قصة الاسبوع: ملح رصاصة وبرتقالة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بيان 2: يجب أن يكتب الوصيّة. أوشك كلّ شيء على النّهاية. لم تفلح كلمات الطبيب المطمئنة والتي شعر بها مشفقة, معزية, الا ان تزيد من يقينه بقرب المعاد ودنو الاجل. علم ان الامر لن يطول كثيرا, بعد ان ظل الموت يمهله يوما بعد يوم, وشهرا بعد شهر, وسنة وراء سنة. كتب لابنه منذ سنتين (لم تعد حياتي الا سلسلة من المواعيد المؤجلة مع الموت). حدثه عن فحص الاشعة الذي بدت فيه قصبات رئتيه ذبلى, كسلى, متساقطة كأغصان شجرة ميتة: وقال له (المسألة مسألة وقت. القلب بدأ, هو أيضا, يتعب). سعال متواصل وحركة مقيدة وفوق كل ذلك, البقاء جالسا طول الوقت وعدم التمكن من الاستلقاء والتمدد حتى للنوم... (متى ارتاح قليلا؟)... موعد الراحة قد قرب, ولكنه مشوب بشعور من الخوف. خوف شبيه جدا بذلك الذي انتابه حين اطلقت الباخرة صفارة الوصول الى بلاد الغربة التي هاجر اليها فقيرا معدما ولكن شابا قويا. السفر هو الموت قليلا (اين سمع هذه العبارة الصادقة؟)... كم سنة, بل كم عقداً مر الان على ذلك السفر الموت... لكأنه كان مع ذلك البارحة... ما اقصر الحياة وما أطولها. ما الذي دفع به الى الرجوع؟ الجنون بالتأكيد حسب رأي زوجته (كان بالإمكان ان نعود الى بلادك, قبل ان نبلغ هذه السن, ولكن الان؟).. لم تستسلم حتى حين صمم على الرجوع وحيدا (أموت وحيدة هنا أفضل عندي من ان نموت وحيدين متشردين هناك... تركت أهلك منذ زمن... ولن تجد في انتظارك الان الا الطيور الحائمة على الجيف). ماتت وحيدة. كما توقعت (لم يكن ابننا بجوارها وهي على فراش الموت... كان في بلدة اخرى يراقب اعماله. ولكنه الان معي, ينتظر متى انهى مسألة التركة. أقرأ في عينيه, بعض المرات, كأنه يقول لي: انهِ هذا الامر ودعني ارجع. بعدها, يمكن ان تأخذ وقتك كله في إظهار قدرتك الفائقة على الاستمرار في الحياة). وافق ابنه, بعد تردد, ان يوصله الى البيت الريفي, واشترى له تبغ غليون, وعاد الى المدينة. اما هو فأخرج غليونه القديم, وجلس في الشرفة يدخن (تجاوزت مرحلة الحذر, وسيهدأ مفعول الدخان بعد نوبات من السعال...). كم سنة مرت منذ ان اقلع عن التدخين؟... لا يذكر. كثير على كل حال. دخل المكتب وأحضر اوراق رسائل قديمة, وقلم حبر عتيق... بداله انه لن يقدر على كتابة شيء من الوصية ما لم يسترجع ذكرياته بهدوء, وهو يدخن غليونه. سيضع اذن رجله الاولى داخل القبر. هذا هو معنى كتابة الوصية عنده. وسيقر بانتهاء دوره, وتنحيه عن حياة الناس... (لا! لا! الوصية هي حياتي الباقية... ستساعد على استمرار القيم التي آمنت بها). تساءل ان كان ذلك حقا؟ هل استقر فعلا على قيم وآراء واضحة (نعم! الان وقد أشرفت على العالم الاخر, استقرت آرائي... عفوا, الان وجب, حتى وان ظل الشك يساورني ان تستقر ارائي على قيم واضحة). ارتخى وأسند ظهره الى الخلف في وضعية (نصف الجلوس) التي نصحه بها الأطباء, وراح يستعيد ذكرياته, مغمضا عينيه... شعر براحة ولذة سرقة لحظات سعادة من الماضي... سعادة حلوة في بعض الأحيان, ومرة ايضا احيانا اخرى, مثل سعادة طفولته. حين يتذكر طفولته, يجد دائما في فمه مذاقا من المرارة المبهمة, لم يعش يتمه كحالة نفسية درامية واضحة. كان اليتم بالنسبة له تجربة (اذ استقر الان في ذهنه ان الحياة ليست الا مجموعة تجارب) المٍ خاص, الم اخرس, هادىء, لا يمكن تحديده او وصفه... مع ذلك, يعتقد انه عاش شكلا من أشكال السعادة شبيها جدا بسعادة طفل امتلك فجأة برتقالة. قفزت صورة العجوز ثقيلة السمع, يامنة, الى ذاكرته, كانت في تقديره تتجاوز المئة, تجلس الى الشمس, ساهية عما حولها في اغلب الاحيان, ولحوحة في الأسئلة والاستفسار, دون ان تسمع الاجوبة, احيانا اخرى. دخل بيتها ليبيع بعض مشغولات امه, وتحلقت حوله النسوة, وراحت العجوز خلفهن تصر على معرفة هذا الذي دعته مثلما. تدعو غيره من الأطفال (الولد الذي دخل البيت). صرخت النسوة مرة ومرتين وثلاث في اذنها بأعلى اصواتهن: يتيم بني فلان! يتيم بني فلان!, ولكنها لم تفهم منهن في الاخير, الا كلمة واحدة: يتيم!... وحين فهمت ابتسمت... واخرجت له من عبها برتقالة دافئة, كانت بالتأكيد, في تلك الايام العصيبة, نصيبها الاسبوعي أو الشهري من الفاكهة... حينها عرف سعادة الطفل الذي حصل على برتقالة... تلك السعادة التي عرفها أيضاً طفل مثله, اسمه غوركي, والتي رواها بعد ذلك, في احدى رواياته. كان يشعر بالفخر حين يذكر ان التشابه بينهما لم يقتصر على هذا الاحساس المشترك, بل تعداه إلى التحدي الذي شكله تعلم القراءة والكتابة في صباهما... اخذ نفس رضا عميقا وكتب (ان الاقدار لا تعرف العبث. ربما تكمن السعادة في اشياء معينة وربما لا. ولكن من المؤكد انها تكمن في برتقالة يحتفظ بها طفل يوما كاملا ويقوم بطقوس تقشيرها ليلا ويأكلها ببطء, قطعة قطعة, ثم يحتفظ برائحتها في فمه ويديه.... كتب (اوصي بمبلغ كذا, لشراء مزرعة برتقال, يصرف نصف محصولها على العاملين بها, ونصفه الآخر على اعطاء برتقالة لكل يتيم. ضحك سعيداً... كم اطفالا مثل غوركي ومثله (لم لا؟ فهو ايضا نجح في حياته... ماديا على الاقل) ستفتق اذهانهم حبات البرتقال؟ انقلبت شفته إلى اسفل محولة سعادته إلى اسف. تصور شخصا يتساءل متحسرا, ان كان ما يحتاجه الايتام حقا... برتقالات... اراد ان يمزق الورقة, فسمع خطوات تقترب, ثم رأى ابنه واقفا امامه قال وهو يسحب منه الورقة بلطف وحزم (لم اطمئن لتركك وحدك.... عدت لِ.. قاطعة (انا كما ترى بخير). قرأ ابنه الورقة (اما زلت تكتب مثل هذا الكلام؟) ودس الورقة في جيبه. نظر إلى ابنه نظرة استنكار لكنها لم تؤثر فيه واستأذن بعد ان اطمأن (حسب قوله) وخرج. تعود, دون ان ينقم, على هذا الجفاء منذ زمن بعيد, وكان يشعر, مرات انه هو سببه, ولو جزئيا, بينما يشعر مرات اخرى ان الاقدار وحدها هي التي خطفته منه وبنت الحاجز الفاصل بينهما: امه المعارضة نطرق تربيته التي جاء بها من مناطق التخلف, ثم المدرسة, والاصدقاء, والمجتمع كله.... وظل هو في الجهة المقابلة... وحيدا, منفصلا, بل مفصولا عن ابنه, عن الحميمية, وعن (التواطؤ الخفي) الذي كان من المفروض ان يربطهما... تماما مثل تلك العلاقة التي كانت تربطه, صغيراً بأمه... ما ادفأ تلك العلاقة وامتنها, حتى لكلأنهما شخص واحد ينبض بقلب واحد... مع ذلك, بقي سؤال واحد ودّ لو تشجع يوما وسألها اياه, ولكنه لم يفعل (لماذا لم تتزوجي ثانية؟). كان يعرف الجواب! جواب يملأ قلبه حبا ويغمر نفسه اعتزازا وشعورا بــ (المركزية) و(الاهمية): لم تتزوج لأنها تحبه, اهم عندها من الزواج ومن اي رجل في العالم. ولكنه كان عاتبا عليها ايضا, فقد جعلت منه (ابن ارملة): تلك الشتيمة, وذلك الوضع الاجتماعي الضعيف. لحظة اخرى من لحظات السعادة المسروقة من الماضي لا يعرفها كثير من الناس. اشفق, في قراره نفسه على كل من يتحسر على عجوز لم يبق له حسب ظنه, الا استعادة ذكرياته. هل كان عاتبا على امه حقا؟ عاتبا على القدر الذي جعل من الضعف نقطة انطلاقته الاولى؟ لا احد في الحي, استطاع ان يبلغ من النجاح ما بلغه... احيانا يشعر انه مدين بنجاحه لكل من ظلمه يوما أو عيره وهو مستضعف له. واثق ان لا احد سينصره. رن جرس الهاتف... رفع السماعة (نعم... المحامي معك... اعتقد ان الوقت الذي امضيناه صباح اليوم في المكتب لم يكن كافيا لافهم عنك جيدا... انا اسف جدا, ولكن الاوراق التي تركتها عندي مختلفة تماما عما فهمته عنك... كما تشاء. هنا في المكتب, أو عندك في البيت؟... حاضر). كان يأخذ بعض مشغولات امه يطوف بها على البيوت, أو يتجول بها في الأسواق او الطرقات حيث تحتدم المنافسة على الاماكن والزبائن, وتعلو الاصوات وترتفع لتصل في بعض الاحيان إلى الكلمات وافساد البضاعة. تحسس مؤخرة رأسه ليتأكد من بقاء اثر شجة تلقاها من (الناس), هكذا ينادونه, كان شديد القسوة, لا يحتمل رؤية بائع متجول واحد يزاحمه... (طر من قدامي!). يصرخ بها اولا ثم يرفقها بصفعات مجنونة, ان لم (يطر الشخص من قدامه) في الحال... حين عرف بعد ذلك, كم كان (الناس) ذلك الانسان القاسي, تعيساً... فهمه, لان حمم القسوة كانت تنصهر في قلبه الصغير هو ايضا وتوشك في كل لحظة ان تنفجر. رن جرس التلفون من جديد... المحامي مرة اخرى (ارجوك ان تجهز لي أوراق الملكية. زوجتك تدعي انك كنت دائما تستعمل العنف معها لتنتزع منها ممتلكاتها) وعد المحامي انه سيفعل, وكتب (خصصت مبلغ كذا للباعة المتجولين القساة التعساء, على ان يستمروا في مضايقة الباعة الصغار كي يقوى عودهم). اضاءت, لحظة واحدة, في قلبه شمعة سعيدة, ثم انطفأت مثلما ينطفىء وهم اغلب اولئك الباعة في ان ينتشلهم تجوالهم من (التعاسة). مزق الورقة وضحك مرة اخرى لأنه قرر ان يقسو هو ايضا على الباعة تلك القسوة المفيدة, التي تفضل بكثير... الطيبة القاسية. كذا كان السيد... (نسى اسمه, لايهم) ودودا, خدوما... في بدايته, لكم اعجب بشهامته وهو يدافع عنه, وبجسمه القوي ايضا الذي تمنى ان يكون له جسم مثله. نمت علاقتهما وتطورت إلى شبه صداقة غريبة ــ طفل وشاب ــ بيد أن نظرات الناس كانت جارحة أكثر منها مستغربة, لم يفهم في البداية, ولكن عندما شتمه احد الاطفال المتسكعين وعيره بعلاقة آثمة مفترضة بين امه والسيد.., فهم. غضب جداً ولكنه تعلم الحذر منذ ذلك الحين... كان واثقا من كذب الاتهام, فالسيد... لا يعرف عنه وعن عائلته اي شيء تقريبا, عدا كونه بائعا متجولاً صغيرا. لم تكف السنة الاطفال المتسكعين مع ذلك, لانهم يعرفون السيد... جيداً, ولم يخطئوا. لم تكن خدماته وطيبته الا لانه... انفلت منه, واكتشف وجها للحياة آخر, لم يكن يعرفه... وعرف كيف يمكنه ان يحتقر النفوس الدنية مهما بلغت قوتها. كتب (اوصي بمبلغ كذا لاطفال الشوارع المتسكعين حماة الاخلاق والقيم) رن جرس التلفون... المحامي (عذرا, ولكن ينبغي ان انبهك ان تستعد لاسئلة ستجبرني ربما على التخلي عن قضيتك... فالسيدة زوجتك تدعي اشياء خطيرة. تقول انك انت الذي كنت تدير الملهى, وانها لم تعلم بذلك الا من الشرطة... بعض الشهود يؤكدون انك كنت على علم بكل ما يجري فيه. وربما تشرف عليه أيضاً. اعاد قراءة ما كتب: اطفال الشوارع المتسكعين, حماة القيم والاخلاق... ضحك وهو يتصور الذين سيتهمونه صارخين, صابين عليه جام غضبهم بالافساد ونشر الرذيلة... مزق الورقة. نظر إلى الورقات الممزقة امامه... هكذا منذ صغره. يكتب اشياء ثم يمزقها. عصامي, قرأ كثيرا واحس دائما انه يمكن ان يكتب اشياء جميلة, وكان يجرب, بعدها, ولانه لايجد احدا يعرضها عليه, فقد كان يقرؤها هو ويعيد قراءتها المرة تلو الأخرى مكتشفا في كل قراءة عيبا جديدا, إلى ان يراها آخر المطاف سفيهة سطحية, فيمزقها. وحدها زوجته الأولى آمنت بموهبته فترة وحاولت الاحتفاظ بأوراقه ثم هالها شذوذ افكاره, فنفضتها بعيدا (لا اعرف شخصا يمكن ان يدافع عن الشيطان غيرك!) استعاذ بالله من الشيطان الرجيم امامها.. (كيف تدافع اذن عما اسميته (الشر الضروري)؟ ما معنى ان تكتب لولا السرقة ما عرف الانسان معنى التملك؟ لولا الخيانة ما عرف الانسان معنى الاسرة؟ وغيرها من الافكار الشيطانية؟ رن جرس الهاتف مرة اخرى (ابي!, انا هنا في عيادة الطبيب النفسي... هو صديقي وقد حدثته عنك منذ زمن... فكرت انه يمكن ان يساعدك على تحمل المرض... كأنني لاحظت فيك بعض الاستسلام... سنحضر بعد قليل. الكاذب!, ما الذي يريد ان يفعله من وراء ظهري ويحتاج فيه إلى تقرير الطبيب النفسي؟ شر بكل تأكيد... اذن لادعه يفعل... لأساعده... لأباركه!. باركه كما كانت امه تباركه كل صباح, وهي تحمله مشغولاتها ليطوف بها على البيوت والشوارع والاسواق (ياربي, بارك لي في وليدي!) وتساءل لماذا لم تقفز امه إلى واجهة ذكرياته الآن... الآن وهو يعيد ترتيب افكاره... أليست هي الخلفية الشارحة لها (كان من المفروض ان تتزوج... المفروض ان تقدم على ذلك الامر الذي حسبته شرا... قال لي احد الحائمين على الجثث, انت الذي عرفت معنى تعب الارامل وشقائهن من اجل اولادهن, لماذا لا توصي لهن ببعض تركتك؟) بدا له السؤال ــ الطلب ساذجا, غبيا غباء الناس الذين يعتقدون انهم يعرفون ما يجب ان يكون وما لا يكون (تريدني ان اكرس هذه الظاهرة؟ على كل ارملة ان تعيد الزواج!) ضحك (بعد قليل, سيجتمع عندي الابن, والمحامي المالي الجنائي والطبيب... بعد قليل ستقابلني المؤسسات الاجتماعية السوية, الــ (ما يجب ان يكون), الــ (لائق). كتب (حين سئل الاسكندر الاكبر, أو ربما شخص آخر, قد يكون جنكيز خان, لا يهم.. (لمن, من اولادك تترك الملك؟ اجاب للاقوى.. وتفننت مملكته من بعده... الحياة وحدها هي التي تطهو الاحداث. والانسان, الذي ليس الا ذرة في مهب الريح, ليس له في احسن الاحوال الا حبة الملح. يخطىء من يريد ان يطهو الاحداث كلها بيديه!... كان يكفي الاسكندر او غيره, حبة الملح... مسابقة بين ابنائه مثلا... او قانون.. ولكنه. اخذته نوبة من السعال المتواصل, انهكته ولكنه فكر انه سيجد بعض الراحة بعدها... هكذا تعود ان يتعامل مع المرض من صغره. انتظار للراحة بعد العناء والالم. ولكن الامر طال هذه المرة. اشهر طويلة من الانتظار المتعب, والممل ايضا... حين يقرأ القلق بل الذعر في عيني امه كلما ألمت به نوبة من مرضه العضال, كان هو الذي يواسيها (اعرف نفسي... اعرف نفسي... سيزول الالم بعد قليل... لحظات واكون بخير... لم يعرف ابدا ان كانت تصدقه ام لا حتى حين ينهض وقد تعافى ويأكل امامها بشراهة كدليل على شفائه. كانت تقول له: (عندك قدرة خارقة على تهوين الاشياء الضخمة, وتضخيم الاشياء الصغيرة...) اعتدل في جلسته وهو يدرك ان هذا الكلام يحمل نفس معنى كلمات قالتها له شاعرة أهدته مجموعة لها... اتصل بها (اعجبتني جدا هذه الابيات: وشردت إلى اذني لأنصت كلي للضوضاء المختبئة في اشجار الوهم المتحركة بريح الصمت. وكتبت إلى جوارها جملة سأحفظها كأحذ احسن الأمثال: اشجار الوهم تتحرك دائما بريح الصمت). قالت (هذه الابيات فقط؟ من المجموعة الشعرية كلها؟) اراد ان يجيبها انها حبة ملح... ولكن لم يكن لديه الوقت الكافي ليشرح... (الوقت دائما غير كاف لشرح الحياة, حتى وان تلخصت في جملة او عبارة واحدة). تمتم (حبة ملح فقط...)... تذكر فجأة عبارة اخرى (رصاصة في حفل موسيقي) لا يعرف اين قرأها.. لماذا خطرت بباله. شعر بذعر كبير.. لاحقته صورة حفل موسيقي يستغرق ساعتين أو ثلاث ساعات طوال, وكيف ان صوت رصاصة واحدة لا يدوم اكثر من جزء من الثانية يطغى على الحفل كله ويكسره كما تكسر حجارة صغيرة مرآة مصقولة جميلة... تصبب عرقا, وراح يلغي الفكرة من رأسه وهو يكرر: حبة ملح... حبة ملح فقط. غير مجرى تفكيره (هكذا اذن, ذهبت الأرملة زوجتي إلى الشرطة تشتكيني مع كل الاحسان الذي وجدته مني. الغريب انها لم تذكر ابنها, ام ان المحامي هو الذي لم ير داعيا لذكره!... وجدتها ارملة: وكنت ارملا انا ايضا. كان ينبغي ان تتزوج, وبأية طريقة. حتى وإن لم تعجبها... من اجل ابنها. رن جرس الهاتف... ربيبة, ابن زوجته (اتصلت بي امي كي اكون شاهدا, قالت لي انه ينبغي ان اقص ما عانيت من قسوتك... كنت سأفعل... ولكنني فكرت انك تعاني الآن اكثر الف مرة من اي عقاب يمكن ان يسلط عليك... وهذا يكفيني... اما هي, فلن تحصل مني على هذه الخدمة... فلتذهبا كلاكما إلى الجحيم) وضع السماعة, دون ان ينتظر الجواب... جواب جاهز منذ سنوات (ايها الجبان, هاجر فقيرا معدما, وستذكر بعد سنين انني خدمتك). قام من جلسته ومال إلى الامام مستندا إلى سور الشرفة بيديه... هل بقيت لديه القوة الكافية لمواجهة المحامي والطبيب, وابنه؟ جرب صوته... تكلم ثم رفع صوته قليلا, ثم صرخ, قد يحتاج إلى الصراخ... مازال صوته الجهوري الرجولي, الذي يثير, على الرغم من مرضه, الرعب في زوجته, يحتفظ بقوته.. عرف من أول يوم رآها فيه انها ستخافه. لمجرد انه رجل... كانت انثى قانعة بدورها, ومقتنعة ايضا بأن الرجل هو الذي يحميها والذي يحق له ان يرعبها, حتى ولو كانت, في الحقيقة, هي الحامية له... عرف ايضا بعد ذلك ان زوجها الأول كان شديد القسوة معها... خفف هو منها (القسوة) إلى تلك الدرجة المفيدة التي تحفظ له في عينها مكان (الرجل) والتي تردع ابنها الخائف أيضاً, عن التنعم الكاذب وبعثرة الاموال. سمع خطوات, ثم نداء (ابي!, جاء الطبيب النفسي معي)... فكر (هكذا احسن! ان يحضروا تباعا غير من ان ينزلوا علي جملة واحدة). جلس الطبيب قبالته, واستأذن الابن ليحضر لهما شرابا (حجة كي يغادر)... اخرج الطبيب الورقة التي اخذها منه ابنه واعاد قراءة ما فيها (ان الاقدار لا تعرف العبث, ربما تكمن السعادة في اشياء معينة وربما لا, لكن المؤكد انها تكمن في برتقالة). قال أليس هذا كل ما لدي. لدي اوراق اخرى نظر اليها. قصاصات كان يعتقد انه رمى بها في سلة المهملات. راح الطبيب يقرأ (ما هو الشر أساسا؟ وما اصله؟ ولماذا صنف شرا؟ وما تأثيره؟ ان كان الشر هو ما ينتج عنه الخراب, فإن كثيرا مما ندعوه شرا مفيد... السر يكمن في معرفة التحكم في المقدار الذي يحفظه داخل دائرة المفيد... السر يكمن في حبة الملح شعر بوجوب ايقاف الطبيب والمبادرة بالهجوم (ارى امامك قصاصات كثيرة... بأي عين قرأتها؟ بأية فكرة مسبقة؟ قرأت مرة عن الاطباء النفسيين شيئا لا يزال إلى الآن عالقاً بذهني.. يقال انهم ينقسمون إلى صنفين: الباحثون عن ذرة الجنون في عقول الاسوياء, والباحثون عن ذرة العقل في تفكير المجانين... من اي الصنفين انت ايها الطبيب؟ لاحظ انهما يشتركان في البحث عن ذرة...) نظر اليه الطبيب مبتسما (تلك البسمة انها ودودة بينما ليست الا مزيجا من التعالي والشفقة) وقال (كل مافي الأمر انني حاولت ان اقرأ في ورقاتك ما يدل على التعب الذي جعلك تستسلم للمرض.. ارى الغليون امامك؟.. اتعرف ماذا فعلت؟ حاولت ان اربط بين مرضك وبين الشر, كما تراه... اعترف لك انني تعبت كثيرا, وبحثت كثيرا, ولم ينقذني في الاخير الا جملة واحدة, وجدتها, كما هي, غير مشروحة, في احد الكتب.. قاطعتهما ضوضاء في الطابق السفلي, تعرف وسطها, على زوجته الارملة تصرخ (سأخنقه بيدي هاتين... بعد كل الاحسان الذي عاملته به!, بينما يحاول المحامي تهدئتها (ياسيدتي, اهدأي قليلا... هناك أمور غامضة. يجب ان نستجليها... ورافقهما الابن إلى الشرفة حيث دعوا كلهم إلى الجلوس لانه لم يعد هناك داع للاسرار... (يامؤسسات المجتمع... اذن تجمعتم كلكم.. وكنت افضل ان اراكم على انفراد, لكن يبدو ان الاحسن ان نجتمع كلنا... واصل ايها الطبيب حديثك, ماهي العبارة التي انقذتك؟ تردد الطبيب لحظة ثم قال الشر تحويل إلى الغير لانحطاط نحمله في ذاتنا توقف الطبيب وحاول الرد عليه (ولكنني لا ارى اية...) ولكن الطبيب قاطعه (قرأت الجملة بشكل مختلف, قلبتها رأسا على عقب, واصبحت عندي: المرض تحويل إلى الذات لانحطاط نراه من حولنا... قهقه عاليا وسأل المحامي ان كان قد فهم شيئا (لم اكن موجودا عند بداية حديثكم, ما يهمني, اذا سمح لي الطبيب ان اقاطعه, هو ان افهم سر الاموال التي اخذتها من زوجتك والملهى الليلي الذي تزلزل عجائبه امن الناس وقال الابن (ووالدتي التي تركتها تموت وهي في امس الحاجة اليك, رحلت وانت تعلم انها في مرحلة مرضها الاخيرة) ارتخى إلى الخلف وتنفس بعمق (أليس لأحدكم سؤال اخلاقي؟ وجودي؟) التفت إلى زوجته المتوترة القلقة, ونظر إلى اظفارها المغروسة بعصبية في المقعد فابتسم... (قرب الخلاص!) (لم يكن يا ارملتي العزيزة قد بقي عندك شيء تقريبا حين تزوجتك... كان ابنك البار قد بدد كل شيء, اوهمتك بلعبة شارك فيها انني اخذت منك اشياء, لم تعودي في الحقيقة تملكينها... انا احتفظ طبعا بكل الوثائق... ألم تتساءلي يوما عن قوتي الخارقة التي امتلكها, أنا المريض شبه المقعد, حتى يخاف مني ابنك كل ذلك الخوف؟... قسوت عليه اشد القسوة, ولكن الابله لم يفهم إلى الآن... اما انت, فقد حاولت ان اعاملك مثل ما احاول ان اعامل به نفسي, ومثلما عاملت به زوجتي الاولى: اذا لم يمكن للمريض ان يشفى, فيجب عليه ان يتنحى... نعم, كنت شريرا معكم, ولكن فقط بالقدر المفيد... لم اكن اذن شريرا, صمت ثم اكمل (ألم تسأموا من ضعفكم, كما انا سائم الآن من مرضي... اعد نفسي قد عملت ما كان يجب ان اعمله... شيء واحد زلزلتني به يامحامي العزيز توقف مجهدا, تعبا, يتصبب عرقا (المحل الذي اعطيته لابناء الشوارع المتسكعين, حماة الاخلاق والقيم!.. حولوه اذن إلى ملهى تحدث فيه العجائب!! ياه!, لماذا, لماذا؟ أيستحيل ان يكون الشر اذن حبة ملح؟... اسفي... اسفي توقف ثانية, بدا الجهد واضحا عليه, وأخذته نوبة طويلة من السعال زادته ارهاقا. قال له الطبيب (توقف عن تحويل انحطاط الغير إلى ذاتك... واصل قائلا, بصوت منهك (منذ الصغر, وانا اعتقد ان الانسان لا يمكنه ان يؤثر او يهتم. في النهاية, الا بالتفاصيل الصغيرة... حبة برتقال... أو حبة ملح... ربما اصبت في ان السعادة برتقالة... ولكنني بدأت اشك الان في حبة الملح... ربما ليست حبة الملح في النهاية الا طلقة رصاص وسط حفل موسيقى...). وقفت زوجته وصرخت (وتنتظر ان اصدقك... تتصنع الجنون... حبة ملح... برتقالة... رصاصة في الحفل... خذ هذه الرصاصة اذن... اخرجت مسدسا وصوبته نحوه... ترددت... نظر اليها يرجوها ان تطلق... هم الطبيب ان يجردها من سلاحها, ولكنه تراجع وجلس مثل غيره يراقب الامر ببرودة, فقد اختلط عليه كل شيء. تذكر قول المريض امامه (اذا لم يمكن للمريض ان يشفى, فعليه ان يتنحى. خطر له ان الحل في ان يستبدل كلمة (مريض) بكلمة (شر).. واعاد قراءتها من جديد (اذا لم يمكن للشر ان يشفى, فعليه ان يتنحى). احس في البداية انه فهم: ثم اختلطت عليه ذرة الجنون في بحر العقل, وذرة العقل في سماء الجنون... نظر إلى الافق... هناك حيث يمتزج البحر بالسماء ويأخذ كل واحد منهما لون الآخر. * قاص جزائري

Email