تاريـخ الهنـد

ت + ت - الحجم الطبيعي

بيان الكتب: جون كاي مؤرخ يعيش في اسكوتلندا، ومختص بتاريخ الهند والامبراطورية البريطانية في شبه القارة الهندية. له عدة مؤلفات شهيرة مثل «الحملة المشرّفة»، الذي يخص بالدراسة فيه «حملة الهند الشرقية» و«الموقع الأخير»، حول انهيار الامبراطورية البريطانية في الهند و«اكتشاف هملايا الغربية» و«القوس الكبير» و«في داخل الهند» واكتشافات استثنائية»... الخ. هذا الكتاب «تاريخ الهند»، وكما يدل عنوانه هو كتاب جامع يتضمن «خلاصة» الدراسات العديدة وسنوات البحث الطويلة التي أمضاها المؤلف حول تاريخ هذه المنطقة من العالم، لكنه بحث في التاريخ ضمن اطار منظور مستقبلي، وذلك على اعتبار ان الهند مرشحة للعب دور مركزي في العالم خلال الألفية الثالثة. إن المؤلف يقدم على مدى الفصول العشرين التي يتألف منها هذا الكتاب تاريخا موجزا للهند منذ الألف الثالث قبل الميلاد وحتى الحقبة الحاضرة ويستعين بالكثير من الخرائط والرسوم والصور التوضيحية الأثرية ذات الدلالات الحضارية. وتعود الأصول الحضارية الهندية الأولى إلى ما يسميه المؤلف في أول فصول الكتاب بـ«العالم الهاراباتي»، وذلك نسبة إلى حضارة «اندوسية» هندية ـ أوروبية تسمى بـ«الهارابا». والتي يختلف المؤرخون حول تاريخ بداياتها حيث يعيدها البعض، مثل مؤلف هذا الكتاب إلى عام 3000 قبل الميلاد، بينما يعتبر مؤرخون آخرون بأنها بدأت بالأحرى في نحو عام 2500 قبل الميلاد. وبكل الحالات يتم الحديث عنها مثلما هو الحال بالنسبة للحضارات القديمة، وكأنها ذات علاقة وطيدة ببدايات الحضارات التي أعقبت «الطوفان» أو حيث ان الهند قد عرفت «طوفانا كبيرا يقارنه المؤلف بذلك الذي عرفه سيدنا «نوح». لقد انتهت تلك الحضارة الأولى على يد غزاة هنديين ـ أوروبيين أدخلوا معهم لغة جديدة هي اللغة «الفيدية» ويعود لهؤلاء الغزاة تدوين كتب الحكمة الهندية الأربعة الأولى التي كانت تحظى بدرجة كبيرة من القدسية لدى الهنود في تلك الحقبة من الزمن. إن هذه الكتب الأربعة تشكل مع بقية النصوص الملحقة بها صلب «الأدب الفيدي» الأكثر قدما في التاريخ الأدبي و«الفكري» الهندي. ويكرس مؤلف هذا الكتاب ضمن هذا الاطار، فصلا من فصول الكتاب لما أسماه بـ«القيم الفيدية» ذات الأصل الآري. وحيث كانت هذه الصفة ذات مرجعية «اثنية» بالدرجة الأولى وحيث بدأ كما يشير المؤلف البحث عن نوع من الهوية للشعوب الهندية واللغة «الفيدية» تبدو بمثابة احدى الاشتقاقات المباشرة المنحدرة من اللغة السنسكريتية القديمة، ولا يستبعد المؤلف بأن تكون اللغات «السلتية» و«الجرمانية» منحدرة هي الأخرى من الأصل اللغوي نفسه، مثلها في ذلك مثل اللغة الفارسية القديمة. ويرى المؤلف بأن الآريين الهنود هم من المهاجرين الذين قدموا إلى الهند من مناطق مختلفة، يختلف المؤرخون أيضا في تحديدها، وحيث يعتبر بعضهم بأن سوريا وإيران والأناضول واليونان وشرق أوروبا كانت بمثابة محطات انطلاق، أو على الأقل «نقاط عبور» أساسية ومصادر لغوية وثقافية لتتجمع كلها في المناطق المحيطة بنهر «الغانج» العظيم. إن المؤلف يناقش ضمن هذا السياق العديد من الآراء الصادرة عن مؤرخين أمريكيين وأوروبيين. ويعتبر المؤلف الأدب الفيدي «بمثابة أحد المصادر التاريخية الأساسية للتعرف على الجذور البعيدة للحضارة الهندية، تماما مثلما يعتبر العديد من المؤرخين بأن «الالياذة» و«الأوديسة» لهوميروس بمثابة أحد المصادر الأساسية للتاريخ الأوروبي، بل والمتوسطي، عبر القرون. لكن الحضارة «الفيدية» كانت في أساسها حضارة «رعوية» لأن الشعوب التي شكلتها كانت من الرحّل الذين كانوا يعيشون في مجتمعات ذات طابع قبلي وتسود فيها منظومة «تراتبية»، لكنها عرفت في مراحلها الأخيرة بدايات تشكل النمط الاجتماعي الذي يصفه المؤلف بـ«ما قبل الحديث». في القرن السادس قبل الميلاد خضعت الهند للهيمنة الفارسية بقيادة ملك الفرس آنذاك «ذريوس الأول» ثم وصل إليها بعد ذلك الاسكندر الأكبر عام 326 قبل الميلاد، لكنه لم يتابع تقدمه في البلاد واكتفى بتنظيم بعض «أشكال الحكم» التي يقوم على رأسها بعض الموالين له. وإذا كانت هذه الفترة من تطور الهند قد شهدت تبدلات ثقافية وفكرية عميقة عبر التواصل بين الشعوب، فإنها احتفظت دائما بالارث العريق للانتاج الثقافي والفكري لما أسماه المؤلف بـ« العصر الملحمي» الذي شهد الملحمة الهندية العظيمة المعروفة باسم «ماها بهاراتا»، والتي تتألف من نحو مئة وعشرين ألف نص موزّعة بين 19 مجلدا. وهو مؤلف جماعي يعود إلى المرحلة «الفيدية»، وفي تقدير أغلبية المؤرخين إلى نحو العام 1000 قبل الميلاد. وتروي ملحمة «الماها بهاراتا» قصة خمسة أخوة لعبوا دورا في الحرب التي دارت بين مختلف المجموعات الهندية، الأوروبية المتنازعة على السلطة. ويرى المؤلف في هذا العمل الشعري الملحمي الكبير جزءا من تاريخية غزوات القبائل الهندية ـ الأوروبية إلى شبه القارة ثم اقامتها فيها على حساب الآخرين. وأيضا من تاريخية النزاعات الداخلية بين هذه القبائل نفسها وبينها مجتمعة وبين أولئك الذين كانوا يقيمون في البلاد. وتشكل هذه الملحمة في الوقت نفسه نوعا من الموسوعة التي تدل على المعارف «الهندية» لتلك الحقبة من الزمن على صعيد المعتقدات القديمة كما على صعيد المعارف «الدنيوية»، تجدر الاشارة إلى أن هناك الكثير من الشكوك حول اضافة بعض الأجزاء الخاصة بالفلسفة أو بالمعتقدات الهندية القديمة نفسها. لكنها وبكل الحالات كانت مصدرا أساسيا للتعرف على التاريخ الهندي القديم. ان هذا الكتاب يروي في عدد من فصوله تاريخ النزاعات الداخلية التي شهدتها الهند في ظل العديد من السلالات التي سادت لفترة من الزمن والتي كان في مقدمتها سلالتي الـ«سونجا» والـ«كانفا» وحيث ان هذه السلالة الأخيرة قد انتهت في القرن الأول الميلادي، لكن النزاعات استمرت إلى أن سادت سلالة الـ«غوبتا» في عموم مناطق شمال الهند واستطاعت أن تحتفظ بالسلطة حتى القرن السادس الميلادي، حيث عرفت الهزيمة في مواجهة الغزاة من «الهونس». وفي الحقبة نفسها من الزمن كانت هناك ممالك تبنى في جنوب شبه القارة الهندية، حيث كانت تسود سلالة الـ«بالافا». كان الصراع هو السمة السائدة في العلاقات بين السلالات السائدة في شمال الهند وجنوبها من أجل «الهيمنة». لكن هذا لم يمنع المؤلف من القول بوجود «فترة ذهبية» سادت في الهند ما بين القرن الثالث والقرن الخامس الميلاديين، خاصة في ظل سلالة الـ «غوبتا» التي شهدت فترة حكمها بعض الانفتاح على العالم الخارجي عبر التزوّد بعدد من المرافيء التي دخلت في «شبكة التجارة الدولية» آنذاك. أما على صعيد العلاقات الاجتماعية فقد سادت منظومة قائمة على التراتبية الحازمة والتأكيد الكامل على ضرورة مطابقة أشكال السلوك الفردي مع المباديء العقائدية السائدة، ويكرس المؤلف ضمن السياق نفسه اهتمامه لدراسة المسار التطوري الذي شهدته بعض الفروع العلمية ويؤكد بأن «جهودا مهمة في ميدان علم التنجيم والطب والعلوم دلّت على المكانة الكبيرة التي أولتها سلالة ـ غوبتا ـ لهذه المعارف». وكان قد تم تبني حساب الدورة السنوية على أساس النظام «الشمسي» وبدقة متناهية يمكن القول بأن اليونانيين القدماء لم يستطيعوا التوصل إلى مثلها. أضف إلى هذا واقع أن علماء الرياضيات الهنود ربما كانوا الأكثر تقدما في العالم آنذاك. وحيث انهم برعوا في استخدام النظام العشري وحلّوا العديد من المعادلات الرياضية التي كانت مجهولة قبلهم. كذلك يؤكد المؤلف ضمن هذا الاطار بأنهم قد أدركوا «مفهوم الصفر». هذا في الوقت الذي يعتبر أغلبية مؤرخي العلوم بأن العرب هم الذين كانوا في أصل هذا المفهوم. وفي المحصلة العامة حول تلك الفترة يركز المؤلف على القول بأن الهند قد عرفت آنذاك «كيانا دينيا وثقافيا» متمايزا عن ما عداه في أوروبا وآسيا، كما ان الارث الذي خلفته تلك الفترة لايزال موجودا وظاهرا حتى الآن في الكثير من مرافق الهند وثقافاتها. إن المؤلف يكرس أحد فصول هذا الكتاب لدراسة الوجود الاسلامي في الهند والذي بدأ منذ النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، حيث «وصل الفاتحون العرب إلى بلاد السند ثم إلى راجستان وغيرها». ويؤكد المؤلف أيضا بأنه لم تتم مواجهات كبرى إلا في نهايات القرن العاشر حيث ان العلاقات بين الهندوسيين والمسلمين كانت ودية في أغلب الأحيان قبل ذلك وان التجار العرب وجدوا الحماية والتشجيع من قبل بعض ملوك الهند. ولكن اعتبارا من العام 1000 تقريبا سيطر المسلمون على منطقة البنجاب وأصبحوا السادة في شمال شرق البلاد. لكن اعتبارا من نهايات القرن الثاني عشر وحتى بدايات القرن الرابع عشر انتصرت السلطنات وخاصة سلطنة دلهي، التي انتهت على يد تيمورلنك في نهايات القرن الرابع عشر بعد اجتياحه البنجاب ثم تدميره لسلطنة «دلهي» وكان في مقدمة النتائج المباشرة لمثل هذا الاجتياح هو اعلان العديد من الدول التي كان يسيطر فيها المسلمون لاستقلالها عن سلطنة دلهي والتي وقعت فيما بعد تحت سيطرة «المنغوليين» بعد احتلالهم في بدايات القرن السادس عشر ومد سلطتهم على العديد من المناطق الهندية الأخرى حتى القرن الثامن عشر، وهذا ما يشرحه المؤلف باسهاب في فصل كامل من الكتاب. الفصول الثلاثة الأخيرة من هذا الكتاب تخص «الفتح» البريطاني للهند منذ أواسط القرن الثامن عشر وحتى بدايات الخامس عشر واقامة «الامبراطورية البريطانية في الهند» وسيادة ما أسماه المؤلف بـ«السلام البريطاني خلال سنوات 1820 ـ 1880 لتشهد الفترة اللاحقة بدايات تشكل الأمة الهندية من جديد «استيقاظ الأمة»، كما يقول خلال فترة نصف قرن 1880 ـ1930 لتبدأ حركة المقاومة وصولا إلى الاستقلال عام 1948 تحت قيادة الزعيم المهاتما «غاندي». الفصل الأخير «العشرون» يحتوي على تحليل بعض الملامح السريعة لسنوات حكم «نهرو» وللنزاع الدائر حول كشمير بين الهند والباكستان، والذي قد يبقى لفترة طويلة بؤرة توتر لا تخمد لأن الأمر يتعلق بوحدة التراب الوطني» كما يراها الطرفان المتنازعان.

Email