15عملاً من إبداع التراث الإنساني (13) ـ قلب الظلام ـ رواية الكاتب البولندي ـ الانجليزي جوزيف كونراد ـ بقلم : محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

وقعت احداث هذه الرواية القصيرة نسبيا في نهاية القرن التاسع عشر واتخذت المسرح الاغلب لوقائعها في غابات الكونغو التي كانت وقتها مستعمرة بل كانت تعد من الممتلكات الخاصة للملك البلجيكي ليوبولد الثاني (1835 ـ 1909)، الذي جنى من وراء مستعمرته الاثيرة في الكونغو.. البلجيكي ارباحا طائلة يستوي في ذلك مع تجارة الماس و.. الاتجار في البشر (!) ومن ثم فذكريات الاستعمار البلجيكي كانت طازجة في الاذهان حين وقعت احداث رواية «قلب الظلام» ما بين استيلاء ليوبولد على ذلك البلد الافريقي الغريب في عام 1885 (بعد سنة واحدة من انعقاد مؤتمر برلين الشهير الذي يعرف في التاريخ الحديث باسم مؤتمر التسابق ـ او التكالب على استعمار واستغلال افريقيا) ـ وما بين اواخر القرن التاسع عشر، الفترة التي شهدت ـ كما ألمحنا احداث الرواية، تم صدورها في لندن عام 1902 على ان المواقع الافريقية تظهر لنا حين ينتقل السرد الى ذكريات الماضي في حين ان السرد عن الزمن الحاضر في الرواية ينقلنا الى قارب يرسو الى ضفاف نهر التيمز في لندن واحيانا الى بعض الاماكن في العاصمة البلجيكية بروكسل. المبدع تيودور جوزيف كونراد كورسينوفسكي مولود في اوكرانيا من اسرة بولندية الاصل والى جانب البولندية كان يتعلم الفرنسية في فترة التكوين ثم تعلم الانجليزية بوصفها لغة ثانية وإذا به لا يجيدها ويتقنها فحسب بل اصبح يكتب بها رواياته وقصصه ويستخدمها كي يصبح واحدا من اعلام الادب الروائي الانجليزي ما بين العصر الفيكتوري في القرن التاسع عشر والربع الاول من القرن العشرين. امتدت حياة جوزيف كونراد كما عرفناه باسمه المختصر في ادب الانجليز بين عامي 1857 و1924 وتميز انتاجه الادبي بطابع خاص وفريد لانه عمل سنوات من عمره في سلك البحرية التجارية مما اتاح له التجوال في اعالي البحار وخاصة في رحلات السفن التي كانت ترتاد شواطيء القارة الافريقية واصقاع جنوب شرقي آسيا وهكذا استطاع كونراد ان يجمع في ابداعاته الادبية بين تصوير نوازع النفس البشرية ما بين ضعفها وقوتها اذ تتجلى في حياة البحر وسلوك البحارة، وبين تصوير مواقع وأماكن في غابات افريقيا وادغال آسيا.. النبات والبشر والمعالم وعواصف المونسوت الآسيوية واعاصير الكونغو الافريقية ما امد الادب الانجليزي الحديث بروافد جديدة وتربة من المعرفة والمتعة والجمال. ورغم ان كونراد ابدع روايات عديدة في هذا الباب من اهمها «لورد جيم» و«نوسترومو» الا ان «قلب الظلام» تتميز بأنها عن الكونغو التي زارها المؤلف وتركت في حياتها وفكره أثرا في غاية العمق لدرجة ان صرح كونراد قائلا: «قبل ان ارى الكونغو كنت مجرد.. حيوان!». اصل الحكاية اصل الحكاية قارب يرسو الى شاطيء التيمز في لندن.. فوق متنه جماعة من البحارة القدامى يتبادلون اطرافا من احاديث.. من بينهم الراوي الذي لا نعرف اسمه وهو يبدأ في سرد القصة ثم يسلم قياد السرد الى الراوي الرئيسي تشارلي مارلو الذي يحوي وجدانه تفاصيل مثيرة عن رحلات قادته الى ان يكتشف القارة اللغز التي تحمل اسم.. افريقيا على متن باخرة فرنسية. ابحر مارلو الى سواحل غرب افريقيا مستخدما لدرجة احدى الشركات البلجيكية.. راعه ان يلقى عددا من المواطنين الافارقة الذين يرسفون في اغلال اصطنعها الاوروبيون في حين كان بعضهم ملقى تحت الاشجار فريسة المرض والجوع وعلى شفا الاحتضار. كانت مهمته ان يصحب السيد محاسب الشركة الى الداخل.. الى اعماق الغابة الافريقية، المفعمة بالخطر والمغامرة والاسرار. انقضت 10 أيام كأنها دهر طويل وجاءه المحاسب يحكي عن مدير المشروع واسمه «كيرتز» الذي طبعت شهرته المنطقة بوصفه اقدر من يجمع ثروات العاج الثمين ليبعث بها الى بلجيكا تباع لحساب الشركة وربما لصالح خزائن ليوبولد صاحب الجلالة وصاحب الكونغو البلد والارض والناس. يخص مارلو في ذكرياته «الكونغولية» فيحكي عن رحلة الى دواخل الكونغو بمسافة تبلغ نحو 300 كيلومتر وكلما اوغل في الغابة.. والتقى بمزيد من الناس تزداد شهرة كيرتز من جهة وتشتد مشاعر الغيرة واحيانا الحقد على كرتز هذا من جهة اخرى. على طول الرحلة التي اتخدت مسارها في حياة نهر الكونغو كانت قافلة مارلو تواجه متاعب بل هجمات من سكان الغابات وقيل ان من بينهم قبائل من اكلي لحوم البشر.. ومنهم من هاجم السفينة وقتل رئيس بحارتها ولكن كتبت لصاحبنا مارلو النجاة حين لجأ في اللحظة الاخيرة الى اطلاق صفارة السفينة التجارية فكان ان ارتاع المهاجمون. وبعدها ولوا الادبار. وصل مارلو الى محطة الداخل التابعة للشركة في قلب ظلام الغابة التقى بالمساعد الروسي للسيد كيرتز الذي اصبح بمثابة اسطورة غامضة على ألسنة الناس منهم من يقول ان سكان الغابة هاجموا سفينة مارلو خشية ان تأخذ منهم كيرتز الذي عرفوه وعايشوه سنوات طويلة ومنهم من يقول ان كيرتز هو الذي دبر هذا الهجوم وخطط عمدا لتنفيذه بل ها هو المساعد الروسي يقول ان الاهالي يعاملون كيرتز في اجلال المعبود ويقيمون من اجله شعائر لم يسمع بها من قبل انسان. وحين رفع مارلو نظارته المقربة ـ التلسكوب ليعاين عن بعد معالم البيت الذي يسكنه السيد كيرتز راعه ان يشاهد سور المنزل مطرزا بجماجم البشر!). كما كان كيرتز مريضا وقد حملوه وسط مشاعر الحزن التي عبرت عنها صرخات الاهالي من رجال ونساء. اذن فهذا الرجل الغامض القادم من اوروبا وقد امضى كل هذه السنوات في قلب ظلام الكونغو اصبح جزءا من حياة الغابة رغم ما مارسه لسكانها من انسان وحيوان من استغلال (تجارة العاج) وربما قتل منهم عددا والحق الأذى بآخرين لكنه في نهاية المطاف فهم اهلها بل حاول كما يقول خلفاؤه ان يعلمهم اشياء تنفعهم فكان بينهم وبينه كل هذا الارتباط فضلا عن علاقة كانت تربطه مع خطيبة انتظرته عبر هذه السنوات. نعود مع مارلو على متن سفينة تحمل بدورها كيرتز المريض الى اوروبا.. تدور بينه وبين مارلو حوارات يقول بل يدعى فيها انه بعث رسائل الى الدوائر الاوروبية يحثها فيها على تنوير سكان افريقيا الاصليين ولكنه يعترف بأنه ذيل رسائله بالعبارة الشهيرة (في أدبيات الاستعمار) التي تقول: ينبغي استئصال شافة جميع المتوحشين» يموت كيرتز ورغم انه كان رجلا فظيعا الا ان مارلو يحترم فيه ان كان لديه رؤية محددة وهدف واضح مرسوم.. وهو ما يدفع مارلو الى ان يزور خطيبته التي لم تكن لتعرف عن الجانب الظلامي الشرير من المرحوم «كريتز» ورغم ان مارلو قال لنا في مستهل الرواية انه يبغض الكذب الا انه يكذب على الخطيبة حين يقول: «كان اسمك هو اخر ما تفوه به المرحوم» اما الحقيقة فتشهد بأن اخر كلمات كيرتز وهو يجود بآخر انفاسه كان يردد فيها عبارة يا للرعب باللفظاعة! وحين ينهي مارلو قصته فوق مياه النهر في لندن يلاحظ الرواي المجهول ان النهر قد خيم عليه جو من الحزن وان السماء أظلمت وبدت الدنيا وكأنها دخلت شيئا فشيئا في قلب الظلام. الافكار.. الرموز.. الدلالات .. اهم المحاور التي ادار عليها جوزيف كونراد روايته يتمثل في العزلة والانفراد.. مارلو الراوي معزول يروي الحكاية بوصفها كائنا وحيدا كان يبحث عن حقيقة ما يجري في مستعمرة استغلها الاوروبيون وكيرتز تاجر العاج كان وحيدا وسط غابة في بلد افريقي لم تربطه به جذور ولا صلات. .. هناك ايضا جانب الظلام الذي يقف عنده كونراد طويلا يستوي في ذلك ظلام الطبيعة في غابات الكونغو او ظلام النفس البشرية في شخصية كيرتز، ومن عجب ان مارلو يعجب بهذه الشخصية تحت شعار غريب لعله مستقى من ابجديات البحر وحياة البحارة والشعار يقول: ان تكون شريرا خيرا من ان تكون تافها.. خيرا من ان تكون لا شيء. الرمز يمكن ان يكون كيرتز هو الرمز لقارة اوروبا بأسرها لنزعتها الاستعمارية التي جاءت بها من شواطئها لكي تحتل افريقيا وتستغلها وربما تكون مشاعر اوروبا مثل كيرتز مزيجا من رغبة التمدين وتحقيق الذات وايضا شهرة التسلط وجشع الاستغلال. .. ثم ان الرواية وثيقة كان لها قيمتها وقت نشرها في الهجوم على الاستعمار البلجيكي للكونغو لقد عمد جوزيف كونراد الى اطلاع قارئيه على بشاعة ما شاهده مارلو يطل الرواية (او فلنقل ما شاهده المؤلف نفسه خلال حياة البحر والمغامرة التي عاشها على تعاسة سكان الكونغو ـ رعايا جلالة الملك ليوبولد وهم يعانون المرض والاسترقاق والاستغلال ونهب الموارد وتدني احوال المعيشة.. فضلا عما صورته الرواية، كما ذكر نقاد عديدون ـ من العدوان المبيت الذي ادى الى تدمير الثقافات الوطنية والاعراف العريقة لشعوب الكونغو وللبيئة الطبيعية والثنائية التي كانت تعيش في ظلها. يتردد في اعمال كونراد افكار موضوعية او نغمة ذات وتيرة متكررة موتيف كما نسميه وهي فكرة الظلام.. الغموض والاسرار ومعها فكرة الرحالة ثم العودة وبينهما فكرة البحث والكشف وارتياد المجهول وهو يؤدي هذه الموتيفات في لغة سوداوية ثقيلة الوطأة.. بطبيعة الايقاع تكاد تنطلق من احساس بحلم القدر المحتوم.. لغة النثر في رواية «قلب الظلام» سميكة بقدر سماكة العشب في غابات الكونغو واحيانا يلاحظ الناقد ان اللغة تبدو كأنما مترجمة عن لغة اخرى لا لمجرد ان المؤلف يكتب انجليزية بالتبني ولكن لان عباراته واوصافه تتسم بغرابة فريدة لدرجة تستعصي على الفهم التلقائي وتقتضي لفهمها والتمتع بها مزيدا من جهد الكشف والاستيعاب. في ذاكرة الانسانية الرواية تردد لحنا او ايقاعا خاصا يتلخص في عبارة «كنت هناك» والراوي الاول مجهول اما الثاني ـ بطل الاحداث مارلو ـ فهو يخوض مع سامعيه رحلة وجدانية مع الذكريات تجسدها بين جوانحه رحلة حقيقية قوامها البحث عن جوهر الاشياء.. عن قلب الظلام وربما عن معنى الحياة والظلام في قلب الغابة ويكتشف الجانب الحالك الكئيب في شخصية تاجر العاج.. الا انه يكاد يغفر له وقد اشاد به امام خطيبته رفقا بالمرأة التي لم يشأ ان يصدم مشاعرها ثم ها هو يسرد ذكرياته مع التاجر ويشيد بمكانته عن الافارقة وتكاد بين هذا وذاك تظل الرواية وثيقة ادانة للاستعمار البلجيكي الشائن للكونغو ولكل استغلال استعماري عبر الزمان والمكان. ..وغداً نواصل

Email