مساجد وآفاق ـ المساجد واحات لجماليات المكان (27) ـ ذو النورين أول من اتخذ الاروقة للمسجد، المسلمون يطورون مفهوم الرواق اليوناني ليجمع حشوداً من المنافع

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقال، في لغتنا الجميلة، راق الماء صفا وشف، وراقه جماله ارضاه واعجبه، والروق (بتشديد الراء وفتحها) الفسطاط فيقال ضرب فلان روقه بموضع كذا، والرواق (بتشديد الراء وكسرها) جمعها روق واروقة ورواقات تقال للستر يمد دون السقف وبيت كالفسطاط يحمل على عمود واحد في وسطه وسقف مقدم البيت وظلة للدراسة في مسجد او معبد وركن في ندوة للتلاقي والتشاور. ويقول الزمخشري في «اساس البلاغة» ان: الروق من القوم سيدهم، وقعدوا في روق بيته ورواق بيته، وهو مقدمه.وضرب فلان روقه ورواقه اذا نزل. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: (ضرب الشيطان روقه ومد اطنابه) وروق البيت جعل له رواقاً. ورأيت من السحاب رواقاً ـ وهو نادر ـ كرواق البيت». اما الرواق الذي ندرس هنا كأحد المكونات العشرة الرئيسة للمسجد التي اخترناها فالمراد به ما كان يعرف قديماً بالمجنبة، فالبلاذري والطبري، على سبيل المثال يتحدثان عن مسجد الكوفة فيقولان ان له ظلة في مقدمه ليست لها مجنبات. المراد بالرواق والمجنبة في المسجد والعمارة الدينية عامة الساحة المحصورة بين صفين من الاعمدة، او بين صف اعمدة وجدار بشرط ان تكون موازية لجدار القبلة او ممتدة من الشرق الى الغرب قاطعة للمحراب فهي المجاز الذي اطلق بعد ذلك على الطرقة الموصلة بين مدخل المسجد وبين صحنه. بديهي انه لم يكن هناك وجود للرواق في الجد الاعلى للمساجد، وهو مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فهو كما نعلم لم يكن الا ارضاً مسورة بها ظلة جنوبية هي ظلة القبلة واخرى شمالية هي ظلة الشام، ولم يستحدث الرواق الا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ويحدثنا البلاذري في كتابه «فتوح البلدان» عن انه: «يقال ان عثمان بن عفان رضي الله عنه هو اول من اتخذ للمسجد الاروقة واتخذها حين وسعه». ومع استقرار الحكم للمسلمين في البلدان والامصار وتعاقب دولهم وملوكهم، مضوا يوسعون المساجد والجوامع القائمة باضافة الاروقة في جنباتها، ودرج العرف المعماري على ان كل ملك او سلطان يبني رواقاً كان يتخذ رخامة يثبتها على بعض السوارى التي تحمل القبة فوق الرواق تحمل اسمه وتاريخ البناء الذي اضافه. يلفت الشيخ طه الولي في كتابه «المساجد في الاسلام» الى نقطة مهمة، يلخصها في تساؤل محدد، هل اقتبس المسلمون نظام الاروقة؟ وهو يشير الى ان الكثير من الكتاب العرب الذين تناولوا هندسة المسجد والعناصر المعمارية التي يتألف منها يميلون الى القول ان الرواق فكرة اسلامية، ويحرصون على ابعاد المسلمين عن التأثر في بنائها بغيرهم من ابناء الاديان الاخرى. غير انه يبادر الى القول انه لا يرى لهذا الحرص اي مبرر، اذ لا ضير على المسلمين في ان يفيدوا من تجارب غيرهم ويأخذوا عنهم ما هو صالح لهم، وهو يذكرنا بأن الفلاسفة المعروفين بالرواقيين من بين الفلاسفة اليونانيين القدامى انما حملوا هذا الاسم نسبة الى الرواق الذي كانوا يلقون فيه دروسهم على طلاب العلم ممن كانوا يقصدونهم في المعابد والهياكل التي كانت قائمة في ذلك العهد. يبرز في هذا الصدد بصفة خاصة زينون الايلي الذي استقر في رواق كان قائماً في اكبر ميادين اثينا، ومضى يعلم في رواقه هذا على طريقة ارسطو، اي من خلال الحوار والنقاش مع تلاميذه ومؤيديه ومعارضيه، وذلك في غمار التنزه طولاً وعرضاً في الرواق معهم. ويخلص الشيخ طه الولي من هذا النقاش الى ان المسلمين اخذوا فكرة الرواق الذي الحقه بصحن الجامع من الاروقة التي كانت تلحق بالمعابد والهياكل اليونانية ثم بالكنائس المسيحية فيما بعد، وحوروها بالشكل الذي يتلاءم مع طبيعة المساجد ورسالتها الدينية. واحسب ان الشيخ طه الولي انما وصل الى هذا الذي يقول به استنتاجاً، وليس من خلال نماذج معمارية محددة، او وقائع تاريخية بعينها، غير اني لست ادري كيف يستقيم هذا الاستنتاج مع ما يقول به البلاذري من ان عثمان بن عفان هو اول من اتخذ للمسجد النبوي الاروقة حين ادخل توسعته عليه. أياما كان الامر، فإن هذه المناقشة، على طرافتها، لا تخاطب علامات الاستفهام التي تؤرقنا هنا، فاذا كنا نفهم الرواق باعتباره ذلك البناء الذي يضاف الى جوانب المسجد مما يلي صحنه، فإن علينا ان نحاول ان نفهم من اين اتى ذلك الشلال من التغيرات التي طرأت على عمارة قوم بدأوا البناء بانصاف النخيل التي تعلوها اسقف من سعف ليبهروا الدنيا بأروقة مساجد الاندلس، وليتجاوز بأروقة الازهر الشريف ما يزيد على الثلاثين رواقاً ولتوصف اروقتهم الرخامية في شبه القارة الهندية بانها العمارة الاكثر كمالا في الارض. لابد لنا من ان نؤمن بأن هذا كله مرده مشيئة ربانية ارادت لهم ان يكونوا الائمة وان يكونوا الوارثين وان يمكن لهم في الارض، غير ان ذلك كان بآلة من ايديهم وسيوفهم وتضحياتهم، وكما نقرأ عند الطبري وغيره من المؤرخين المسلمين فانه حتى عند الاستعانة بأهل العمارة من اليونان والاقباط فإن القائمين على المشروعات من المسلمين كانوا هم اهل الرأي الذين يوجهون ويأمرون وينهون حتى لا تخرج العمارة في ادنى تفاصيلها عن أعراق الجماعة الاسلامية الناشئة. لغة معمارية مميزة اذا استقر ما تقدم، فإن علينا ان ندرك ان مفردات العمارة الاسلامية نحتت تميزها انطلاقاً من النبع الصافي الذي صدرت عنه، وهو ترسم خطى القائمين بتشييد المسجد النبوي والاستجابة لفطرة الله التي فطر الناس عليها. بهذا المعنى فقد كان من الطبيعي ان تسمح الصحون في مساجد الامصار في جنوبي حوض المتوسط والشرق الادنى باستيعاب المصلين الذين لا يجدون لهم مكاناً في بيت الصلاة. غير ان الحر والضوء في هذا الامتداد الكبير كانا مصدراً لشعور بعدم الارتياح، وهو شعور لا شك انه ينبعث في غياب الظل كما كانت عليه الحال في الأشكال الاولى لمسجدى القيروان وقرطبة وغيرهما. من هنا ظهر مادرج عليها المسلمون عليه عقب ذلك من اضافة الاروقة ـ المجنبات ان شئت ـ الى جوانب ثلاثة من المسجد ليتاح للناس الحركة والصلاة والتأمل في الظل البارد، وبمرور الوقت وتعاظم الحاجة، تضاعفت هذه المساحة لتغدو رواقين وثلاثة واربعة، وابعاداً للملل ودفعاً له وتنويعاً وتحسيناً جرى التنويع في اشكال العقود والحليات والبدنات والاعمدة والقباب الخاصة بالاروقة. من المنظور الخارجي، فإن التركيز في هذه الاروقة ـ منذ البدء ـ كان على البساطة والطابع العملي، ومن هنا فإنه حتى في نماذج معمارية متطورة ورفيعة الشأن في اطار العمارة المسجدية كانت البدنات المنتظمة تضفي على المسجد طابعاً يجعله اقرب الى القلاع والحصون، كما نلحظ في جامع سامراء الكبير الذي تم اكماله سنة 238 هجرية/852 ميلادية، حيث نجد اثنتى عشرة بدنة على كل جانب طويل من دون احتساب ما هو قائم منها في الاركان. غير ان ذلك ما كان ليظل قدراً مقدرا على المعماري المسلم، بل كان لابد من تجاوزه، بشكل او بآخر، ومحاولة الوصول الى بدائل تشكل مفردات للغة المعمارية الاسلامية، هكذا فإننا نجد في سوسة انه يجري التخلص خارجياً من البدنات لصالح «البستين» او ذلك الجزء النائي من الجدار، ومن المحقق ان المزيد من الجهد المعماري ادى الى ذلك التنوع الهائل الذي من شأن نظرة سريعة ان تطلعنا على جوانب منه. غير ان المرء لابد له من ان يحار وهو يتأمل التنوع الهائل لأروقة المساجد على امتداد دار الاسلام، وعبر المراحل التاريخية المختلفة، ومن هنا فسوف نبادر الى جولة سريعة ما بين اروقة المساجد الاربعة التالية: ـ مسجد احمد بن طولون بالقاهرة. ـ مسجد قوة الاسلام بدلهي. ـ مسجد الامام تركي بن عبدالله بالرياض. ـ مسجد الخلفاء ببغداد. بين القاهرة ودلهي من المحقق ان العودة الى مسجد احمد بن طولون مراراً وتكراراً لم تأت من فراغ، فهذا المسجد الذي يجمع بين القوة والرهافة هو الوحيد من نوعه في مصر، كما انه لا نظير له في العالم كله الا في سامراء بالعراق. اول ما يلفت النظر في هذا المسجد، من منظور الاروقة التي تعنينا هنا، هو ان المرء لا يكاد يغشى هذا المسجد حتى يجد نفسه محمولاً على اجنحة الصفاء والسكينة، مستغرقاً في تأمل صوفي يعمقه الاحساس بارتفاع العقود واتساق الخطوط وعمق الاروقة التي توشيها غلالة من غموض رقيق. وكما سبقت لنا الاشارة، فالمرء لا يملك الا التوقف عند بدنات هذا المسجد وعقودها المميزة وحليها الفريدة، وبدنات الاروقة المطلة على شكل شبابيك ذات عقود مدببة تكتنفها من الجانبين حليات مستديرة مقعرة زخارفها فصوص على هيئة المروحة، وتملؤها زخارف هندسية جصية مخرمة، متنوعة الاشكال لا يتكرر التصميم الواحد فيها مرتين قط. ولسوف نرى لاحقاً كيف ان هذه الاروقة التي تتألف من رواقين الى كل من اليمين واليسار والخلف ستترك اثراً شديد العمق في نفوس المعماريين المسلمين الى حد اننا سنجد اصداء منها في مناطق شتى من دار الاسلام. اذا انتقلنا في الزمان والمكان الى مسجد شهير اخر سبق لنا ان تأملنا ملامح عديدة فيه، هو مسجد قوة الاسلام، لوجدنا ان هذا المسجد لا يمكن الا ان يثير فضولنا من منظور اروقته، فهذا المسجد الذي استغرق بناؤه في مجمله ما يزيد على مئة عام كان اصلاً عبارة عن مساحة مسورة مستطيلة وجدرانه العالية تقويها اروقته، وهي رواقان على كل من اليمين واليسار وثلاثة اروقة في الخلف. هذه الاروقة لا يمكن الا ان تكون مثيرة للفضول، فاعمدتها كتل نحتية، كل منها عبارة عن عمودين ركب احدهما فوق الآخر وتركت مؤثراته النحتية على حالها، موحية بأنها اقتلعت من ابنية قديمة واعيد توظيفها، وهو امر مألوف في العديد من الابنية الصرحية على امتداد العالم كله. غير ان فضولنا لن يتوقف عند هذا الحد، وانما سيمتد الى علاقة هذه الاعمدة بالسقف الذي تحمله، فهي تمتد في اطار اسلوب موح بغابة الاعمدة الحاملة للسقف، لكننا لن نجد في الاروقة جميعها اياً من الاشكال التي طالما تفنن المعماريون المسلمون في ابداعها، فهنا في هذه الاروقة لا وجود للعقود ولا المقنطرات ولا الحلي ولا الزخارف ولا الشبابيك التي طالما اطلت علينا من اروقة قلب دار الاسلام. والعقود الوحيدة كما سبق ان رأينا، التي ستصافح اعيننا في هذا المسجد بأسره هي التي سنراها في ستارته الحجرية الخماسية، المنفذة باسلوب اقرب في براعة تكوينه الى النحت منه الى التشييد والانشاء. ملامح من الرياض وبغداد قلنا ان بدنات اروقة مسجد احمد بن طولون بالقاهرة. بجمعها المدهش بين القوة والتماسك من ناحية والجمال والرهافة من ناحية ستؤثر في نفوس عدد كبير من المعماريين المسلمين، فنراهم يبادرون الى استحضارها في اطار ما يصممونه من مساجد في ارجاء العالم. ونحن لسنا بحاجة الى الايغال في المسير بعيداً قبل ان يصادفنا مثال بارز على هذا التأثر بل سنجده في قلب شبه الجزيرة العربية، فما علينا الا ان نتأمل جامع الامام تركي بن عبدالله في حي السفارات بالرياض لنلمح استحضار مصممه راسم بدران لجماليات بدنات اروقة مسجد احمد بن طولون لتطل في الموضع نفسه من هذا الجامع. حقاً اننا سنجد ان بدران قد الغى من هذا البدنات كل ما فيه من عقود، وذلك في اطار استبعاده لكل ما يشير الى الاسلوب الاسلامي من قريب او بعيد في تصميمه، لكن المرء عليه ان عموم يفقد ذاكرته البصرية لكي يغيب عنه هذا الاستحضار لبدنات اروقة جامع بن طولون لتطل عليه من ساحة الكندي. على أي حال فإن جانباً من عبقرية بدران يكمن في جعلنا لا نستشعر بأي غربة بين هذه البدنات القوية والبديعة المنقولة في الزمان والمكان وبين مقومات وتأثيرات العمارة النجدية التي استوحاها بدران بقوة في تصميمه. ومن المؤكد ان كل من دفعه الفضول الى محاولة القاء نظرة على الرسومات والدراسات الجرافية لتي قدم بها بدران لمشروع هذا المسجد سيجد فيها الدليل، ان كان بحاجة الى دليل، على صحة الملاحظة التي طرحناها هنا. اذا انتقلنا الى اروقة المسجد الأخير الذي اخترناه لنلقي نظرة عليه هنا، وهو مسجد الخلفاء في بغداد، لوجدنا انفسنا امام نموذج شديد الفرادة حقاً يعكس تكاملاً لاطراف معادلة، تبدو لاول وهلة وكأنها تجسيد حي للاستعصاء والاستحالة. تبدأ حكاية هذا المسجد في عام 1961 عندما كلفت وزارة الاوقاف العراقية المعماري دكتور محمد صالح مكية بمهمة يبدو لاول وهلة انها مستحيلة التنفيذ، فقد طلبت منه ان يصمم مسجداً يشيد في موقع اثري كان يشغله مسجد عباسي يعود الى القرن التاسع هو مسجد الخلفاء ويهيمن عليه الحضور الكلي لمئذنة سوق الغزل التي جرى ترميمها والتي كانت قد بنيت اصلاً في اواخر القرن الثالث عشر. من الواضح ان جوهر ما استدعى مكية للتعامل معه هو التوصل الى حل معماري يكفل ادماج هذه المئذنة في مجمع مسجدي جديد، وهذا كله في موقع صعب وسط نسيج حضري حافل بالحركة التجارية يتسم بكثافة البناء، هكذا فانه كان عليه ان يحقق توافق السياق التاريخي للموقع مع رغبة وزارة الاوقاف وبلدية بغداد في ان يكون المشروع في صورته النهائية «حداثياً» من خلال اظهار صورة عراق تقدمي في غمار العمل في ظل الضوابط التي يفرضها موقع يتسم بالمحدودية. فكيف تصرف مكية في موقف على مثل هذا القدر من الدقة والتعقيد؟ لكي نفهم الارضية النظرية التي نبع منها مشروع مكية، دعنا نتذكر تصوره للكيفية التي كان ينبغي التعامل بها مع بغداد معمارياً لكي يتم بناء العمارة «الاقل شراً» على حد تعبيره. انه يقول في مقابلة شهيرة اجرتها معه مجلة «فنون عربية» اللندنية ونشرتها في عددها الخامس الصادر عام 1982 معبراً عن وجهة نظر مهمة تبرر طول هذا المقتطف ـ يقول: «ان مجرد تسمية شارع الجمهورية في بغداد بشارع الخلفاء له مدلول مهم بحد ذاته، ومعناه ان هذا الشارع وتنظيم الشواع الاخرى وتخطيط المدينة على اسس حضارية، على اسس بول سيرفس (المؤسسة البولونية التي استقدمت الى العراق عام 1959 ووضعت مخططاً جديداً لمدينة بغداد ـ التحرير) او مخططات الشركات الاستشارية العالمية الكبرى التي توحي بها المسطرة دون اعتبار لكون المدينة بذات روح وحياة. ان بول سيرفس ارتكبت اول خطأ حينما خططت المدينة على اساس دائري انطلاقاً من فكرة مدينة بغداد المدورة، فأدى ذلك الى خنق المدينة وخلق مشاكل جديدة لها، وذلك بدلاً من مدها على جانبي الساحل النهري حتى لو وصلت الى سامراء. لو فعلوا ذلك لكان بالامكان اعطاء النهر حقوقه الطبيعية، لأن النهر هو عز المدينة، ولأصبح بامكانه ان يستفيد من كل المجمعات ومن ثم الحفاظ على المقياس المعماري واعادة روح الوحدة الى المدينة.» لقاء القديم والجديد اعادة روح الوحدة الى الكيان المعماري، اذن، هي ما ينشده مكية، فكيف حقق ذلك على مستوى مشروع جامع الخلفاء وأين مكان الاروقة من هذا المشروع؟ لابد لنا من ملاحظة ان التعامل مع هذه النوعية من المشكلات امر مألوف في العالم الاسلامي، لكنه في العديد من الحالات يفضي الى كوارث حقيقية من المنظور المعماري، اما في حالة جامع الخلفاء فإن العمل فيه بدأ في عام 1962 وانتهى بعد عامين. يقع جامع الخلفاء ـ كما سبق القول ـ في منطقة كثيفة الابنية تحيط بها المباني التجارية، وقد حددت المئذنة التاريخية الايقاع العام للمشروع من منظور التصميم، حيث حتمت توزيع الكتل المعمارية واختيار مواد البناء، حيث احتلت المساحة التي تم بناؤها 1800 متر مربع وتألفت من بيت صلاة مثمن تعلوه قبة عملاقة، مع وجود رواقين تميزهما اقواس مدببة الاطراف يفضيان الى الجامع وصحنه من الشوارع القريبة على الجانبين الغربي والجنوبي للجامع، ولا تخدم الممرات غرض ربط الاروقة بالمسجد وانما ربط العناصر المختلفة للمجمع المسجدي كله. ويلاحظ ان استخدام مخطط مثمن يرتبط تقليدياً بعمارة الاضرحة والروضات، ويعتبر شيئاً غير مألوف في المساجد، غير انه هنا سقف المثمن بقبة عملاقة تقوم على ثمانية اعمدة وبين كل عمودين منها حنية على شكل حرف «يو» الانجليزي استغلت احداها لتكون محراب الجامع. استخدم مكية الطوب الاصفر كوسيط زخرفي في سياق تصميم الجامع، متراوحاً ما بين انماط بسيطة الى افاريز هندسية وخطية مؤسلبة، وقد اختيرت هذه المادة في المقام الاول كوسيلة لتحقيق التناغم ما بين المئذنة القديمة والكتل المعمارية الجديدة. في ضوء هذا كله لا عجب ان يلخص مكية التحدي الذي واجهه في هذا المشروع بقوله في تعبير رمزي دال: «لقد شيدت كاتدرائية في مساحة تناسب معبداً صغيراً.» بقي القول ان هذه المساجد يربطها جميعها ان المرء اذ يغشى صحونها ويتأمل اروقتها لا يملك الا ان يحس بغبطة صوفية وشعور غامر بالرضا. لكنه رضا بالمعنى الذي يعلمنا اياه الجنيد، والذي يتعين علينا ان نتأمله طويلاً، اذ يقول الرضا ترك الاختيار، وهو نفسه المعنى الذي يمنحنا ذو النون لمحة من قبسه بقوله: «الرضا سرور القلب بمر القضاء».

Email