استراحة البيان ، حمار العقّاد ، يكتبها اليوم: سالم الزمر

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعلّ أكثر الناس يتوهمون خطأ ان السفر حالة طارئة وان الأصل في الحياة هو البقاء والاستقرار والاقامة الدائمة والحقيقة, ولو تأمل الخلق خلاف ذلك فالحياة كلها في عقيدتنا نحن المسلمين ما هي إلا حالة ارتحال لذلك سميت الآخرة دار القرار ودار المقامة والباقية والآخرة, وكل هذه أسماء لا يمكن أن تكون حقيقية لو لم يكن ما قبلها سفرا فالاقامة لا تكون إلا بعد سفر وارتحال. وذلك ما يدل عليه الحديث في الأثر الشريف إذ صور الدنيا فيما معناه بأن الإنسان فيها (كراكب استظل في ظل شجرة ثم ارتحل) فإذا كان المبدأ هكذا والأصل كذلك فلا عجب ولا مراء في ان الحياة أصلها سفر لا اقامة وان الاقامة هي الاستثناء فالسفر ليس حتما أن يكون له هذا المعنى القريب المعتاد الذي يحمل معنى تلك الرفاهية التي تشبه (أكل المثلجات في الصيف) لا يقدر على ثمنها من لا يجد في بيته خبزا أو يكاد, إنما السفر الذي أعنيه هو السفر بمعناه الأعم إنه السفر الدائم إنه تلك النقلات الحياتية التي لابد للإنسان منها فالإنسان منذ مولده مسافر وإنه مسافر عبر مراحل حياته منتقل من سن إلى أخرى من طفولة إلى صبا إلى شباب إلى كهولة فمشيب وهو مسافر من عقل طفولي إلى عقل مراهق إلى عقل شاب طامح إلى رزانة ونضج إلى عقل شيخ مجرب إلى عقل منكس في الخلق حتى لا يعلم من بعد علم شيئا. ولو حقق الإنسان في كل حياته لوجدها سفرا دائما: سفر من الجهل إلى العلم أو من العلم إلى الجهل سفر من العجز في الطفولة إلى القوة في الصبا والشباب ثم سفر من ذلك إلى عجز الشيب. والإنسان مسافر من الصحة إلى المرض أو ربما من المرض إلى العافية ومن الفقر إلى الغنى ومن الغنى إلى الفقر من أن يكون نكرة مجهولا إلى الشهرة والوجاهة وربما العكس وهكذا الدنيا تقلب وسفر دائم في كل شيء, لذلك حتى السفر بمفهومه الضيق البسيط ليس دائما هو السفر كما يفهمه بعض المرفهين والأغنياء أو أدعياء الغنى ممن يشكل بالنسبة لهم السفر فاكهة الصيف وجمر الشتاء. فالسفر لو شئت أن تقرأ حقيقته ومعانيه الأخر فاقرأ في وجوه أولئك العمال المغتربين الذين تمر بك الشاحنات وهي تحملهم في الطرقات ذهابا وإيابا في تلك الوجوه المجهدة التي تكالب عليها الزمان فسامها خسف البعد عن البلاد والأوطان وخسف السخرة في غير أوطانهم وخسف الحاجة وخسف استغلال أرباب الأعمال وخسف سوء المعيشة وخسف الجوع والحر والبرد والمرض والوحدة في الغربة. ولو شئت أن تقرأ معنى آخر للسفر فاقرأه في وجه مسافر أمعن السفر والترحال لا وراء متعة المتسكعين في (كافيهات باريس) وشوارع لندن (وبحيرات أوروبا) وأسواق الهند, بل اقرأ معنى آخر للسفر في وجه داعية مسلم حق أطيب عربي خليجي مسلم أخذ العهد على نفسه باعانة اخوته المسلمين في القارة السوداء افريقيا فركب للوصول إليهم مسافرا كل وسائل المواصلات من طائرة وسيارة وحيوان ثم لما لم يعد لكل ذلك مسلك إليهم ترجل فوطيء الشوك وخاض الأوحال وتلطخ بالطين وشرب ماء المستنقعات حتى إذا وصل إليهم وجد مسلمين لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه فهم وبعد أن طالتهم يد التنصير صاروا بجهل وفقر واستغلال لحاجتهم يفخرون بأنهم مسلمون بروتستانت وتلك من غرائب الأسفار التي يرويها الدكتور الكويتي المسافر كثيرا من أجل المسلمين في افريقيا الدكتور عبدالرحمن السميط رئيس جمعية مسلمي افريقيا. وإن شئت أن تقرأ معنى آخر للسفر فإنك لن تعدم أن تقرأ أقدم مرجع عربي في تاريخ الأسفار الإنسانية ذلك في كتاب ابن بطوطة الشهير الذي وضع لبنة أولى وخطا خطوة أولى من خطوات أدب الرحلات العربي الذي إن جاز لنا أن نستنطقه استنطاقا آخر لقلنا انه يقول من طرف خفي أيها العرب إن للسفر معنى آخر أدركناه حين كان عند العرب للمعرفة والبحث قيمة إنها القيمة التي بات يعرفها الأوروبيون المسيحيون ويجهلها العرب والمسلمون أو يتجاهلونها وما تلك القيمة إلا قراءة وجه تلك البلاد التي يسافر إليها المسافر ويحط فيها رحاله. وإلا كان المسافر منافسا خطيرا لحمار الكاتب العربي الكبير العقاد الذي سيأتي ذكره في الخاتمة. والمؤسف المحزن ان كثيرا من مسافري الصيف العرب الذين لست تراهم إلا في حديقة الهايد بارك اللندنية رائحين غادين على غير هدى حتى إذا أدلج الليل بدأ السهر في أحد الملاهي اللندنية حتى إذا انبلج النهار ذهب كل إلى مخدعه ونام حتى المساء وفي المساء قبل الغلس تراهم كرة أخرى غادين رائحين في الهايد بارك يعيدون الكرة ذاتها حتى إذا شكت الجيوب من نفاد المال عاد كل أدراجه إلى بلده يسدد ديونه ويداوي جراح خسائره إلا من كان منهم مليئا لا تهمه الخسائر المادية, هذا مع التسليم بكل الاحترام لتلك القلة القليلة منهم التي تذهب لتقرأ وجوه المدن قراءة مفيدة. أما حكاية حمار العقاد فقد أوردها في كتابه الشائق ساعات بين الكتب في مقالته (أرباب مهجورة) التي تناول فيها موضوعا طريفا وهو تلك التماثيل المنحوتة لتكون (أربابا تعبد) فهجرت ونسيت ولم تعد لها تلك القيمة العقائدية التي صنعت من أجلها, وفي تلك المقالة يذكر العقاد ذلك الحمار الذي وقف به عند المسلة الكبرى لا لشيء إلا لانه تعود الوقوف على الآثار والابطاء على معالم القفار ثم قال وأويت إلى كنف الجبل توقرني الذكرى الحافلة بالعبر وأنشد بيني وبين نفسي: طَهُرَت بماء سمائها أمم وبه تُطهِّرُ روحها الهندُّ والروح أولى أن يطهرها نور يحفُّ بها ويمتدُّ فيض يشف فما به كدر ومدى يفيض فما له حَدّ ثم قال وجلست ما بدا لي أن أجلس ثم نهضت إلى الحمار وهو مطرق (يفكر) فلعله يسأل نفسه: ما لهؤلاء الناس ولهذه البقعة لا يفتأون يأتون إليها من حين إلى حين ماذا يشوقهم منها ولا علف فيها ولا خضرة ولا ماء؟ ثم قال العقاد (فإن لم يكن هذا سؤاله فهو أعلم من أناس يسألون هذا السؤال ولا يعثرون له على جواب) ولقد صدق العقاد فإن من بيننا أناس إذا سافروا كان سؤالهم مثل سؤال حمار العقاد إذا رأوا غيرهم يزورون المتاحف ومواقع الآثار.

Email