شنقيط مدينة تتجدد كطائر الفينيق

ت + ت - الحجم الطبيعي

عرفت موريتانيا كلها في التاريخ الاسلامي حتى فترة قريبة، باسم بلاد شنقيط، نسبة الى مدينة شنقيط التاريخية التي تقع بمنطقة آدار بشمال البلاد، وهي مدينة مازالت تغالب الزمن، وتسعى الآن سعيا حثيثا الى استعادة دورها الذي كادت تفقده خلال العقود الاربعة الاخيرة من القرن العشرين، بفعل موجة الجفاف الشديدة، وما ارتبط بها من نزوح لاهالي المدينة وضمور شديد لعدد ساكنيها، حتى غدت شبه مدينة اشباح، شارفت على الاندثار، وهو ما يعني اختفاء تاريخ بكامله، بجهاداته وآماله واعماله وانقراض حاضرة عربية اسلامية، ظلت عبر القرون بوتقة للتواصل الحضاري، وهمزة وصل بين المغرب العربي وافريقيا الغربية المسلمة، مدينة لها جمالها الصحراوي البديع، ومعمارها البسيط المميز، وعلى مشارف المجابات الصحراوية الكبرى ظلت عبر العصور رباطا متقدما للجهاد وثغرا متقدما من ثغور العروبة والاسلام. وفي هذا الاستدعاء الموجز لتاريخ مدينة شنقيط، وهذا التسجيل البورتريه الموقع، وجماليات المكان، نوجه دعوة للجهات الغيورة على التراث العربي الاصيل لكي تسهم في انقاذ ما يمكن انقاذه، من تاريخ شنقيط، ومكتباتها ومخطوطاتها، وداراتها وعمائرها الاسلامية العتيقة. تأسست مدينة شنقيط سنة 140هـ الموافق 776م، وظلت مزدهرة عدة قرون من الزمن، الى جانب شقيقاتها مدن ودان وتينيكي وولاته وتيثيث، وبفعل ظروف تاريخية معقدة وصراعات مريرة، اندثرت المدينة وانفض السامر ـ كما يقال ـــ فتفرق اهاليها على المدن الاخرى، وبعد خمسة قرون قررت المدينة ان تعيش حالة نشرها الاولى، فنهضت واستوت قائمة ـــ كطائر الفينيق ــ من بين الحطام والرماد، كان ذلك بتأسيس شنقيط الثانية على انقاض الاولى سنة 660 هـ الموافق 1262م، وقد ورد اول ذكر لها في كتاب «تاريخ السودان» للسعدي «1596م ـــ 1656م»، وكلمة «سودان» هنا تشير الى عموم المجال العربي الصحراوي الممتد من المحيط الاطلسي، الى البحر الاحمر، وان كانت بعض المصادر التاريخية تشير إلى المناطق التي نحن بصددها مع أجزاء من الدول المجاورة باسم السودان الغربي في الغالب. وقد اختلف الباحثون في اشتقاق كلمة «شنقيط» لغويا، وحول جذورها، فهنالك من اعتبرها تحريفا لكلمة «سن قيط» اي طرف أو حافة جبل قيط المجاور للمدينة، ومن المألوف في العامية، وايضا في اللغات السامية آنذاك ايصال حرفي السين والشين، احدهما بالاخر، وهنالك من اعتبر الكلمة عربية أصلا واشتقاقا بصيغتها الحالية، فهي من «الشقيط» وهو نوع من الأواني الخزفية كان يصنع ويستعمل في المنطقة، على ان ثمة من اعتبر الكلمة بربرية ومعناها «عيون الخيل» اي الابار التي تشرب منها الخيل، وهذا هو التفسير الدارج في الادبيات التاريخية الغربية. وعلى أية حال، فقد كانت شنقيط علامة على القطر بأسره، وذلك لأهمية الدور الذي لعبته هذه المدينة في ترسيخ الثقافة العربية الاسلامية في المنطقة، ولم يتغير اسم البلاد إلى كلمة «موريتانيا» إلا سنة 1905م حين غزتها فرنسا وقرر الحاكم الاستعماري المستشرق كزافييه كاوبلاني نبش تاريخ شمال افريقيا الروماني ليستدعي منه هذا الاسم الاجنبي «موريتانيا» الذي يعني «بلاد السمر» والذي اطلق على دول في شمال المغرب الكبير قديما مثل «موريتانيا الطنجية» بطنجة، والقيصرية بسطيف «الجزائر» وغيرها كثير، هذا الاسم الروماني أو اليوناني الذي صار اسما نهائيا للبلاد بدلا من «بلاد شنقيط». ولعل ما اهل مدينة شنقيط قديما لان تكون اسما لعموم المنطقة كونها شكلت نقطة استقطاب واشعاع كبيرين في فترات عهودها الزاهرة، وساعدها على كل ذلك انها تلقت علماء كبار قادمين من اماكن مختلفة بالمغرب والاندلس، نشروا فيها علما كثيرا ورسخوا تقاليد تعليمية راقية لم تكن معروفة في الصحراء، ولعل من أبرزهم الامام ابي بكر الحضرمي المرادي الذي دفن قرب شنقيط بمدينة اوكي المنقرضة ومزاره معروف وقائم حتى الان، وهو مؤلف كتاب السياسة الشهير: «الاشارة في تدبير الامارة». وقد وفد الإمام الحضرمي احمد الذهبي على شنقيط في القرن 11هـ قادما من تلمسان بالجزائر، ونشر فيها تدريس متون فقهية لم تكن معروفة من قبل كمختصر خليل في الفقه المالكي الذي سيصبح فيما بعد اهم ركائز التعليم الشنقيطي المحلي المعروف باسم «المحضرة». وبصفة عامة فقد غطت شنقيط على غيرها من مدن الصحراء وصار اسمها علما على البلاد لانها كانت النقطة التي تتجمع فيها القوافل المتجهة للحج، والتي تعرف في رحلتها إلى المشرق باسم القافلة الشنقيطية، وقد بلغت المدينة في فترة ازدهارها شأوا بعيدا في العمران حتى روي أن قافلة تجارية انطلقت من سوقها متجهة للجنوب تحمل صفائح الملح، وحين عدت تجاوزت 32 الف بعير محملة، ومع ما قد يكون في هذا الرقم من مبالغة فانه يدل على ازدهار المدينة حتى لو صدق عشره، أو عشر عشره. وبعد استقلال موريتانيا سنة 1960م ضرب المنطقة جفاف شديد ادى إلى تفكك وتهلهل نسيج الحياة في المدن الصحراوية التاريخية الموريتانية ــ ومنها شنقيط ــ فهاجر معظم سكانها ولم تمر عشرون سنة حتى غدت المدينة كمدينة أشباح، بيوت متهالكة، حوائط متصدعة، أزقة مهجورة مقفرة، ووصلت الامور درجة اصبح معها سكان المدينة مئتي شخص لا غير بعضهم من المبتعثين في وظائف الخدمة الوطنية، اي ان المدينة تم افراغها من سكانها تقريبا، وهنا اطلقت اليونيسكو حملة دولية لانقاذ المدينة والمدن التاريخية الاخرى من الانقراض، ووصف مدير اليونيسكو وقتها ـــ أحمد مختار انبو ــ هذه الحاضرة بأنها من الشواهد الاخيرة على ازدهار منطقة ظلت لفترة طويلة، بحكم موقعها في ملتقى طرق القوافل الصحراوية الكبرى، تربط بين المغرب العربي ومنطقة الساحل. كما ان وجودها في محور فكري تلتقي فيه الاندلس، بأقصى افريقيا، جعلها تفتح ابوابها في آن واحد لتجارة السلع، ولتبادل المعارف كما اصبحت بذاتها مركزا للابداع والالهام، ومصدر اشعاع لحياة دينية غنية، ولانشطة علمية وفنية عديدة. ومنذ نداء اليونيسكو العالمي الذي تم اطلاقه يوم 16 فبراير 1981م، بذلت الحكومة الموريتانية، واليونيسكو ومنظمات دولية عديدة، جهودا لانقاذ المدينة لم تكلل بالنجاح على اقل تقدير، لان احدا لم يوفق في اقناع الاهالي بالعودة إلى مدينتهم نظرا للظروف غير المناسبة مناخيا ولكونها تعيش حالة عزلة لبعدها في الصحراء عن طرق المواصلات المعبدة، إلا ان انجع الحلول ــ على ما يبدو ــ جاء في السنوات الاخيرة على ايدي احد ابناء شنقيط، اذ مول طريقا يربط مدينته المهجورة باطار عاصمة ولاية آدرار التي تتبع لها شنقيط اداريا، ومع ان الطريق غير مسفلت الا انه ممهد تمهيدا جيدا يسمح لمختلف انواع المركبات الآلية بسلوكه، وهكذا فكت المدينة عن نفسها العزلة وعرفت ازقتها الضيقة إلى ما كانت تعهده من حركة ونشاط، ودبت الحياة في السوق، بفعل عودة مئات الاسر الشنقيطية إلى بيوتها، ووصل الان عدد سكان المدينة اربعة آلاف نسمة، وعادت وجهة مفضلة للباحثين عن المخطوطات العربية، والمكتبات العتيقة وايضا لطلاب العلم من مختلف انحاء القطر ومن الدول المجاورة. كما بدأت تفد اليها موجات من السياح الاجانب التي يبهرها جو الواحة المحيطة بالمدينة، وحواريها العتيقة، وجو الصحراء المشمس الصحو، حتى ان احد ابناء المدينة رمم مجموعة مبان، وجهزها بطريقة جميلة راقية، وحولها إلى فندق اسماه «فندق الألف نجمة» ولهذه التسمية الطريفة اسباب، فاذا كان ارقى ما هو موجود في مدن العالم من فنادق، يصنف سياحيا، ضمن فئة «الخمس نجوم» فان «الالف نجمة» التي سمي بها الفندق الشنقيطي ليست وفق تسلسل تصاعدي لهذا التصنيف، وانما تستخدم كلمة «نجمة» هنا بمعناها الحقيقي لا المجازي، فهو يشير إلى ان سماء الصحراء تكون في الليل في غاية الصفاء، وبالتالي سيكون في مقدور السياح الاجانب ان يروا في الليل صفحة السماء مرصعة بآلاف النجوم المتلألئة، وهو منظر يتعطشون اليه وهم القادمون من باريس، ولندن، وروما وغيرها من المدن الاوروبية التي تلبد الادخنة والتلوث سماءها، فلا يرى الناس ــ بالكاد ــ إلا نجمة أو نجمتين، لأن كل شيء ملوث ومغيب وراء دخان المصانع، وغابات الاسمنت والضجيج والصخب. معالم المدينة ولعل أشهر معالم مدينة شنقيط قاطبة مئذنة الجامع العتيق التي تتخذ احيانا رمزا لموريتانيا في وسائل الاعلام الاجنبية، وعمارة المسجد تتميز بالبساطة، ومحلية المواد، وقد استخدم البناؤون الحجارة المحلية الضاربة إلى الحمرة، وضمنوا مفردات المجموعة المعمارية ملامح مغربية اندلسية، مع حضور قوي لما يعرف بالعمارة الصحراوية التي تغلب على وجه المدينة بصفة عامة. والبيوت الشنقيطية تتميز بأنها قصيرة فتندر العمارات أو الادوار العلوية وربما يكون لنوعية ونمط البناء دخل في ذلك، كما تتميز الازقة بالضيق، وبانعدام الاقواس التي هي حاضرة في مدن تاريخية موريتانية اخرى كولاته مثلا. وقد شهدت مدينة شنقيط الان ما يبدو أنه سيكون حالة نشرها وانبعاثها من الانقاش للمرة الثالثة في تاريخها، فقد ارتفع عدد سكانها من جديد خلال السنوات الاخيرة ليجاوز حد الاربعة آلاف، ودبت الحركة في مكتباتها العتيقة من جديد، ولكنه يبقى ثمة سؤال أخير لابد من طرحه، وهو: هل تستطيع هذه الحاضرة مغالبة الزمن مرة اخرى دون تدخل فاعل من ابنائها ومن الجهات المعنية بالحفاظ على التراث العربي الخالد في مجاهل الصحراء؟ ام ان علينا في كل مرة ان نترك حاضرة تعيب وسط مجاهل النسيان، ومن ثم نتحسر عليها ونندم، ولات ساعة ندم!

Email