الجواهر وصفاتها

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعتبر كتاب ابن ماسويه في «الجواهر وصفاتها» من اوائل ماكتبه العرب في علم الحجارة النفيسة، وان سبق تأليفه على اول كتاب عربي مطبوع في هذا الفن، وهو «الجماهير في معرفة الجواهر» للبيروني، بنحو قرنين من الزمان، فهو على هذا يعد وثيقة في غاية الاهمية تكشف لنا بداية اشتغال العرب في العلم المذكور وتصنيفهم، فيه اضافة الى ما ينفرد به من معلومات حضارية قيمة تتصل بتجارة الجواهر، من لآليء واحجار، وخاصة اللؤلؤ وطرائقهم في استجلابه، ومواطن استخراج الحجارة في المشرق القديم، واثمانها واوزانها المختلفة، واوصاف كل نوع منها، ومزاياه، وخصائصه التي يختص بها عن غيره، وما يذكره من اسماء جغرافية كالبحار والجبال والمدن والجزر، ومصطلحات فنية تتعلق بعلم الجواهر الكريمة في ذلك العصر. واسلوب ابن ماسويه في كتابه هذا، كأسلوبه في كتبه الاخرى المعروفة، يعتمد على الايجاز الشديد، وتركيز المعاني، بأقل الالفاظ، وقد يصل به هذا الاسلوب الى حد القصور في التعبير احيانا . كما يلاحظ ان ابن ماسويه لا يولي النصوص الادبية المتصلة بمجال بحثه اهتماما على خلاف البيروني، فلا يلجأ الى الاستشهاد بشيء من الشعر او ينقل كلام الادباء عند حديثه على نوع من الجواهر، ومادته علمية محضة لا اثر لروح العصر الادبية عليها البتة. ومن آثار هذه النزعة العلمية المجردة التي غلبت على سائر الكتاب انه جاد خلوا من ظاهرة عامة طالما اهتم بها علماء ذلك العصر واطباؤه، وهي ما كان ينسب الى الاحجار الكريمة من تأثيرات طبية ومنافع صحية، من مثل ما نجده في كتب الرازي والبيروني الطبية، ويمكن ارجاع هذه الظاهرة الى موقف ابن ماسويه من الكتب الطبية الاغريقية التي بدأ العرب بمعرفتها آنذاك، فمن الملاحظ انه ليس لهذه الكتب اي تأثير في كتابه المذكور، فاذا ما كانت كتابات بلبيني الروماني حافلة بالنظريات على منشأ كل حجر، وتركيب معادنه المتكون منها، وهو ما نقله عنه فيما بعد التيفاشي وغيره، فان كتاب ابن ماسويه جاء خلوا من اي اثر لهذا المنهج، ومن ناحية اخرى فان آراء ديسفوريدس وجالينوس وغيرهما من اطباء الاغريق الذين اسهبوا في نسبة المنافع الصحية المختلفة للاحجار الكريمة، لم تجد لها طريقا الى منهج ابن ماسويه العلمي، فكتابه خال من كل هذه الآراء ايضا. ولعلنا لا نرى وجها لافتراض ان ابن ماسويه لم يشهد عهد نقل هذه الكتب الى العربية ليستفيد منها، ذلك لانه كان نفسه رئيسا لهيئة المترجمين الرسمية التي شكلتها الدولة لتعريب كتب الاغريق المستولى عليها من المدن الرومانية، وان كثيرا من تلك الكتب قد ترجم في حياته، بل وعلى يد تلاميذ امثال حنين بن اسحاق العبادي وغيره، فضلا عن ان ما نسبُ الى الاحجار من منافع ومضار كان شائعاً في عهده الى حد ان ملأ عطارد الحاسب، المعاصر له كتابه «منافع الاحجار» بمثل تلك المرويات، فلم تكن هذه الآراء بعيدة عن متناول ابن ماسويه بأية حال. ويقول الدكتور عماد عبدالسلام رؤوف محقق كتاب ابن ماسويه: اغلب الظن ان هذا الطبيب العالمي لم يكن مؤمنا بتلك المزاعم، فأضرب عن الاشارة اليها عامداً، واقتصرا في منهجه على معلوماته الشخصية، وتجاربه العلمية، وملاحظاته المباشرة، وهو ما يدل بلا شك على ثقته الشديدة بنفسه وعلمه، تلك الثقة التي لم تتوفر للكتاب المتأخرين امثال التيفاشي، وابن الاكفاني، الذين دأبوا على نقل ما وجدوه في كتب الاقدمين في اغلب الاحيان. ومما يدل على اهمية كتاب «الجواهر وصفاتها» لابن ماسويه وجدة معلوماته، ان الكندي الذي كتب كتابه «الجواهر والاشباه» بعده ببضع سنين اعتمد عليه اعتماداً كلياً، حتى كاد ان ينقل بعض فقراته نقلاً حرفياً وعلى الرغم من ان كتاب الكندي هذا مما لم يصل الينا من مؤلفاته، فإن ما نقله عنه البيروني في جماهره من نصوص مطولة يكشف بجلاء عن حقيقة استقاء الكندي لمعظم معلوماته من كتاب ابن ماسويه اما بحرفها، او بمعانيها دون ان ينسبها الى صاحبها الحقيقي. ابن ماسويه مؤلف هذا الكتاب هو كبير اطباء الخلفاء العباسيين في القرن الثالث الهجري «التاسع الميلادي» واحد اعلام عصره في الطب والتأليف والترجمة، ابو زكريا يحيى «او يوحنا» ابن ماسويه الخوزي، اقام ابوه في بيمارستان جند يسابور في خوزستان، الشهير في الشرق القديم بمستواه العالمي الرفيع واشتغل دقاقا للادوية، وعلى الرغم من اميته فإنه كان خبيراً بمعرفة الامراض وعلاجها، وبانتقاء الادوية ومراهمها، حتى اتخذه جبرائيل بن بختيشوع طبيب الخلفاء الشهير عاملا لديه، ثم هاجر الى بغداد للعمل فيها وقد تجاوز من عمره الخمسين وتوصل لان يكون طبيب الرشيد وافراد بيته، وانجب ولديه يحيى «او يوحنا» وميخائيل من جارية صقلية اشتراها له جبرائيل بن بختيشوع من داود بن سرافيون الطبيب، واشرف جبرائيل نفسه على تعليم يحيى وميخائيل وتهذيبهما تهذيباً عاليا، والانفاق عليهما وجلب لهما المدرسين. والظاهر ان اول نبوغ ابن ماسويه كان في عهد المأمون، فلقد اشتهر هذا الخليفة بفتوحه العديدة في بلاد الروم، وبحمله كتب الاغريق القديمة الى بغداد ليتم نقلها الى العربية في دار الحكمة تحت اشراف اشهر علماء عصره، وبتكريمه الفائق للمترجمين والنقلة. خدّم يحيى بن ماسويه بطبه المأمون، ثم الواثق، ثم المتوكل، ورويت عن صلته بأولئك الخلفاء روايات تؤكد عظيم ما ناله لدى كل منهم من مكانة فائقة واحترام كبير. لقد جمع ابن ماسويه في شخصه جوانب عدة مختلفة، ويقول ابن العبري في كتابه «تاريخ مختصر الدول» بصدد ذلك فهو تارة شماس كنيسة، وتارة اخرى نديم الخلفاء والملوك وانيسهم، ومع ذلك، فهو اديب له مجلس ادب وفكر حافل، واستاذ طب ماهر، يدرّس ويجتمع اليه تلاميذ كثيرون، فضلاً عن كونه صاحب تاليف عديدة في مختلف فروع الطب وفنونه، وما كتبه هذا في الجواهر وصفاتها الا انموذج اخر على تعدد اهتماماته العلمية وتنوعها. ولابن ماسويه من التصانيف ما يزيد على اربعين كتاباً، معظمها في الطب، تفصح عناوينها عن اهمية مباحثها وجدتها، مثل «كتاب في الجذام» «لم يسبقه احد الى مثله» وكتاب السموم وعلاجها «وكتاب الصوت والبحة»، وغيرها من الكتب. ويبدو ان حظ ابن ماسويه كان احسن من غيره من المؤلفين المعاصرين، فقد حفظ لنا الزمان نحواً من خمسة وثلاثين كتاباً، توزعت مخطوطاتها في خزائن الكتب في الخافقين وفي اوائل هذا القرن قام الدكتور ماكس مايرهوف بنشر اول كتاب منها، هو «دغل العين»، ثم عني الاب بول سباط بنشر بعض تراث هذا الطبيب الكبير، فنشر كتاب «الازمنة» عام 1933، ثم اردفه بكتاب «النوادر الطبية» عام 1934، ثم نشر كتابه «جواهر الطيب المفرده» سنة 1936 وكتاب «ماء الشعير» سنة 1939. عبدالرزاق المعاني

Email