ابراهيم صالح كروع: عملت غواصاً ونهاماً وساعي بريد

ت + ت - الحجم الطبيعي

بيان 2: عملية البحث عادة لا تخلو من الإثارة والتشويق عندما تكون موجهة الى اضابير الماضي الموغل في القدم وأعني هنا الاوراق البيضاء والملونة التي تحمل بين سطورها تفاصيل وافية عن سيرة وحياة الناس المتوارية خلف الكم الهائل من السنوات. ويظل الامر ممتعا وجاذبا للانتباه حينما يجد المرء نفسه جالسا وجها لوجه مع الآباء كبار السن ليتحدثوا بصوت مسموع وحركات لا تخلو من مشاعر الانفعال عن الحياة التي امضوها قبل عشرات السنين. وبالرغم من مرارة الحياة وقساوتها وخلوها من اسباب المتعة والرفاهية الا انها تحمل من واقعها جذبا للانتباه وامتاعا للنفس. الوالد ابراهيم بن صالح كروع هو أحد ابناء (الديرة) الذين عاشوا عن كثب سنوات الماضي بأفراحها واتراحها بل ينظر اليه على انه افضل من يستعيد ذكريات تلك الحياة. ولد الوالد ابراهيم كروع وهو من قبيلة الفلاحي في حي رأس الخيمة القديم. بمسكن من الجص ولكنه كغيره من الناس يجهل متى ولد. وقال في اعتقادي ان عمري يناهز السبعين عاما ومهما يكن من امر فالناس الذين جاءوا الى الحياة قبل قيام دولة الاتحاد نادرا ما تتاح لهم فرصة تسجيل يوم ولادتهم لاسباب عديدة منها جهل القابلات بالقراءة والكتابة اضافة الى عدم وجود ضرورة ملحة للاعمار فالمدارس التي تسأل عن عمر الطلاب لم تكن موجودة وقتذاك. ومهما يكن فقد كان الوالد ابراهيم كروع ثالث ابناء الاسرة بالاضافة الى اخت واحدة تصغره سنا. وذكر ان وجوده الثالث بعد اخويه حسن ومحمد اتاح له الفرصة ليتجنب الكثير من المشاق والمعاناة في بداية نشاطه في الحياة. وقال في هذا الصدد: لعل الامر الاكثر اهمية هنا هو انني ظفرت بمن يأخذ بيدي الى الدروب السهلة في الحياة فوالدي صالح (عليه رحمة الله) كان يعمل نوخذا للمراكب الخشبية وكذلك كان اخواي حسن ومحمد من العاملين في مجال الغوص والاسفار البحرية. وأضاف قائلا: والى جانب ذلك فقد كانت امي شديدة المراس في الحياة بل هي صلبة في مواجهة ظروف الحياة ولا غرابة في ذلك حيث تنحدر من (أم) شاركت في الكثير من الحروب التي شهدتها المنطقة في السنوات الغابرة حتى صارت أمي وجدتي يطلق عليهما (الشمارة) وهو لفظ يعني خنادق الحروب. حينما بلغ الوالد ابراهيم كروع من العمر 17 سنة بدأ يفكر في السفر بحرا وقد تحقق له ذلك في ذات يوم اذ تقدم بخطى ثابتة نحو محمل خشبي (سفينة) وصعد الى ظهره حيث كانت تلك هي تجربته الاولى في عالم الاسفار والغوص. وكما ذكر فقد كان الامر بالنسبة له طبيعيا جدا اذ لم يشعر برهبة البحر التي هي امر طبيعي لمن يقومون بمهام بحرية هي الاولى في حياتهم. وقال الوالد ابراهيم كروع لم اشعر بانزعاج او اضطراب بل كنت اشعر بالاطمئنان واعتقد ان رؤيتي المتكررة لأفراد اسرتي بدءا من الوالد ومرورا بأخوي حسن ومحمد وهم جميعا من رواد البحر المتمرسين كان عاملا مشجعا وحافزا للسير بخطوات ثابتة باتجاه البحر. وأوضح انه حين صعد الى ظهر المحمل الراسي الى شاطىء رأس الخيمة كان يحظى بنظرة تقدير لا حدود لها من جميع المسافرين ويرجع السبب في ذلك الى امرين احدهما مكانة اسرته المرموقة في الاسفار البحرية والامر الآخر هو كونه احد اشهر النهامين في الديرة. ويذكر في هذا الصدد انه بفضل موهبته النهامية كان محل تنافس واغراء من قبل محامل الغوص في المنطقة. وأضاف: النهيم (مغني السفينة) كان ضروريا لشد ازر الناس وهم يصارعون الامواج وقساوة الغوص كما انه اداة ترويح وتسلية لأولئك الذين يكابدون مشقة السفر ويعذبهم البعد عن الاهل والوطن. وفجأة يسرح الوالد ابراهيم كروع مع خواطر الماضي ثم ينشد أبيات من الشعر تقول: الدنيا خسيسة فرقت هاليها الاول نصافيها ونبغي رضاها واليوم عفناها ولا نبغيها ثم يعود الوالد ابراهيم كروع متناولا رحلته الاولى حيث وصفها بأنها كانت تجربة ممتعة لا تزال حاضرة في ذاكرته. وبالرغم من انه كان يقوم بمهمة مزدوجة اذ هو غواص ونهام الا انه كان يتقاضى راتبا بسيطا. وقال بالنسبة لي كنهام فقد كنت احصل على خمس روبيات واما مقابل الغوص فقد كنا ننتظر الى حين عودتنا الى البر ليتم حصر الانتاج من قبل النوخذا او صاحب المحمل ومن ثم يوزع علينا العائد الخاص بنا. وأضاف ليس في كل الاحوال نجني ارباحا من اسفار الغوص ففي بعض الاوقات يخرج الواحد منا بخفي حنين بل ربما يكون مطالبا لدى النوخذا بمبلغ من الروبيات. وذكر انه في مثل الحالة الاخيرة اي عندما يكون الشخص مكبلا بالديون فإنه يكون له خيار واحد وهو العودة في موسم الصيد للعمل مع النوخذا حتى يتمكن من سداد ما عليه من ديون. واشتكى الوالد ابراهيم كروع من الاخطار التي يواجهها الغواصون مشيرا الى ان سمك الجرجور (القرش) يمثل شيئا مرعبا لمن هم في قاع البحر. وقال حينما يشاهد احدنا الجرجور يطلب من زملائه الاسترخاء في قاع البحر وعدم الحراك كما انه يرسل اشارة عبارة عن هزة خفيفة للحبل المربوط الى ارجلنا يفهم منها النوخذا اننا نواجه خطرا وبالتالي يأمر من هم على ظهر المحمل بالتوقف عن التعامل معنا الى حين صدور اشارة اخرى من الغواصين تفيد بزوال الخطر. وفي غضون ذلك يتم انتشالنا من الماء حيث يكون النوخذا وزملاء الغوص في انتظارنا لمعرفة ماهية الخطر الذي واجهنا بأعماق البحر. وبالنسبة للحصول على الطعام ومعالجة الحالات المرضية والتعامل مع الوفيات يوضح الوالد ابراهيم كروع بأن مثل هذه الامور تقابل بالنحو التالي: يتولى النوخذا وهو قائد المهمة البحرية مهمة التصدي للموقف حيث يقوم برفع قطعة قماش سوداء اللون الى سارية المحمل (الدقل) وحين يرى التشالة وهي المراكب التي تقوم بمهمة تقديم خدمات لمحامل الغوص مقابل مبالغ محددة قطعة القماش فهي تعلم ان اصحابها في حاجة للخدمات. فإذا كان الامر يتعلق بالاكل والشرب فإن التشالة توفره في الحال وليس بالضرورة دفع الحساب حالا بل يؤجل الى حين العودة الى البر. وأيضا من مهام التشالة نقل مرضى الغوص الى البر وتسليمهم الى ذويهم ليتولوا امر علاجهم. وأما من يتوفاهم الله فيتم تشييعهم وفقا لتعاليم ديننا الحنيف وبعد الصلاة عليهم تلقى جثثهم في قاع البحر. وطبقا لما قاله الوالد ابراهيم كروع فإن العمل على ظهر المحمل يسير وفقا لبرامج محددة يعرف كل عضو في فريق الغوص دوره فيها فيما يكون النوخذا هو المايسترو الذي يضبط ايقاع عمل الغوص. وقال باختصار حين تجلس على ظهر المحمل لتتابع كيف يؤدي اعضاء فريق الغوص اعمالهم تساورك الشكوك بأنك امام خلية نحل حقيقية فمنذ ساعات الصباح يتحرك الناس كبارا وصغار في كل اتجاه لينفذوا المهام المسندة اليهم بنشاط وافر لا يهدأ الا مع ساعات القيلولة ثم قبل مغيب الشمس. وبعد مرور 15 عاما قضاها الوالد ابراهيم كروع يصارع امواج البحر قرر الابتعاد عن المهمة والسفر الى الكويت ولكن ليس بقصد العمل كما هي الحال بالنسبة لابناء رأس الخيمة وإنما لزيارة خالته المقيمة هناك. وذكر انه لم يكتف بزيارة واحدة بل صار يتردد على الكويت بين الفينة والاخرى حتى تحول الى ساعي بريد ينقل الرسائل والامانات الاخرى بين ابناء رأس الخيمة وأسرهم. وقال كم كان الناس هنا في رأس الخيمة او الكويت ينتظرون وصولي فمثلا عندما تطأ قدماي ارض رأس الخيمة افاجأ بالرجال والنساء والاطفال في انتظاري.. الكل يريد معرفة الاخبار واكثرهم يسأل عن الرسائل وعن المصروف). وبالنسبة لي فقد كنت اشعر بعظمة المهمة التي اقوم بها والتي ارى بأنها تحولت الآن الى الهاتف والفاكس وأن هذه الاجهزة لم تستطع حمل الهدايا العينية. على اية حال كنت اشعر بعظم المسئولية الملقاة على عاتقي آنذاك والتي تدفعني لعدم التخلي عن مهنة ساعي البريد بالرغم من قساوتها. ويرى الوالد ابراهيم كروع ان المسيرة الاتحادية المباركة انقذت ابناء الامارات من حياة ذاقوا فيها الامرين. وقال يجب ان يعرف جيل اليوم الماضي بحذافيره لكي يحفظوا لدولتهم وقادتها جميل صنيعهم المتمثل في الانتقال بالمجتمع الى الرفاهية والحياة العصرية الراقية.

Email