ الاوروبي، وصولا الى زمن الرحلة، من شأنه أن يعين قارئه على تكوين خلفيات ضرورية متعددة للمشهد الاسباني الاجتماعي والسياسي في نهايات القرن السابع عشر، بصفته جزءا من المشهد الاوروبي لعصره وما تميز هذا العصر به من وقائع وأحداث عسكرية وسياسية واقتصادية ودينية (تدخل بينها دسائس البلاطات وصراعات الملوك والامراء والبابوات، والحروب الدامية التي وقعت، على خلفية صراعين كبيرين بين القوى الدولية، واحد كان مسرحه أوروبا وأقطابه الاساسيون: اسبانيا الكاثوليكية ومعها البابا في روما وحلفاؤهما الألمان والنمساويون من جهة، ومن جهة ثانية البلاط الفرنسي وتحالفاته مع الباب العالي. ومن جهة ثالثة انجلترا وكنيستها الانجليكانية بتمايزاتها وخصوصيات بلاطها ومشروعات هذا البلاط التي ستكشف عنها بجلاء أحداث القرن الثامن عشر، وصراع ثان مسرحه هذه المرة القارة الامريكية التي كان قد مضى على استعمار أوروبا لها نحو قرنين. وقطبا الصراع، هنا، الاسبان من جهة، وبقية المستعمرين الاوروبيين من جهة ثانية، وبينهم الانجليز والهولنديون والألمان والبرتغاليون والفرنسيون. الوزير الغساني في هذا السياق يبدو ملما بأحداث عصره، ومطلعا بصورة كبيرة على الواقع الاسباني، فنراه يتبع كل صغيرة وكبيرة في بنية المجتمع، ويشير الى الآثار السلبية للنهب الاستعماري في انعكاسها على الحياة الاسبانية نفسها. ويقول نوري الجراح في تقديمه للرحلة «لن تكون سطور هذه المقدمة عن الرحلة كافية للإلمام بطبيعة عمل الغساني في نصه كمشاهد وشاهد، ولا بملاحظاته القيمة التي يقدمها لنا حول المجتمع والعادات والتقاليد والفنون والرياضيات والطقوس السائدة في مختلف البيئات، ولدى شرائح المجتمع المختلفة، مع تركيزه الخاص على الطبيعة الارستقراطية، ومحاولته تحليل نظام الكبيرة أو الكبراء. ويؤكد الجراح على ان هامش الموضوعية التي يتحلى بها الغساني، لا يخلو من ادراكه للخصوصية الشرقية والاسلامية، حيث انه يقيم لها اعتبارا خاصا يرفع من مستواها ويحفظ لها وزنها النوعي في مناطق من خطابه. عبدالرزاق المعاني

Email