صحيفة الفلق وشخصياتها

ت + ت - الحجم الطبيعي

حيث تبدأ الصحف بالعرض لصحف أخرى، هذا يعني ان ثمة مرحلة تاريخية مرت على واقعنا الثقافي، باتت بحاجة الى توثيق وبحوث ودراسات.. لا تطالها وحدها فحسب، بل تطال شخصياتها وكل الظروف المحيطة بها، كي يمكننا ملامسة الحقيقة بشكلها الموضوعي. «ان المعيار الحق في وزن أقدار الرجال ومنجزاتهم وثقافاتهم واشعارهم، لا يتجه الى الاستثناءات والمواقف المؤقتة والجانبية والسطحية، وانما ينبغي ان يتجه الى تقييم الاهتمامات الرئيسية ومظاهر السلوك واهدافه والطابع الاعمق.. والنهايات الكبرى». بهذه الاضاءة للشاعر محمد محمود الزبيري يفتتح المؤلف محسن الكندي كتابه الذي يقول في مقدمته «اذا كنا نسلم بأهمية الدراسات التوثيقية للمشاريع الثقافية المؤسسة للخطاب الثقافي في فكرنا العربي الحديث، فهذه المحاولة هي أحد المشاريع التي نجزم بها قاطعين بأهمية الدور الحضاري للرواد العمانيين وهم يمخرون عباب البحر متجهين صوب ارض يباب كالارض الافريقية «الشرقية» يصنعون الحضارات، ويؤكدون مجد الهوية العربية التي ورثوا تاريخها ونضالها من آبائهم العرب الفاتحين الذين وصلوا بها على امتداد شاسع من الخريطة السياسية. وهي محاولة لقراءة الدور التنويري الحضاري العماني بمكوناته في شرق أفريقيا انطلاقاً من ذلك الانجاز، كما انها محاولة كشف وتوثيق وتصنيف وارشفة الخطاب الثقافي في صحيفة «الفلق» 1929 ـ 1963م والتي قامت على أكتاف رموز وشخصيات عمانية مرموقة خُلدت في ذاكرة العمانيين. في المهجر شكلت صحافة المهجر العمانية منذ صدورها المبكر في أوائل هذا القرن واقعاً تسجيليا مهماً لفترة دقيقة من تاريخ الثقافة العمانية في شرق افريقيا، حيث المهجر العماني الخصب الغني بكثير من الرؤى والتطلعات الحضارية التي خلفها العمانيون على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية. وهي فترة تقترن ايضا بمساقات الحربين العالميتين وما صاحبهما من قلق سياسي ونتج عنهما من اشكال الفقر والعوز والهجرة والتشتت... كما ان هذه الفترة من جانب اخر اقترنت بظهور خطاب ثقافي جديد شكلته جهود المصلحين التنويريين في عمان وخارجها، والتي خاضت مراسها الثقافي عبر الصحافة والتأليف التاريخي والفقهي، بل وحتى الأدبي من خلال قصائد الشعر والمنظومات الوثائقية التي تحفظ كيان الهوية للأمة، بعد حالة التشتت والتبعثر تلك. لقد كانت مهمة اولئك التنويريين صعبة للغاية، لأنها انبثقت من تحولات خطيرة على المستوى السياسي والاجتماعي، وحددت مسارها وسط الامكانات المحدودة لمجتمعاتهم، أفقا ورؤية، ومن ثم تقبلاً ورفضاً، تذكيها في ذلك مصاعب مادية وأخرى معنوية لوطنهم الام عمان «مهجرهم الشرقي» ذلك المهجر الذي اتجهت اليه افواج العمانيين بدءاً من القرن الاول الهجري، ويتمثل في زنجبار، والجزيرة الخضراء، وممباسة، والكونغو، وتنجنيقا، وموزمبيق، وغيرها من بقاع افريقيا، ومن تلك الاماكن المتعددة صدرت الصحافة العمانية ممثلة في النماذج التالية: صحيفة «النجاح» الاسبوعية، صدرت في اكتوبر عام 1911م، تناوب على رئاسة تحريرها كل من الشيخ ناصر بن سالم الرواحي، والشيخ ناصر بن سليمان اللمكي الذي نفي الى الهند عام 1914 مما ادى الى احتجاب الصحيفة ابدياً. اما صحيفة «النادي» التي صدرت في العام نفسه فقد قام بتحريرها الشيخ حارث بن سليمان اللمكي، وكانت تطبع بآلة «الرونيو» وتوزع مجاناً. صحيفة «النهضة» الثقافية السياسية، صدرت عام 1949، وغلب عليها الطابع السياسي، اصدرها سيف بن حمود البوسعيدي، اثر اعتذاره عن رئاسة تحرير صحيفة «الفلق» التي مكث فيها زهاء خمسة عشر شهراً، وساهم في كتابة مقالات «النهضة» اعضاء الجمعية العربية في زنجبار والمناطق المجاورة لها. ولان الصحيفة لم تهادن الحماية البريطانية اوقفت بأمر المقيم البريطاني عام 1953م وفي عام 1954م اعاد اصدارها أحمد بن محمد اللمكي، واستمرت في الصدور حتى عام 1955م. «المرشد» اصدرها احمد بن سيف الخروصي عام 1950 لتخاطب العرب الذين يتحدثون باللغة السواحلية، وانتهجت الخط نفسه في مهاجمة الحماية البريطانية للجزيرة، وعندما ظهرت الاحزاب السياسية في زنجبار والجزيرة الخضراء، انضم كتاب الصحيفة اليها، لكن الصحيفة ظلت مستقلة تصدر بثلاث لغات: العربية، والسواحلية، والانجليزية، وذلك حتى عام 1954م، وابرز كتابها سعود بن محمد الريامي، وعلي بن محسن البرواني، والشيخ هاشل المسكري، وأحمد بن محمد اللمكي.. «الأمة» اصدرها حزب الامة في زنجبار عام 1958 اثر حصوله على مطبعة عربية من الصين الشعبية، ولقد استمرت هذه الصحيفة في الصدور كلسان حال الحزب حتى عام 1963م. «الاصلاح» اصدرها الشيخ الامين بن علي المزروعي في ممباسة بالساحل الكيني عام 1932م، ولقد جاءت استكمالاً لمشروع الشيخ الأمين التنويري الذي كان قد بدأه باصدار دورية سماها «الصحيفة» عام 1930م، وعنيت بالمسائل الدينية والاجتماعية والسياسية. «الفلق» تعتبر هذه الصحيفة من أوائل الصحف العربية التي ظهرت في افريقيا الشرقية بعد الحرب العالمية الاولى، وكانت قبل الحرب تعرف باسم «النجاح» الا أن محمد بن سعيد بن ناصر الكندي سماها بعد ذلك بالفلق لتكون شبيهة بالنجاح في ازالة ظلمة الجهل والغباوة وانارة الافكار واصلاح الشئون الدينية والدنيوية، وقد جاءت تسميته تلك في معرض حديثه للعدد الاول الذي صدر يوم الاثنين 1 ابريل 1929م. في عهد رئاسة سالم بن كنده للجمعية العربية، وبتشجيع من الشيخ ناصر بن سليمان اللمكي. وتولى اول رئاسة تحرير لها الشيخ هاشل بن راشد المسكري، ثم تعاقب على ذلك التحرير كل من الشيخ محمد بن هلال البرواني لمدة اربعة عشر عاماً، من 23 مايو 1931 وحتى 30 ديسمبر 1945. والشيخ سعيد بن سالم الرواحي لمدة سنتين من 1 فبراير 1951 حتى 18 مايو 1953م. والشيخ عبدالله بن سليمان الحارثي، والشيخ احمد بن محمد اللمكي، والشيخ ابو البركات بن ناصر اللمكي، وسيف بن حمود بن فيصل، ولكل منهم مدة سنة واحدة تقريباً. وقد قام باخراج اعداد «الفلق» الاولى الرسام المصري عبد الباري العجيزي، وقد توقفت عن الصدور في الفترة من 19 يونيو 1954 الى 19 يونيو 1955م بسبب مقالاتها الصارخة في وجه السلطة، وتحريضها على بداية العمل الوطني المتمثل في المناداة بالديمقراطية وانتخاب أعضاء المجلس التشريعي، وقد حوكمت الفلق بسبب ذلك، وصدر الحكم رقم 1805 ضدها في 19 يونيو 1954م بادانة اعضاء اللجنة المركزية التنفيذية للجمعية العربية واتهام «الفلق» باحدى عشرة تهمة، ونص الحكم بالتوقيف ودفع غرامة 35 الف شلينج وتوقيف الصحيفة لمدة عام يبدأ من يوليو 1954م. وفور انتهاء تنفيذ الحكم عاودت «الفلق» الصدور لتقدم اطروحات ثقافية سياسية تثير اعجاب قرائها ومتابعيها داخل الوطن العربي، فقد كانت تصل الى عمان وتوزع في الشام ومصر والجزائر.. بعد هذا العرض السريع لصحيفة الفلق يبدأ المؤلف القسم الاول من كتابه بمكونات التنوير في الصحيفة، ومن ثم علاقة المثقف بالتنوير من حيث الميلاد والانطلاقة، ودور الجمعية العربية، وآفاق الرؤية في تلك المرحلة، والخطاب السياسي بكل اشكاله وابعاده المحلية والعربية والاقليمية والخطاب الادبي والتجارب الشعرية والنثرية... اما القسم الثاني فيفرد مؤلف الكتاب اغلب صفحاتها للشيخ هاشل بن راشد المسكري كنموذج لمثقفي تلك المرحلة وأدوارهم التاريخية، اذ يعرض لحياته ونشأته وتكوينه العلمي والثقافي ومن ثم هجرته ودوره التنويري، ومستويات تفكيره في ظل المستويات المحلية والعربية. القسم الثالث عبارة عن مكاشفات صريحة للخطابات السياسية والادبية والاجتماعية، يكملها القسم الرابع بنماذج من خطابات الشيخ هاشل ليكون القسم الخامس مصدراً مهماً لنماذج احصائية توثيقية ومن ثم ملاحق للأقوال والخطابات والشخصيات ونماذج من النصوص الادبية... وكشاف مصور اضافة للمصادر والمراجع. محمود أبوحامد

Email