قصة الاسبوع، يوم أخير بلا شمس، بقلم: فكرية احمد

ت + ت - الحجم الطبيعي

عشرات الاشياء لاتزال تنتظرها.. ولا وقت لديها للدخول في تلك التفاصيل الصغيرة الخاصة بالأولاد، تركتهم يفعلون كل شيء بمفردهم دون رقابتها الصارمة، التي اعتادتها يومياً، فلم تلهث وراء الصغيرة لتلقمها قطع الخبز بالمربى، ولم تنهرها حتى لا «تكور الطعام» بفمها طيلة ساعات الصباح، ولم تعبأ بما ينتقيه اخويها من ملابسهم في الوان متنافرة، ولا بسكب احدهم اللبن على المائدة، لا وقت للثورة على هذه الامور، الساعات حرجة وعقارب الوقت تحاصرها ليزداد توترها، لكنها تبدو متغاضية حتى عن الام القولون العصبي وآلام الظهر التي ورثتها من سنوات الصقيع. ـ هل تنازلت عن حلمك في بيت كبير تظلله اشجار الياسمين؟ ـ بل اشتري عمري.. قد اكتفي بلوحة صغيرة تضم شجرة ياسمين.. اعلقها على حائط منزلنا الصغير هناك، لا يهم ان يكون المنزل واسعاً.. ملكاً.. او مؤجراً، المهم ان تشعر فيه بالامان، وان يقاسمك الحياة اخرون مثلك.. يتحدثون لغتك، لا تترجم لهم آناتك حين يفاجئك الالم، الا يعني لك هذا الكثير؟ نعم تشتري عمرها او بقاياه، كان زوجها يدرك هذا جيدا، اعوام طويلة سقطت، لم تعش تفاصيلها، ولا تعي ملامحها، لقد سرقت الان فقط تستعيد احساس الفتاة، هذا الاحساس الذي غادرها من الايام الأولى لوصولها لهذا البلد البارد، حين جاءت، ادركها شعور مبكر بالعجز، هرمت فجأة بلا مقدمات، عاشت احساس المرأة المجربة العزوفة عن كل انبهارات الحياة.. فلم تبهرها هنا الحياة، منذ الوهلة الأولى تلقفتها غيوم داكنة لا نهائية، واعتادت ان تراها دوماً تغلف السماء دون هدنة، ولفتها الغيوم بين تلافيفها، فعاشت البرد.. وعانت الظلام لم يفارقها الاحساس بالبلولة، وكانت من قبل تعشق الربيع، وتهيم خيالاً مع تفاصيل الخريف، يدثرها البرد الغامض في الشتاء ويولد لديها قصة حب غامض ممتد، ويطاردها الصيف بعذاباته.. فتتحول الى فراشه هاربة.. كل الافق ملك لها.. هكذا كانت قبل ان تغادر وطنها تتحول مع الفصول وتعيش متغيرات الطبيعة في عشق، لم يحزنها في هذا البلد غياب الشمس وحده، بل غياب الحب.. الاشياء هنا عارية مجردة بلا مشاعر.. وهكذا كان البشر. كم فاجأها محمد وهي تبكي وحدها.. وكانت تشعر بالخجل لارتكابها جريمة الشعور بالوحدة وهي زوجة وام.. نعم كانت وحيدة، تساءلت الف مرة، هل كانت مخطئه حيث رفضت الرضوخ للأمر الواقع والتعايش معه، لقد دفعت وحدها الثمن، هذا المنفى الاختياري لم يفرض عليها، بل ارتضته طواعية. قبل تلك الاعوام الكثيرة، مر كل شيء سريعاً كسيناريو كان معدا من قبل في حبكة وايضاً في عجالة، حملت اليها العمة بشرى تقدم عريس، وشفعت البشرى بأنباء عن عمله في هذا البلد الاوروبي ويسرة حاله، ورأته، شعرت بانجذاب نحوه، كان مختلفاً عن اي شاب تقليدي طلب يدها من قبل، لم تكن سفرته للخارج مبعث جذب حقيقي لها، بل شعورها بالارتياح له، وفاجأها في ثاني زياره بكلمة «احبك».. فارتجفت وخفق قلبها، وتساءلت وملمس يده القوية لا يفارقها، هل حقاً احبها، وهل احبته، ام انه رأى فيها ابنة بلده التي يشتاق اليها، ورأت فيه رجلا مختلفاً.. يعيش بشرقية خالصة في قلب اوروبا.. وتزوجته. كان زواجهما مفاجآة لكل من يعرفها، فلم يمض على تعارفهما سوى ايام قليلة، لمحت نظرات الحسد تأكلها من صديقاتها، وراهنت ان احداهن غمزت له وهو بجانبها في ليلة العرس، ومالت ثالثة بصدرها عليه في اغراء مكشوف، فأكدت لنفسها انها الفائزة عن كل من حولها بهذا الشاب الرائع والسفر معه الى اوروبا، ولم تحزن لتركها العمل في الشركة المرموقة، فقد حصلت على اجازة مقطوعة صارت فيما بعد ابدية، لكن شعوراً ما بالخوف من المجهول لازمها وهي تحشد ملابسها الشتوية فقط في الحقيبة الضخمة لترحل معه. دامعة العينين، غائبة العقل جاءت لهذا البلد الغريب البارد، مخلفة كل شيء وراءها، امها اخوتها شعرت بالرهبة والغربة، وطمأنها بانها سنوات قليلة فقط ويعودان معاً بالحصاد، اقسم ان يبني لها بيتاً واسعاً بحديقة، ويسوره بزهور الياسمين، وكانت تعشق الياسمين، وصدقته، ورغماً عنها عاشت بداخلها هذا الشعور بالبقاء المؤقت، شعور الرحلة التي يجب ان تنتهي، لكنها قررت ان تتعايش مع الصدمة، صدمة انها ليست المرأة الاولى ولا الوحيدة في حياة زوجها. فحين شكت له الوحدة وفراغ الوقت وهو يعمل منذ الصباح وحتى المساء، ويعود اليها عازفاً عن الحركة او الكلام، حمل اليها في اليوم التالي صفاً من شرائط الفيديو، لتكون تسليتها في الوحدة، ولم تلهها الفكرة عن الشعور بالوحدة. واقترح عليها تعلم تلك اللغة الاوروبية الجديدة، وقبلت الفكرة بحماس مفتعل، وعادت الى عهد التلمذة وحمل الكتب الى المدرسة الخاصة يوما في الصباح واخر في المساء، كان الرعب يطاردها وهي تقف بمحطة الترام تترقب وصوله، ويحوم حولها شباب متهتك تفوح منهم رائحة الخمر، منهم من ثقب اذنه فتدلى منها قرط واخر ثقب شفته او حاجبه، وثالث اطال شعره وقد لونه بصبغات صارخة، كانت تتنفس الصعداء وهي تتلمس مقعداً خالياً خلف السائق طلباً للأمان، وتنطق الشهادتين حين تصل لباب المنزل. ولم تحب تلك اللغة الجديدة، واتقنتها، لم تحب الطقس البارد والمطر الغزير وتحدت السير تحته لقضاء شئون المنزل في غياب زوجها، ولم تحب هؤلاء الاوروبيات اللاتي فرضن عليها من زوجات اصدقائه، لكنها تعاملت معهن، وعبر الثرثرة التلفزيونية اكتشفت الحقيقة، انها ليست المرأة الوحيدة في حياة زوجها، هناك اخرى، يرافقها منذ اعوام. انهارت، حطمت الاشياء حولها وادمت رأسها هددت بالانتحار، طلبت الطلاق والعودة للوطن، لماذا لم يصارحها بالحقيقة ليترك لها حرية الخيار. ورأت بعين خيالها انها تعود للوطن بخفي حنين، فاشلة ضائعة، بلا زوج وبلا بيت او مال حصاد مرير وسخرية امر ستحاصرها، لن تقبل الهزيمة، وقبلت التحدي، ستجعله يحبها وينسى الاخرى، ليست اجمل منها تلك الاخرى ولا اصغر، ستتعلم تلك اللغة، وستصبغ شعرها بذات اللون، وستغير من هيئتها، ستكون امرأة اخرى ولن تقبل ان تتركه لأخرى، وتغيرت، او هكذا، بدأت صارت تراقب وجهه حين تطاردها عبارات الاطراء من اصدقائه، لكنها كانت تشعر انها ممثلة رديئة لقصة اكثر رداءة. وفاجأها هذا المساء، قال في نبرة استشعرت صدقها، ارجوك، لا تتغيري، اريدك غيرها لم تكن تعني لي الاخرى سوى ليلة دافئة، قبل ان تحضري كنت اعاني الفراغ والوحدة، اما الان فلا لقد تركتها للأبد، احبك انت ولا احد سواك. ومنذ هذا اليوم اصبح لها، لكن مرارة الصدمة لم تفارق حياتها رغم كل محاولاتهما معاً لتجاوزها، فلم تحب حياتها في هذا البلد، وتمنت في كل لحظة ان تعود معه للوطن. ما اقسى ان يقضي انسان اهم سنوات عمره داخل سفينة لا تهدأ ولا ترسو على شاطئ، ان يعيش تلك السنوات الخضر بين الخوف من الغرق وتهديد اللاوصول، ان تعتل عيناه من الحملقة في لا شيء بحثاً عن مرفأ. لماذا لم تحب هذا البلد؟ كم تساءلت، هل لطقسه البارد وشمسه النادرة، لأهله الذين يمارسون حياتهم بلا روح كالأسماك المجففة، هل لأن الامور مرت سريعاً دون تفكير وجاءت لأداء واجب الزوجة في بلد لا تعرفه ولا يعرفها فيه احد، هل لأنها تنازلت عن جانب من عملها الذي تحبه، ام لأنها فارقت اسرتها واصدقاءها الذين اعتادت كل شيء فيهم حتى سخافاتهم، ام هي الاسباب مجتمعة، لكن كل ما تدركه انها لم تحب وجودها هنا، وفارقها شعور الحرية، ومتعة التجوال في الشوارع والحملقة في الفتارين المضيئة، فلم تستوقفها مناظر الخلاعة التي مارسها الاخرون علانية، ولا الصعلكة على الارصفة لتناول البطاطس المحمرة وقطع السمك الصغيرة، تبدل لديها الاحساس المنطلق الذي عاشته في الوطن بشعور رافض لكل الاشياء، وادركت انها بدأت رحلة عذاب مع نفسها، وعليها ان تؤدي دور الزوجة السعيدة بمهارة، ثم تؤدي دور الام ايضاً بمهارة، وان تجتر التعاسة، وتبكي الساعات الطويلة بمفردها وتعيش تحلم بالعودة ـ العيش في اوروبا حلم لأي انسان، زملاؤك يتمنون لو كان ممراً سرياً بين غرف عملهم والمطار للفرار لأوروبا. قالها رئيسها بالشركة مداعباً، عندما دفعها الحنين لرؤية زملائها القدامى ابان احدى زياراتها للوطن. وقد لمح خطوط التعاسة مختبئة وراء ابتسامتها المفروضة، قالت له في حسم: الا انا، لا شيء يبهرني بهذه الحياة، قد يقبل شخص ان يعيش عمره بين سطور جدول رتيب من المتاعب، لكني على اية حال ولسوء طالعي لست هذا الشخص. هل ترفض النعمة كما يتهمونها، كلما حادثتهم عن حلمها بالعودة وصفوها بالسفه والغباء، قالوا ان الفرار من هذا الوطن والعيش باوروبا حلم لكل انسان، الظروف الاقتصادية الغلاء، البطالة، اخلاقيات البشر التي صارت في الحضيض، و، و، لكنها كانت صماء عن كل ما يقولون، لو عاشوا يوماً مما عاشته وحدها هناك لما قالوا هذا. عادت من جديد تدور في البيت كالنحلة، تتفحص بعينيها المنحسرة البصر كل الاشياء وتعتصرها الحسرة، قطع الاثاث، الاجهزة المتناثرة هنا وهناك، لن تستطيع ان تحمل شيئاً معها، ستخلف وراءها كل ما بذلت فيه حصاد السنين، ليس لديها قوة للدخول في تفاصيل الشحن والجمارك والتعقيدات الاخرى، نادت على زوجها لترجوه ان يصطحبا معهما جهاز الاسطوانات العتيق، كان هذا الجهاز يحمل لها ذكريات وشبقاً خاصاً في لياليهما القليلة الدافئة.. ولم يجبها احد، كررت النداء فيما يشبه الصراخ: محمد.. محمد، لماذا لا تجيب؟ فزع الصغار وانفض سمرهم العابث بالغرفة الاخرى وهرولوا اليها في جزع، وتبعتهم امهم، شاهدتها تحملق في المرآة من جديد وتتحسس تعاريج الزمن وهي تبتسم، فادركت ان نوبة النسيان عاودتها، نهرت اطفالها لتخرجهم من الغرفة، وهمست لكبيرهم، جدتك عاودتها النوبة كن حذراً، وانفجرت الحفيدة الصغيرة في البكاء دون ان تدرك معنى ما تراه وهي تتشبث بملابسها وتهزها في خوف، جدتي.. جدتي. ها هو اليوم اخيراً يجيء، يوم العودة للوطن، هل تنازلت عن حلمها في بيت تملكه وتحوطه اشجار الياسمين، كم دفعت من اعوام من اجل هذا الحلم الذي لم يتحقق، طحنتها الحياة، لا بل جمدتها هنا بين نسج الحلم والانتظار، تتشاغل بين الساعات والايام بتربية الولد والبنت، وتعد نفسها انها ستعود العام القادم، تجلس بين حين واخر تعيد معه حديثاً مكروراً، كم ادخرنا كم يلزم لشراء بيت، وكم يلزم لمدارس الاولاد، يجب ان نحافظ لهم على مستوى جيد للتعليم، اللغة هي المستقبل، سندخلهم مدارس للغات في الوطن وهذا مكلف، فلنؤجل العودة للعام القادم، وتأجلت العودة اعواماً، واعواماً، كبر الولد والبنت، ولم يصبح لهما وحدهما قرار العودة، قال الولد: سادرس الكمبيوتر، احب الوطن ولكن في اجازات الصيف فقط. وقالت البنت دون حياء انها ارتبطت بزميلها واتفقا على الزواج. ودقت هي على صدرها ولم تقو على الكلام، همست فقط في استسلام بسؤال واحد فقط: هل هو مسلم؟ وتنفست بصعوبة حين اطمأنت انه كذلك. وانتقل الولد في بيت اخر ولم تعد تراه الا في المناسبات، وتزوجت البنت وانشغلت في حياتها الخاصة، فكانت تجلس معه في الامسيات تحاول ان تستعيد حديثاً مكروراً عن العودة، لكنه كان حديثاً باهتاً وفارغاً بعد هذه الاعوام. الم اقل لكم انه يوم خاص، لا تضطروني لاستخدام العصا، ربتت ابنتها على كتفها وقالت في شفقة: استريحي انت يا امي سأتولى تأديبهم. صاح حفيدها الكبير: التاكسي جاء يا جدتي هيا بنا، انه كبير جداً وسيسع كل الاشياء التي ترغبين في حملها. ولم تحمل معها الا جهاز الاسطوانات العتيق وحقيبة يدها لأن بها اوراقا قالت ابنتها انها مهمة. اين ابوك يا ولد.. اشار الولد الى أبيه الاشقر ولم ينبث، فلكزته في كتفه بقسوة وهتفت: هل تسخر مني، اين ابوك محمد؟ تدخلت ابنتها لانقاذ الموقف، وقالت دامعة: انه هناك يا امي، لقد سبقنا الى المطار، لا يمكنه المكوث معنا، يجب ان يبقى هناك.. تمتمت لنفسها «هذا الرجل كم طلبت منه اكثر من مرة ان يسمع كلامي ويبقى بجانبي، فالأولاد لا يخافون الا منه، وها هم يحدثون جلبه بلا داع، ويصرون على حمل لعبهم داخل التاكسي وفي الطائرة، كل هذا دون داع، اللعب في الوطن كثيرة وجميلة فلماذا حمل الاشياء، قالت الابنة لضابط الجوازات ان الامر خاص جداً، وقالت: والدتي تعاودها نوبات النسيان، وجثمان ابي سيتم شحنه على ذات الطائرة، انه وضع خاص جداً، ومن الافضل الا يحاول احد تذكيرها انها تسافر لتدفن زوجها بالوطن، ومن الافضل ان تظل في نوبة النسيان هذه حتى لا تملأ الدنيا عويلا.. وتفهم الضابط الامر، وكان رقيقاً. واصرت هي ان تجلس بجانب النافذة، قالت انها ستودع اخر يوم بلا شمس، احكمت نظارتها السميكة على عينيها، ولصقت وجهها بزجاج النافذة المحدودة، كان الزجاج بارداً، والنهار بالخارج مظلماً كالعادة، الشمس مختفية وراء السحب السوداء، وحبات المطر الغزير تدق في قوة زجاج النافذة، كان كل شيء بالخارج كما هو لحظة مجيئها قبل اعوام طويلة، طويلة، لكنها هذه المرة كانت تتنفس بارتياح غريب، فسفرتها للوطن هي العودة بلا رحيل، هكذا قررت قبل يومين، عندما استدارت لتوقظ زوجها ليصلي الفجر، وجدته بارداً متجمداً، صرخت، انهارت، وتمنت لو تموت معه، وقررت ان تدفنه في الوطن كما اوصى دائماً. وجاء الولد بعض الوقت لرؤية والده لآخر مرة وانصرف كالغريب، قال لا يمكنه الحصول على اجازة من عمله لمرافقة جثمان ابيه، وتحملت البنت وحدها عناء المرافقة، قالت لزوجها الاشقر انها فرصة لتسافر مع الاولاد لقضاء اجازة بالوطن، اما هي فقبل ان تستغرقها نوبة النسيان، قالت للولد والبنت، انها ستبقى بجانبه هناك حيث سيدفن، في ذلك البيت الصغير للعائلة بقريته، بيت ليس ملكا لهما، ولا تحوطه اشجار الياسمين. قاصة وكاتبة صحفية مقيمة بهولندا صدرت لها رواية «مملكة العبيد» وتحت الطبع رواية «دموع في بحيرات الثلج» ومجموعة قصصية بعنوان «حب ودماء».

Email