بيان الكتب ـ جبـال الكحـل

ت + ت - الحجم الطبيعي

«جبال الكحل تفنيها المراود» هل هذا المثل هو الحكمة الكامنة وراء رواية «جبال الكحل» للأديب المصري النوبي يحيى مختار.. سؤال طرحناه بعد قراءة الرواية التي تحمل القاريء دون وعي الى عالم ساحر يظنه بعض الوقت اسطوريا ويصدمه ذهابه ادراج الرياح، او بمعنى اصح غرقه وذوبانه في مياه النيل عقب بناء السد العالي في اسوان جنوب مصر. تبدأ الرواية بتنويه يكتبه محمد الماوردي، الفنان التشكيلي النوبي الذي نشأ في القاهرة مع والديه اللذين تركا النوبة عقب التعلية الثانية لخزان اسوان حيث شح الزاد وعانى العباد من الفقر والجوع.. في التنويه يقدم لنا الماوردي صديقه الراحل علي محمود مدرس التاريخ بمدرسة عنيبة في قرية الجنينة والشباك حتى تم التهجير عام 1964 حيث تسلم كشكول مذكراته الذي اوصى قبل وفاته ان يؤول اليه، ليقرر نشره مختاراً له عنوان «جبال الكحل».. بعد ذلك وعلى لسان مدرس التاريخ علي محمود تبدأ الرواية التي تأتي على شكل مذكرات تضم عشر سنوات فقط من 1954 وحتى 1964.. خلال هذه السنوات العشر ينقل لنا يحيى مختار بدقة وصفية شديدة كل شيء عن النوبة القديمة خاصة قريته «الجنينة والشباك» والتي يجعلها مسرحا لاحداث روايته او مذكرات مدرس التاريخ. ففي هذه الرواية تكاد ترى الشوارع والبيوت والمقابر والاشجار والنيل واقعا امام عينيك وتسمع اصوات «الاراجيد» أو اغاني الافراح والسمار في الليل وتستشعر في حلقك غصة الفقد التي عانى منها النوبيون من جراء تركهم لقراهم وعالمهم عقب التعلية الثانية لخزان اسوان ثم السد العالي. فقد عمد يحيى مختار الى رسم لوحات تشكيلية تحاكي اللوحات التي رسمها الفنانون المصريون في رحلاتهم لتسجيل حياة النوبة قبل اغراقها بمياه السد، ربما تفوقها براعة، ومع هذه اللوحات المحكية يأتينا الصوت ايضا فقد اهتم مختار بابراز لغة مسموعة من خلال سطوره التي تشرح بكارة اللغة النوبية واقترابها من الفطرة الانسانية وتقدم الحياة النوبية المتلازمة مع الصوت فهم يغنون ويعبرون عن جميع حالاتهم من حزن وفرح بالغناء والشعر، حتى عندما يلجأ بعض ابطال الرواية للصمت في محاولة تدارك أبعاد الكارثة التي تحل بهم، نسمع في الصمت بكاءً وعويلاً. ويبدأ علي محمود في العودة الى الوراء قليلا حيث مات والده في سنة الخزان فانتقل مع امه واخته الى دار جدته ليقيموا فيها ويرعون السهم ونصف الباقي من ارضهم التي ابتلعها النيل وكانت لا تأتي إلا بالنزر اليسير الذي يخزنونه كعلف للمعزتين والخراف الثلاثة التي لديهم، في حين يرسل لهم خالد حسنين الماوردي الذي يعيش في القاهرة خمسة وسبعين قرشاً شهرياً ويساعدهم خاله الآخر جعفر جنينه في الارض ومع ذلك كانوا يعدون من القوم المستورين في قريتهم وعندما ينتهي من دراسته الثانوية في عنيبة تصر امه وخاله الماوردي على ان يسافر الى القاهرة لاكمال تعليمه الجامعي حتى يحقق حلم والده الذي كان يتمنى ان يدرس بالازهر ويصير شيخا عظيما في قريته وبعد سفره بشهور قليلة تضرب الملاريا كل قرى الجنوب فتموت امه واخته، وهنا يلقي يحيى مختار الضوء على هذه البقعة من الارض التي تعد بوابة افريقيا والتي تتعرض لكل النكبات من جراء ما يمر عليها من جيوش وحكام هاربين وأوبئة يحملها العابرون تماما مثلما وقعوا فريسة لبعوضة الجامبيا التي جلبها الانجليز ضمن معداتهم من افريقيا.. وبعدما تخرج علي محمود عام 1948، بقي في القاهرة عاماً آخر حيث لا يجد سبباً للعودة بعد وفاة اهله جميعا عدا خاله جعفر جنينة، لكنه يعود بعد ذلك الى قريته الجنينة والشباك ليعمل مدرسا في مدرسة عنيبة.عام 1960 يحضر الزعيم جمال عبدالناصر الى النوبة تخرج الحشود لاستقباله ومشاهدة هذا الحدث الجلل والذي لن يتكرر في المستقبل ولن يحدث طوال تاريخهم السحيق، فلم يأتي اليهم من قبل ليحدثهم ولكنهم شهدوا حكاماً هاربين كثيرا يمرون فارين عبر بلادهم جنوباً ويؤكد علي محمود ان خطبة عبدالناصر جعلتهم يغيرون آراءهم المضادة للسد ويقتنعون بكل كلمة يقولها الزعيم الذي لا يمكن ان يكرهه احد، بهيئته الفرعونية التي تصل الى قامة رمسيس الثاني وتمتزج بجلال المعابد وقدسيتها. ينتقل بعد ذلك مدرس التاريخ الى ابن خاله محمد الماوردي الفنان التشكيلي والاستاذ بفنون جميلة حيث يتم اعتقاله عام 1960 بعد خطاب عبدالناصر امام معبد ابوسنبل بشهرين، مما أرغمه على السفر الى القاهرة في حي العرب بالمعادي ليواسي خاله حسنين الماوردي، لكنه يجد خاله مصدوما في ابنه الذي خدعه وانضم الى السياسيين الذي يرى انهم لا يعنونه في شيء على الاطلاق حتى يموت الخال وابنه محمد مازال مسجونا. ينطلق بعد ذلك يحيى مختار على لسان علي محمود طه في الحديث عن محمد الماوردي الذي لم يفاجأ عندما اتجه لدراسة فن التصوير في كلية الفنون الجميلة فلطالما كان يرقبه منكبا مع عمه جعفر جنينه لزيارة المقابر الفرعونية ويطيل في تأملها، كما كان يشارك الفتيات الصغيرات في نقش الزخارف على جدران المنازل وتلوينها غير عابيء بسخريات اقرانه ووسمه بالنسونه وكيف عندما بدأ دراسته الفنية ظهرت الحياة في الجنينة والشباك في خطوطه وأشكاله واستطاع ان يجمع بين اللمسة العصرية في دراساته والقديم الكامن في اعماقه. ويسرد علي محمود كيف اصبحت قراهم على امتداد النيل مكتظة بالبشر فجأة عكس ما كانت عليه في الأزمان الغابرة، بعثات تنقيب وجهات اجنبية وفرق من الجامعات المصرية ومصلحة الآثار وفرق انقاذ من مهندسين وعمال وعلماء في الجيولوجيا وعلم الاجناس وعلماء اللغة وبعثات وزارة الثقافة من رسامين ومصورين وفرق خبراء الفنون الشعبية.. الخ.. الكل في حالة عمل لتسجيل كل شيء عن النوبة وثقافتها وكان مدرس التاريخ يرى أنها عملية تحنيط.. وفي عام 1961 زادت الحركة وعاد المغتربون في الشمال ليراقبوا عمليات الحصر حفاظا على حقوقهم. انتشرت لجان التعويضات والاحتفالات الكبيرة التي اقيمت عند نقل رفات أولياء الله «سيدي كبير» و«حسن ابو جلابية» و«الشيخ عبدالله». في الرواية تظهر شخصية الخال جعفر جنينة الذي يمثل الخط الذي يصل الماضي بالحاضر فهو شاهد على ما اصاب اهل النوبة من دمار وتشريد منذ التعلية الثانية للخزان وكيف اهملهم الجميع غير عابئين بحياتهم او موتهم وتركوهم يواجهون الفيضان كما اطلقوا على هدير الماء الذي اكتسح بيوتهم وزرعهم ونخيلهم.. كيف تتذبذب مشاعره بين تصديق الحكومة وخطبة جمال عبدالناصر ووزيرة الشئون الاجتماعية التي تعدهم بالجنة في النوبة الجديدة ثم الحزن على كل شيء والشعور بأنهم يقعون في فخ تنصبه لهم الحكومة.. هذا الخال الذي يسيح في دورب قرى النوبة يجمع ببصره ما سيتبقى في ذاكرته عن المكان الذي سيتم خلعهم منه، تارة يرضى من اجل مشروع قومي هام للوطن وتارة يخاف من ان يأكلهم السد ولا يبقي عليهم. ويمضى يحيى مختار في فكرته التي يؤكد بها ان النوبيين لم يكونوا يوما ضمن خطة الوطن ولن يلتفت اليهم احد او يرعى شئونهم، إلا عندما شرعوا في بناء السد، كما يشير ايضا الى اللغة النوبية التي هي في الاصل لغة مصر والتي لم تستمر على الالسن إلا في النوبة وكيف انهم حاولوا كتابتها دون جدوى والخوف من اندثارها وعدم الاهتمام الرسمي بتدوينها وتخليدها مثلما تحافظ شعوب اقل قيمة من مصر على لغاتها الاصلية وتحييها مؤكدا ان هناك انجيلا مكتوباً بحروف لاتينية والنطق نوبي ويمكن ان يتم اعادة هذه اللغة الى الحياة في جميع انحاء مصر. ويخرج محمد الماوردي من السجن ليعود الى الجنينة والشباك منضما الى قافلة الفنانين الذين يسجلون بفرشاتهم النوبة قبل ان تندثر ويستمر في البلد حتى يبدأ التهجير وتخلو القرى تدريجيا من الحياة تصفر الريح في المنازل وتنوح الكلاب على اصحابها الذين يمضون تاركيهم لمدينة اشباح سرعان ما تغرق اسفل النهر.. كل شيء يهجر، البيوت بكل ما تحمله من فنون كان يجب الاحتفاظ بها، الارض التي كفت عنها ايدي الفلاحين، النخيل.. كل شيء.. وعندما تخرج آخر قافلة من النوبة، وفي مشهد مهيب يصفه يحيى مختار باقتدار وكأنه رآه رأي العين، ينزل المهاجرون جميعاً بعد احتشادهم داخل السفن متوجهين نحو مقابرهم في حركة جماعية غير متفق عليها وكأنهم يعتذرون لعظام ذويهم ولتاريخهم انهم راحلون وتاركيهم للغرق والاندثار. وهنا يبدأ يحيى مختار في توضيح كم الاهمال الذي عانى منه النوبيون في طريق هجرتهم حيث تم حملهم على سفن كانت تحمل في الاصل الماشية وغير مجهزة لبشر وكيف تعرضوا للاهمال الصحي في طريقهم الطويل لقراهم الجديدة حيث تموت ام بحمى النفاس وتلحق بها ابنتها الوليدة التي كانت قد اطلقت عليها اسم هاجر تيمنا بهجرتهم الى الشمال.. وعندما يصل الجميع الى النوبة الجديدة تصدمهم المنازل الاسمنتية التي تشبه العلب الصفيحية والتي لا تمت الى بيوتهم القديمة في شيء ولا تمثل ثقافتهم وحياتهم وكيف انهم لأول مرة يبتعدون عن النهر الذي لم يفارقوه ابدا. في النهاية وبعد هذه الرواية المشحونة بالمشهدية الرائعة والبكاء الهاديء المثير للحزن على فقد شيء غال والنقد اللازع لموقف الحكومة من هؤلاء القوم يكتب مختار مقالا يؤكد فيه انتماءه للجنينة والشباك بالنوبة ورحلة هجرته مع والديه الى القاهرة وهو لم يتجاوز السابعة وكيف عانى من ازدواج اللغة التي يستخدمها النوبيون في المنزل والعربية العامية في الشارع والفصحى في المدرسة، كما يؤكد موقفه من السد العالي حيث لا يرفضه ولكن يرفض كيفية التعامل مع القوم الذين فقدوا تراثهم وتاريخهم ليغرق في اليم ولم يلقوا سوى الاهمال والخديعة فهم لم يجدوا الجنة المفقودة في النوبة الجديدة كما وعدوا وايضا لم يجدوا حياتهم التي اعتادوها من قبل. أمنية طلعت الكتاب: جبال الكحل تأليف: يحيى مختار الناشر: دار الهلال ـ القاهرة

Email