بيان الكتب ـ طه حسين وكتابه الذي هز مصر.. بعد 75 عاماً لاتزال معركة (الشعر الجاهلي) محتدمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

فى 30 مايو سنة 1926 تقدم الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالى بالازهر ببلاغ الى النائب العام ضد الدكتور طه حسين الاستاذ بالجامعة المصرية، يتهمه فيه بأنه ألف كتابا اسماه (فى الشعر الجاهلي)، ونشره على الجمهور وفى هذا الكتاب طعن صريح فى القرآن العظيم، حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي.. وفى 5 يونيو عام 1926 تقدم شيخ الجامع الازهر للنائب العام ببلاغ ضد طه حسين يتهمه بتأليف كتاب كذب فيه القرآن صراحة، وطعن فيه على النبى، وطالب شيخ الازهر فى بلاغه باتخاذ الوسائل القانونية الفعالة ضد هذا الطعن فى دين الدولة الرسمى وتقديم المؤلف للمحاكمة، وفى 14 سبتمبر 1926 تقدم عبدالحميد البنان أفندى عضو مجلس النواب ببلاغ مماثل للنائب العام ضد طه حسين مؤكدا ان كتابه (فى الشعر الجاهلي) تضمن طعنا وتعديا على الدين الاسلامى، وهو دين الدولة الرسمى. ووفقا لكتاب (محاكمة طه حسين) لخيرى شلبى الذى نشر فيه لأول مرة نص التحقيق مع طه حسين نص قرار النيابة فقد بدأ محمد نور رئيس نيابة مصر التحقيق مع طه حسين بتاريخ 19 أكتوبر سنة 1926 واستمرت التحقيقات حتى 30 مارس 1927م وانتهت بقرار النيابة الذى يحفظ الأوراق اداريا وينهى الموضوع بتبرئة المؤلف من الوجهة القانونية. وقد جرى التحقيق مع طه حسين بعد تكييف التهمة التى جاءت فى أقوال المبلغين (من حيث اتضح انهم ينسبون له انه طعن على الدين الاسلامى فى مواضع أربعة من كتابه هى: أولا انه أهان الدين الاسلامى بتكذيب القرآن فى اخباره عن ابراهيم واسماعيل حيث ذكر فى ص 26 من كتابه قوله (للتوارة ان تحدثنا عن ابراهيم واسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الأسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لاثبات وجودهما التاريخى فضلا عن اثبات هذه القصة التى تحدثنا بهجرة اسماعيل بن ابراهيم الى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها). ثانيا: ماتعرض له المؤلف فى شأن القراءات السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جمعيا وانه فى كلامه عنها يزعم عدم انزالها من عند الله. ثالثا: ينسب المبلغون للمؤلف انه طعن فى كتابه على النبى صلى الله عليه وسلم من حيث نسبه، رابعا: انه أنكر أن للاسلام أولية فى بلاد العرب. قرار النيابة ووفقا لهذه الاتهامات بدأ محمد نور التحقيق مع طه حسن غير أنه اثبت فى قرار النيابة المنهج الذى سار عليه فى التحقيق حتى يكون الحكم عنوان الحقيقة وليس مطية للاهواء. قال محمد نور (ومن حيث ان العبارات التى يقول المبلغون أن فيها طعنا على الدين الاسلامى، انما جاءت فى كتاب، فى سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذى ألف من أجله، فلأجل الفصل فى هذه الشكوى، لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر اليها منفصلة، وانما الواجب توصلا الى تقديرها تقديرا صحيحا، بحثها حيث هى فى موضعها من الكتاب، ومناقشتها فى السياق الذى وردت فيه. وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها، وتقدير مسئوليته تقديرا صحيحا). وجرت التحقيقات التى نتأملها الآن بعد 75 عاما من الواقعة ونتأمل معها ثقافة المحقق التى لا تقل عن ثقافة طه حسين، فقد أطلع محمد نور بعمق على كل المراجع التى استند اليها طه حسين، وفند الأدلة التى بنى عليها نتائجه، واختلف معه اختلافا بينا فى معظم ماذهب اليه، لكنه وجد أن الشرط الاساسى لادانته غير متوفر، وهو القصد الجنائى، فانهى تقريره بهذه الفقرة التى تلقى الضوء على القضية كلها قائلا وحيث انه مع ملاحظة أن اغلب ماكتبه المؤلف مما يمس موضوع الشكوى وهو ماقصرنا بحثنا عليه، وانما هو تخيلات وافتراضات واستنتاجات لا تستند الى دليل علمى صحيح فانه كان يجب عليه أن يكون حريصا فى جرأته على ما أقدم عليه مما يمس الدين الاسلامى، الذى هو دينه ودين الدولة. صحيح انه كتب ماكتب عن اعتقاد بأن بحثه العلمى يقتضيه، ولكنه مع هذا كان مقدرا لمركزه تماما، وهذا الشعور ظاهر من عبارات كثيرة فى كتابه منها قوله: وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقا آخر سيزورون عنه أزورارا، ولكنى على سخط أولائك وازورار هؤلاء أريد أن اذيع هذا البحث: ويستمر محمد نور قائلا (إن للمؤلف فضلا لا ينكر فى سلوكه طريقا جديدا للبحث حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكنه لشدة تأثره مما أخذ عنهم، قد تورط فى بحثه حتى تخيل حقا ماليس بحق، أو مالا يزال فى حاجة الى اثبات انه حق، انه قد سلك طريقا مظلما، فكان يجب عليه ان يسير على مهل، وان يحتاط فى سيره حتى لا يضل، ولكنه اقدم بغير احتياط فكانت النتيجة غير محمودة. وحيث انه مما تقدم يتضح ان غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل ان العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه انما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده ان بحثه يقتضيها. وحيث انه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر، فلذلك تحفظ الأوراق اداريا). معركة البرلمان لم تندلع معركة كتاب (فى الشعر الجاهلي) على جبهة القضاء فقط، ولكنها اندلعت على كل الجبهات تقريبا، كانت مصر عندما أصدر طه حسين كتابه فى 18 مارس 1926 تقع فى قبضة استعمار انجليزى بغيض، وكانت الحركة الوطنية قد بلغت ذروتها فى ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول رافعة شعار (الاستقلال التام أو الموت الزؤام) لكن نتائج الثورة تم الالتفاف عليها بحبال المفاوضات المتعثرة وافضت الى نوع من الاستقلال الشكلى الذى يحوى فى باطنه الحماية فى ظل مباركة الملك فؤاد، وكان حزب الثورة (الوفد) قد شهد عدة انقسامات وخرج عليه حزب (الاحرار الدستوريين) الأقرب الى ملاطفة المستعمر وملاينته، وكان طه حسين قد اختار أن يقف فى جبهة (الاحرار الدستوريين) ويكتب فى جريدتهم (السياسة) مهاجما الوفد وزعيمه سعد زغلول ومشككا فى زعامته منذ عام 1922 حتى 1926، وقبل صدور (فى الشعر الجاهلي) كان طه حسين قد أصدر كتابه (ذكرى أبى العلاء) وهو الرسالة التى حصل بها على الدكتوراه من الجامعة المصرية عام 1914، وقد رأى بعض اعضاء الجمعية التشريعية (البرلمان) التى كان يرأسها سعد أن كتاب طه حسين يتضمن مايسيئ للاسلام لهذا طالبوا بوقف دعم الحكومة للجامعة التى وافقت على هذه الرسالة. لكن سعد وقف بحنكته الى صف طه حسين، وقال: لو منعنا الدعم عن الجامعة فيجب ان نمنعه عن الازهر أيضا، لأن المؤلف تعلم فيه قبل أن يتعلم فى الجامعة، وهكذا تم سحب الطلب وانتهى الموضوع. ولكن فى سنة 1926 بعد صدور (فى الشعر الجاهلي) كانت الامور قد تغيرت، فقد اختار طه حسين جبهة (الاحرار الدستوريين) المناوئة للوفد فى الوقت ذاته كان الملك فؤاد قد شكل الحكومة من ائتلاف الاثنين معا (الوفد والاحرار الدستوريين). وكان عدلي يكن من الاحرار رئيسا للحكومة، وسعد زغلول رئيسا للبرلمان الذى انفجرت فيه معركة (الشعر الجاهلي) واحتج النواب وثاروا وطالبوا الحكومة باتخاذ موقف، لكن عدلي يكن وبقوة هدد بالاستقالة اذا مس المؤلف اى مكروه، أما سعد الذى كان يخشى انفجار الائتلاف الحاكم لم يجد أمامه غير أن يهدئ من روع النواب الثائرين وهو الأمر الذى جعله يقول كلمته الشهيرة: هبوا أن رجلا يهذى فى الطريق فماذا علينا اذا لم تفهم البقر؟ الصحافة تشتعل على جبهة الصحافة كانت المعركة أكثرا اشتعالا ووقفت جريدة (السياسة) الى جوار طه حسين وساند حقه فى التعبير محمد حسين هيكل والعقاد وأحمد لطفى السيد ومنصور فهمى وغيرهم، وفى المواجهة تبنت جريدة (كوكب الشرق) حملة ضارية ضد المؤلف وكتابه، وفى مواجهة (فى الشعر الجاهلي) صدرت كتب عديدة منها: (نقد كتاب فى الشعر الجاهلي) لمحمد فريد وجدى، و(الشهاب الراصد) لمحمد لطفى جمعة، و(نقض كتاب فى الشعر الجاهلي) للشيخ محمد الخضر حسين، و(محاضرات فى بيان الاخطاء العلمية والتاريخية التى اشتمل عليها كتاب فى الشعر الجاهلي) للشيخ محمد الخضرى، و(تحت راية القرآن) لمصطفى صادق الرافعى و(النقد التحليلى لكتاب فى الشعر الجاهلي) للدكتور محمد أحمد الغمراوى، وعشرات بل مئات غيرها من الكتب والمقالات والأبحاث. وفى غمار هذه المعركة الضارية يمكن أن نلاحظ أن نقاد طه حسين انقسموا الى فريقين، فريق موضوعى يقارع الحجة بالحجة ويفند موضوع الكتاب وفروضه ومنهجه ونتائجه ويخلص الى أن ماذهب اليه طه حسين يفتقر الى الادلة العلمية والحجج المنطقية، وينتهى الى فساد النتائج التى توصل اليها الكتاب دون أن يوجه اتهامات شخصية للمؤلف. أما الفريق الثانى فقد ركز هجومه على الاتهامات الشخصية التى تتهم المؤلف بالكفر والالحاد والزندقة والعمالة للغرب دون أن تواجه منطقة بمنطق مخالف وحججه بحجة مناقضة. واذا كانت قضية كتاب (فى الشعر الجاهلي) قد حسمت على جبهة القضاء فانها لم تحسم حتى الآن على جبهة الثقافة والفكر، وبالرغم من تراجع طه حسين بعد ذلك عن النقاط التى اثارت الحرائق واصداره لكتابه فى طبعة أخرى تحت عنوان (فى الادب الجاهلي) الا أن المعركة لاتزال محتدمة فما هي القصة؟ أصدق مرآة الفكرة الأساسية التى بنى عليها طه حسين كتابه (فى الشعر الجاهلي) هى أن الغالبية العظمى من قصائد الشعر الجاهلي ومعلقاته ليست سوى قصائد منتحلة ولا تمثل الحياة العقلية والاجتماعية للعرب قبل الاسلام فى شئ، ومن يريد أن يلتمس الحياة العربية قبل الاسلام عليه أن يلتمسها فى القرآن وليس فى هذا الشعر الذى يقال انه جاهلي، فالقرآن قد عبر عن هذه الحياة فى جوانبها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية أصدق تعبير، وعلى هذا الأساس فان الشعر الذى يقال انه جاهلي قد تم انتحاله بعد الاسلام لتثبيت أمور دينية وسياسية اعتقد المسلمون انه لن يستقر الاسلام الا بعد تثبيتها. وفى سبيل اثبات هذه الفكرة استخدم طه حسين منهج الشك عند ديكارت وتقوم القاعدة الاساسية لهذا المنهج ـ كما يقول على أن (يتجرد الباحث من كل شئ كان يعلمه من قبل وأن يستقبل موضوع بحثه خالى الذهن مماقيل فيه خلوا تاما) و(يجب حين نستقبل البحث عن الادب العربى وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها وأن ننسى ديننا وكل مايتصل به وان ننسى كل مايضاد هذه القومية ومايضاد هذا الدين، يجب الا نتقيد بشئ ولا نذعن لشيء الا منهاج البحث العلمى الصحيح). ومن خلال هذا المنهج درس طه حسين الشعر الجاهلي مؤكدا انه لا ينكر الحياة الجاهلية وانما ينكر (أن يمثلها هذا الشعر الذى يسمونه الشعر الجاهلي، فاذا أردت أن ادرس الحياة الجاهلية فلست أسلك اليها طريق أمرئ القيس والنابغة والاعشى وزهير لأنى لا أثق بما ينسب اليهم. وانما اسلك اليها طريقا آخر وادرسها فى نص لا سبيل الى الشك فى صحته، أدرسها فى القرآن، فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي).. والمعنى الذى يقصده طه حسين هو أن العرب فى العصر الجاهلي كانت لهم حياة عقلية وعقائد دينية، فكانت الوثنية فى مكة، واليهودية فى المدينة والمسيحية فى الحيرة ونجران. وقد جادلهم القرآن ونازلهم فى مجالات طويلة بينت ماهى عقائدهم وثقافاتهم، فى حين لم يعكس الشعر الجاهلي هذه العقائد ولا تلك الثقافات، حتى الاعراب صورهم القرآن وأوضح انهم أشد كفرا ونفاقا ومن ناحية أخرى فإن تجارة العرب وحياتهم الاقتصادية ورحلة الشتاء والصيف وكذلك علاقتهم الدولية مع الفرس والروم كل ذلك أوضحه القرآن بينما لم يعبر عنه الشعر الجاهلي. منطقة الالغام لكن المشكلة بدأت عندما انتقل البحث خطوة أخرى أراد بها طه حسين أن يثبت أن لغة الشعر الذى يقال انه شعر جاهلي لا ينتسب الى لغة الحياة العربية قبل الاسلام بقدر ماتنتسب الى لغتها بعد الاسلام. وفى سبيل ذلك هدم طه حسين المقولة التى اتفق عليها الرواة عبر اجيال طويلة، وهى أن العرب ينقسمون الى قسمين: قحطانية منازلهم الأولى فى اليمن. وعدنانية منازلهم الأولى فى الحجاز. أما القحطانية فهم عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية، فهم العاربة. وأما العدنانية فقد اكتسبوا العربية اكتسابا وكانوا يتكلمون لغة أخرى هى العبرانية أو الكلدانية ثم تعلموا العربية فمحت لغتهم الأولى من صدورهم واصبحوا العرب (المستعربة). ووفقا لهذه المقولة فان الرواة متفقون على أن العدنانية المستعربة انما يتصل نسبها باسماعيل بن ابراهيم وانه أول من تكلم العربية ونسى لغة أبيه. ويرى طه حسين ان هذا (حديث اساطير لا خطر فيه ولا غناء منه) و(ان هذه النظرية متكلفة مصطنعة فى عصور متأخرة دعت اليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية) ويستند طه حسين فى هذا الرأى الى حجتين: الاولى تراثية: حيث روي عن أبى عمر ابن العلاء انه كان يقول ما لسان حمير (العاربة) بلساننا ولا لغتهم بلغتنا. أما الحجة الثانية فهى (أن البحث الحديث قد اثبت خلافا جوهريا بين اللغة التى كان يصطنعها الناس فى جنوب البلاد العربية واللغة التى كانوا يصطنعونها فى شمال هذه البلاد. ولدينا نقوش ونصوص تمكننا من اثبات هذا الخلاف فى اللفظ وفى قواعد النحو والتصرف). فإذا كان كثير من الشعراء الجاهليين ينتسبون الى العرب تتطابق لغتهم مع الشعراء الجاهليين العدنانيين اذن لابد من حل للمشكلة. والحل ان هذا الشعر مكتوب بعد الاسلام وبلغة واحدة ولو كان مكتوبا قبل الاسلام لظهر فيه الاختلاف بين لغة العرب العاربة ولغة العرب المستعربة. ولكى يثبت طه حسين صحة مقولته انتهى الى أن حديث القرآن والتوراة عن ابراهيم واسماعيل لا يكفى لاثبات وجودهما التاريخى فضلا عن قصة اسماعيل الى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها الى أن يقول (ونحن مضطرون الى ان نرى فى هذه القصة نوعا من الحيلة فى اثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الاسلام واليهودية، والقرآن والتوراة من جهة أخرى). ذلك هو الجزء من الكتاب الذى أشعل الحرائق وسوف نعود اليه بعد تفصيل الاسباب التى دفعت العرب الى انتحال الشعر الجاهلي بعد الاسلام. ويرى طه حسين أن السبب الاول كان سياسيا (وقد أرادت الظروف أن يضيع الشعر الجاهلي لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعد، وانما كانت ترويه حفظا. فلما كان ماكان فى الاسلام من حرب الردة ثم الفتوح ثم الفتن، قتل من الرواة والحفاظ خلق كبير. ثم اطمأنت العرب فى الامصار أيام بني أمية ورجعت شعرها، فإذا أكثره قد ضاع، واذا اقله قد بقي. وهى بعد فى حاجة الى الشعر، تقدمه وقودا لهذه العصبية المضطرمة فاستكثرت من الشعر وقالت منه القصائد الطوال وغير الطوال، ونحلتها شعراءها القدماء). اما الأسباب الدينية للانتحال فيوردها طه حسين كما يلى (فكان هذا الانتحال فى بعض أطواره يقصد به الى اثبات صحة النبوة وصدق النبى، وكان هذا النوع موجها الى عامة الناس، وأنت تستطيع أن تحمل على هذا كل مايروى من هذا الشعر الذى قيل فى الجاهلية ممهدا لبعثة النبى، وكل مايتصل به من هذه الاخبار والأساطير التى تروى لتقنع العامة، بان علماء العرب وكهانهم، وأحبار اليهود ورهبان النصارى، كانوا ينتظرون بعثة نبى عربى يخرج من قريش أو من مكة) (ونوع آخر من تأثير الدين فى انتحال الشعر واضافته الى الجاهليين وهو مايتصل بتعظيم شأن النبى من ناحية أسرته ونسبه فى قريش، فلأمر مااقتنع الناس بأن النبى يجب أن يكون صفوة بنى هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بنى عبد مناف، وان يكون بنو عبد مناف صفوة بنى قصى، وان تكون قصى صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة الإنسانية كلها). نقد الكتاب وإذا كان طه حسين قد شكك فى حقيقة الشعر الجاهلي وقال انه تم انتحاله بعد الاسلام لتثبيت أمور دينية، فإن الأمير شكيب ارسلان قد كتب دراسة تعد من أهم الدراسات فى هذا المجال نسف بها مقولة طه حسين. يقول شكيب ارسلان فى دراسته التى قدم بها كتاب د.الغمراوى وهؤلاء العلماء استباحوا والعياذ بالله الكذب لأجل تعزيز الاسلام وعملوا بقاعدة أوروبية المنبت وهى: الغاية تبرر الوسيلة، فليقل لنا مرجليوث أو طه حسين أو أحد ممن يقولون هذه المقالة السخيفة: متى وأين صدر ذلك المرسوم الامامى بأن يطوى شعر الجاهلية الأصلى ويستبدل به شعر جديد مصنوع، ويقال أن هذا هو شعر الجاهلية؟ ومااسم الخليفة الذى فعل هذه الفعلة ولم يعلم بها أحد على ظهر البسيطة؟ ومااسم هذا المجمع الاسلامى الذى اصدر هذا القرار وأين ومتى انعقد؟ أفلا ترى أن المجمع المسيحى الذى قرر الاناجيل الأربعة ورفض ماعداها، وقرر احراقها، معروف تاريخه بحذافيره. أفيمكن أن يكون الاسلام قام بعمل كهذا وأجمع عليه الا بأمر خليفة أو بإجماع أمة، ولم يعلم بذلك أحد؟ فمن من المؤرخين الشرقيين أو الغربيين قال هذا القول؟ ثم أن الاسلام لم يكن فى علبة مختوم عليها بشمع أحمر ولا فى صندوق مقفل بل كان من أول ظهوره مختلطا بالملل والأمم الأخرى. فاذا فرضنا المحال وأن جميع مؤرخى الاسلام ماتت ضمائرهم ولم يبق عندهم أدنى وجدان، ولم يبرز فيهم واحد يقول: يا هؤلاء لا يجوز لنا الكذب وهذا حديث مفترى، أفلم يكن هناك مؤرخون نصارى ويهود ومجوس ومؤلفون روم وفرس وهند وقبط وحبش وافرنج.. الخ، أفخفى هذاالحادث عن جميعهم ولم يعلموا عنه قليلا ولا كثيرا ولا جاءت عنه كلمة فى كتاب مع أنهم تعقبوا الاسلام فى كل موضع ونشدوا كل حادث يشينه أو ينقصه، ومع أن منهم من افترى عليه البهت. أفنقول أن هؤلاء المؤرخين من سائر الملل تواطأوا أيضا مع المسلمين على تلك الأكذوبة بحق الشعر الجاهلي). والحق ان طه حسين لم يقدم أى أدلة تاريخية من التى طلبها الأمير شكيب أرسلان ممايجعل مقولته فى مجملها متهافتة وأقرب الى الظن منها الى الحقيقة. اعادة التأمل وبعد.. فهاهو الزمن يمضى ويصبح الكتاب ومعركته تاريخا علينا أن نتأمله الآن بقدر كبير من الحياد والموضوعية والنزاهة، وربما نتمكن بعد هذا التأمل من حل مشكلات فى حاضر الثقافة العربية هى جزء من متعلقات الماضى لكنها لاتزال تبحث عن حلول. ومن ناحيتى فقد استقر فى ضميرى عدة أمور لابد أن أصارحكم بها: أولا أن قيمة كتاب (فى الشعر الجاهلي) ليست فى موضوعه ولا فى منهجه، ولكن فيما اثاره من معارك، صنعت مع كتب أخرى ومعارك أخرى حيوية الثقافة العربية فى القرن العشرين. فالكتاب متهافت ويفتقر الى الكثير من الأدلة العلمية التى تؤكد صحة فروضه وبخاصة فى ذلك الجزء الذى يتناوله لغة الشعر الجاهلي، ويشكك فى قصة اسماعيل وابراهيم فقد استند طه حسين الى كلام مرسل يروى عن أبى عمر بن العلاء، رواه أبوعبدالله بن سلام الجمحى مؤلف كتاب (طبقات الشعراء)، وعندما واجهه المحقق بالكتاب الذى استند اليه وأبرز له أن أبا عمر بن العلاء كان يقصد الخلاف بين لهجتين احداهما فى شمال الجزيرة والأخرى فى جنوبها ولم يتحدث عن لغتين متمايزتين، كانت ردود طه حسين هزيلة بل انه عجز عن الرد. وعندما طالبه المحقق باثبات النقوش والنصوص الحديثة التى تقول باختلاف لغة العرب العاربة عن العرب المستعربة فى النحو والتصريف لم يثبت شيئا وعجز عن الرد. وعلى هذا الأساس فان التشكيك فى قصة اسماعيل وابراهيم لا محل لها من الاعراب. أما منهج الشك الديكارتى والذى أصبح من مخلفات العقل الاوروبى فى القرن السابع عشر فلسنا بحاجة لاثبات انه منهج عفى عليه الزمن وتجاوزه التطور العلمى. ثانيا: ان هناك جانبا مضمرا ساهم فى احتدام المعركة وأظن أن أحدا لم يلتفت اليه، وهو أن المعركة جاءت فى سياق تاريخى كانت الحركة الوطنية المصرية فيه تضع على رأس أهدافها (الاستقلال التام أو الموت الزؤام) وكان الاستقلال الثقافى هدفا مضمرا لا يقل عن الاستقلال السياسى الأكثر وضوحا فجلاء المستعمر من الأرض لا يقل عن جلائه من العقل وطالما أن الثقافة العربية والاسلام فى القلب منها رمزا للغالبية الساحقة التى ترفع لواء الاستقلال فان الانتقاص من قدرها ومن ثم الانتقاص من قدر الاسلام هو عمل من الأعمال المناقضة للاستقلال الوطنى. ويبدو أن هذا التصور قد عززه طه حسين لدى معارضيه، خصوصا وانه اختار الانحياز لحزب كبار ملاك الاراضى الاحرار الدستوريين أصحاب سياسة الملاينة والملاطفة مع الاستعمار، فضلا عن انه بمديحه للملك فؤاد كانت له علاقة لطيفة بالقصر الملكى. بل انه فى عام 1927 وافق على رئاسة تحرير جريدة (الاتحاد) لسان حال حزب (الاتحاد) وهو حزب القصر المدلل. ثالثا: انه قد آن الآوان لكى نتعامل مع ظاهرة طه حسين بموضوعية ونزاهة، ولا نستخدمها وقودا فى حرب الاستقطاب (السلفى العلمانى) التى تشتعل بين حين وآخر دون أن تجد عقولا كبيرة تسعى لحلها، فلا طه حسين شيطان رجيم وكافر وملحد وعميل كما يصوره السلفيون المنغلقون على الذات والمتحجرون فى سراديب الماضى، ولا هو قديس معصوم من الخطأ كما يصوره غلاة العلمانيين الذين لا يرون معنى آخر لوجودهم سوى الالتحاق بالغرب والتبعية له فطه حسين لا هو هذا ولا هو ذاك وانما هو مفكر عربى كبير اضاف للثقافة العربية صفحات جديدة لم تكن تعرفها، لكنه لم يكن معزولا عن سياقه التاريخى الذى ينبغى ان نتجاوزه وان نؤسس حياتنا الجديدة على استقلالنا العقلى وعلى نقد مشروعه. ونظن انه لو كان حيا لشجعنا على ذلك، وقال لكل منا: كن رجلا ولا تتبع خطاي. القاهرة ـ فتحي عامر

Email