اللون في الشعر العربي قبل الإسلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

بيان الكتب: الألوان مظهر من مظاهر تجلي الجميل، وتتجلى خبرة الخبير بالألوان من خلال احساسه بتوافقها أو تنافرها، وقد كان للانسان البدائي ، ولع فطري بها، وانسربت الألوان ضمن اساطير الانسان المبكرة، فللحرب ألوانها وللأفراح والاحزان ألوانها، وقد برزت الظاهرة اللونية في الشعر العربي قبل الاسلام ممتزجة بالاساطير الاولى. ولسبر هذا الموضوع ألف الاستاذ ابراهيم محمد علي كتابه هذا بناء على قراءة ميثولوجية لشعر العصر الجاهلي. الكتاب مؤلف من مدخل وتوطئة وستة فصول وخاتمة وملحق يشتمل على ألفاظ الألوان التي وردت في الكتاب منسوقة على حروف المعجم وقد بلغت 188 لفظة. المدخل اشتمل المدخل على ثلاثة مباحث، بحث أولها في اللون بوصفه ظاهرة فيزيائية قابلة للقياس والتحليل، فقد كشف نيوتن «ت1660.م» عن طبيعة الألوان واثبت ان كل الالوان متضمنة في اللون الابيض المكون من حزمة من الاشعة يمكن ان تحلل بالموشور، وقدم العلماء تعريفا للون بأنه ذلك التأثير الفسيولوجي الناتج عن شبكة العين سواء أكان هذا اللون مادة صباغية أم ضوءا ملونا، وبحث علماء الانثربولوجيا في اسبقية الالوان بعضها على بعض، وحاول علماء النفس وضع خطوط عريضة لكل لون تحدد الاثار التي يتركها في الرائي، كما درس الاطباء استخدام اللون في العلاج.. وكان المبحث الثاني بعنوان «اللون ظاهرة فنية» وهي ظاهرة صاحبت نشأة الفنون لدى الانسان، ودخل اللون بوصفه أداة طقسية سحرية في عقائد الانسان القديم، كما استخدم في الزخارف السحرية على جدران الكهوف وعلى الخناجر وفي التمائم وعلى جسد الانسان ليمنحه القوة ويدفع عنه كيد الاعداء والارواح الشريرة، وكانت الطقوس القديمة مكونة من اللون والصوت والحركة «الرقص» واصبح اللون فيما بعد رافدا اساسيا للغة المجازية التي بدأ تكونها على انها حقيقة، ثم انصب تاريخ اللون بجذوره الاسطورية في الصورة الشعرية التي غدت حاملة لسر اللون وظلاله البعيدة، وعالج المبحث الثالث من التمهيد «اللون في الطبيعة العربية» فالطبيعة هي المصدر الاساسي الذي يقدم الى الشاعر مكونات صوره التي يكون اللون عنصرا اساسيا فيها، والالوان تتجلى في الطبيعة حية وجامدة، وقد استطاع العربي ابداع لغة مرنة للتعبير عن الالوان بدرجاتها المختلفة كما نلحظ في الالفاظ المعبرة عن الوان الخيل على سبيل المثال. اللون الاحمر في الشعر العربي قبل الاسلام تضمن الفصل معلومات فيزيائية عن اللون الاحمر، وذكر ان علماء النفس لاحظوا ان اللون الاحمر يثير روح الهجوم والغزو والثأر ويخلق نوعا من التوتر العضلي ويثير المخ وله خواصه العدوانية ويرتبط بالرغبات البدائية، ويبعث على البهجة والانشراح، كما ذكرت الالفاظ المعبرة عن هذا اللون الذي اكتسب أهمية ميثولوجية لارتباطه بلون الدم، والدم يعني ايضا النفس والروح وكأن هذه اللفظة تمثل العلاقة بين الدم والحياة، وقد دخل الدم عنصرا اساسيا في طقوس عرب الجاهلية، فقد كانوا يخضبون اصنامهم بالدم اي باللون الاحمر، وكانوا يقسمون بالدم، ويسفحون دم النوق على القبور.. ويخضبون نحر الفرس السابق بالدم، وكأن سكب الدم على الحيوانات يكسبها قوة كبرى.. وقد ارتبطت بعض الاساطير العربية القديمة باللون الاحمر كالاسطورة المرتبطة بشقائق النعمان ودم الاخوين اضافة الى ارتباط اللون الاحمر بلون الخمر وبالخصوبة.. وقد انعكس هذا كله في الشعر الجاهلي كما يتجلى في الاشعار التي أوردها المؤلف. اللون الاصفر وهو من عائلة الالوان الساخنة ويمثل قمة التوهج والاشراق لارتباطه بلون الشمس، والفاقع منه ينشط الذهن، لذلك يقترن اليوم الغائم بالخمول والكآبة، وقد وضع العرب عددا من الالفاظ للتعبير عن هذا اللون، وربطوا في شعرهم بين اللون الاصفر وبين الشمس كما ارتبط اللون الاصفر بجمال المرأة المرتبط بالشمس: فرأيت مثل الشمس عند طلوعها في الحسن أو كدنوها لغروب وهنا يجب الا ننسى الوجه الاخر للشمس، وهو وجه يمثل القسوة والجبروت بنيرانه اللافحة فالشمس نار ونور.. واقترن اللون الاصفر ايضا بالقحط والجدب والجبن والغدر.. لقد اسهم هذا اللون في تشكيل الصور الشعرية حسب دلالاته المختلفة. اللون الابيض وهو أول الألوان البسيطة، ويمثل الضوء الذي لا يمكن رؤية لون آخر بدونه، وكل الألوان الاخرى مضمنة في هذا اللون، وهو من الألوان الباردة التي تبعث حالة من الهدوء والطمأنينة والاسترخاء، كما انه لون الطهارة والنقاء والثقة والتواضع والرقة والسلام، وقد يكون رمزا للكآبة والحزن باعتباره من الالوان الباردة، وقد وضعت له العربية العديد من الالفاظ وشكل هذا اللون بألفاظه الاساسية والثانوية عددا من الصور الشعرية النمطية، فقد ارتبط كوكب الزهرة ببياض السماء كما ارتبط بالانوثة وبرز بروزا كبيرا في الشعر الجاهلي، فالمرأة بيضاء أو هي بيضاء مشربة بالصفرة أو زهراء وأسنانها ناصعة البياض، اما الرجل الموصوف بالبياض فهو نقي العرض من الدنس، كما ارتبط اللون الابيض باللون الفضي للقمر، وارتبط القمر بالثور الوحشي الابيض الذي كان من الحيوانات المقدسة عند بعض الشعوب، والممدوح في الشعر العربي هو دائما ابيض اللون «البياض المعنوي» ويشبه القمر أو الثور.. وهكذا فان اللون الابيض كان ينسرب في نسيج الصور الشعرية بدءا بصورة المرأة وانتهاء بدلالات الموت والجدب في صورة الشيب. اللون الاسود وهو أغمق الالوان ويمثل الظلام الكامل وانعدام الرؤية، ويعد رمزا للحزن والالم والموت والخوف من المجهول والعدمية والفناء، وخصصت له العربية عددا من الالفاظ، وقد شحن هذا اللون في الشعر العربي بدلالات عديدة، وارتبط بالليل بكل ما فيه من رهبة ومخاوف وخيالات مرعبة واحساس بالعدمية والضعف.. انه الظلام المرعب ذو المقدرة الهائلة: فانك كالليل الذي هو مدركي وان خلت ان المنتأى عنك واسع وارتبط هذا اللون بالتشاؤم، وكان الغراب رمزا للتشاؤم نظرا لسواده فهو رمز الفراق كما ربطت الصورة الشعرية بين الشيب والغراب، كذلك ارتبطت صورة الافعى السوداء بالشر والموت: يرى الناس منا جلد اسود سالخ وفروة ضرغام من الأسد ضيغم كما ارتبط الضبع وأنثاه «جيأل» في الصورة الشعرية بالسواد لعلاقة ما بأجساد الموتى. وارتبط السواد في بعض الصور الشعرية بدوال الخير والخصوبة والصحة والخلود وذلك بالربط بين سواد الشعر وقرون الثور والبقرة والحية وبوظيفة السواد على الشفة واللثة «دلالة الخصوبة». اللون الاخضر صنف هذا اللون في المرتبة الاخيرة مع اللون الازرق، لأن الزرقة درجة من درجات الخضرة، وخصصت له العربية عددا من الالفاظ لتحديد نقائه او اختلاطه بالالوان الاخرى، وارتبط هذا اللون بعدد من الاساطير لارتباطه بلون الشجر والنبات، كما ان بعض الاساطير قد وحدت بين المرأة والشجرة. وكانت البقعة الخضراء اجمل ما تقع عليه عين العربي، وارتبط هذا اللون في الصور الشعرية بالنعمة المرتبطة بالشدة والقوة ورأى المؤلف ان الخضرة في العربية كانت تتسع لتشمل درجات من الكدرة والزرقة، وارتبط اللون الازرق بالعين، وكانوا يتشاءمون بالعين الزرقاء، لان زرقة العين صفة مذمومة مكروهة مخيفة في نظرهم. ومن تداخل رموز الاساطير بعضها في بعض ان العين ارتبطت بدلالتين متناقضتين فالعين في اسطورة هي الام التي خلق البشر من دموعها وهي في وضع آخر رمز الشر والقوى المدمرة، وقد انعكس كل هذا في صورهم الشعرية. الخصائص الفنية لصورة اللون لاحظ المؤلف نمطية الصورة اللونية، فاللون الابيض يشكل صورة نمطية للسلاح وللممدوح وللمرأة، واللون الاحمر شكل نمطية لصورة الخمر وهوادج الطعائن وخضاب المرأة، وان شيوع هذه النمطية يدل على انها في اصلها ضرب من الطقوس والشعائر تصدر عن عقل جمعي لا فردي. ولاحظ الباحث ان الشائع في الصور الشعرية هو تجاهل حامل الدلالة اللونية «حذف الموصوف واقامة الصفة مكانه لدلالتها عليه» فقد كثر حذف السيف واحلال كلمة «ابيض» مكانه، وحذف القوس واحلال كلمة «صفراء».. ولاحظ الباحث غلبة الالوان الساخنة «الاحمر والاصفر» في الصور الشعرية.. كما لاحظ ظاهرة العبث اللوني والدلالات فوق اللونية كالتعبير عن البياض بالحمرة وعن الزرقة بالخضرة وذلك لاتساع المجاز في لغة الشعر. لقد تمكن البحث من الكشف عن بعض الجذور الميثولوجية للصورة الشعرية اللونية في الشعر الجاهلي، وانه ليعد بحق من الكتب الممتعة وهو محاولة جادة ورصينة لتعميق فهمنا للغة الألوان والصور الشعرية. د. عبدالاله نبهان

Email