الباكت في عمان والشويبة في خور فكان

ت + ت - الحجم الطبيعي

في عدد سابق من ملحق (البيان الثقافي) 25 يونيو 2000 ثمة مادة عن فن (الباكت) والمعروف كأحد الفنون الشعبية الملفتة حقاً والمميزة في سياق الموسيقى الشعبية ذات الغنى والثراء الحقيقي في بلد كعمان. ولقد سمعت عن هذا الفن منذ زمن طويل. وللأسف لم اشاهد إلى اليوم عرضاً حيا, ولا تسجيلاً له ولكم اود مع قناعتي بأنني متى ما رغبت فعلاً بذلك, فإنه في عمان مشروع أسس منذ سنين عدة, وسجل ووثق البنية الاساسية للموسيقى التقليدية, ورغم ان مثل هذه المشاريع لا تكتمل ابداً, الا انه ونظراً للجهد الذي بذله العمانيون على هذا الصعيد بامكان كل باحث الاطلاع على خريطة الموسيقى التقليدية في عمان ودراستها والغرف من ملامحها الخاصة. من جانب آخر سمعت عن فن يبدو انه كان سائداً في المنطقة الشرقية من الإمارات (خور فكان وما حولها) ويسمى (الشويبه) , وهذا الفن كما سمعت يبدو قريباً من (الباكت) , فهو (المادة المقتبسة بين قوسين من مقال) (البيان) السابق الذكر يمثل صراعاً (بين الخير والشر) , كما ويمثل (قصة هزلية مضحكة) تجسد ذلك الصراع. والسامرون في فن (الباكت) كما (الشويبة) يكونون وهم جلوس على الأرض دائرة يتصدرها (الابو) وحينما يبدأ هذا الأخير بالغناء (يرافقه الحضور بالتصفيق وعندما يبدأ الغناء بالتصاعد يبدأ الممثلون بالدخول إلى وسط الدائرة وهم يتقمصون اشكال بعض الحيوانات كالنمر مثلاً أو الغراب, كما ويتقمصون شخصيات بشرية كالأحدب العجوز) . كل هذه الاقنعة تتحرك مع (شلات الغناء) وتصاعد ايقاع الطبول لتنتهي الفقرة الأولى بانتصار الخير على الشر. أما في الفقرة التالية وبعد استراحة قصيرة تستخدم دمى تمثل رجل وامرأة ويتناول الحوار (قصة اجتماعية هزلية) وتسبق هاتين الفقرتين في الباكت فترة استعداد تسمى بـ (السيروان) وهو بداية السمر حيث يقف السامرون في دائرة يجلس في وسطها اثنان من ضاربي آلات الايقاع) ويبدآ (بشل الابو) لتنطلق بذلك دورة من الغناء والرقص. (الباكت) كما (الشويبة) على الاغلب يعودان إلى طقس لعله على قرب من طقوس اعياد (النيروز) , ولقد دخلت مثل هذه الطقوس الى مناطق عدة من (سلطنة عمان) و(ساحل عمان) , خاصة الباطنة و(الشميلية) التسمية القديمة للمنطقة الممتدة من كلبا وحتى دبا. وهذه الفنون تجذرت في هذه المنطقة المعروفة باستقرارها النسبي, حيث الاغلب من سكانها في الماضي يعيشون على الفلاحة أو (البيدرة) . وإلى وقت قريب ـ وكما سمعت أيضاً ـ كان فن (الشويبة) يقدم في خور فكان, وكانت تقدمه فرق (الهبّان) وغالباً ما كان هؤلاء يدعون الى تقديم (الشويبة) في الفقرات الاخيرة من برنامج العرس التقليدي لأحد الاعيان اذ ان (الشويبة) تحتاج إلى استعداد للاكسسوارات والاقنعة والدمى و(المكياج) (هنا ـ المكياج ـ بمعناه السطحي جدا: بعض الصبغ والكحل والنيل... الخ) لذلك فان الفرقة تطلب مبلغاً اكبر لتقديم (الشويبة) في عرس اكثر مما تطلبه لتقديم حلقة من (الهبان) مثلاً. ومن كبار الفنانين في هذه الفرقة عازف الهبان العجيب (كدم) رحمه الله والذي لم يبق من رفاقه على قيد الحياة إلا قلة. واظن ان هؤلاء وعندما كانوا يعملون في الكويت قد سجلوا فن (الشويبة) لتلفزيونها, واتمنى ان يكون مثل هذا الشريط مازال محتفظا به في ارشيف ذلك التلفزيون. في اواخر الثمانينيات وبعد ان سمعت بفن (الشويبة) حاولت اقناع اجهزة اعلامية وثقافية هنا لتوثيقه وكل محاولاتي ذهبت سدى, فالفكرة غير مغرية, لان المؤسسة الثقافية تريد برنامجاً (استهلاكياً) بسيطاً تفعله اليوم وتنساه غداً, والاجهزة الاعلامية عندنا هي في حال يرثى له واقناعها ببرنامج ثقافي جاد هو ضرب من الجنون. لم يكن الامر يتطلب اكثر من خمسمائة درهم للفرقة, وفريق تلفزيوني صغير ومصور فوتوغرافي, الا ان مثل هذا يحتاج الى مؤسسة ومشروع معني فعلاً بتوثيق الموسيقى التقليدية كذلك المشروع الناجح الذي حدث في عمان. وحقيقة فان الحديث عن (التراث) والمحافظة عليه يملأ الصحف في الامارات الا انه ثرثرة وكلام فارغ اذ اننا الى اليوم لم ننشأ محلاً واحداً لجمع وتوثيق تراثنا (الشفاهي) بشكل علمي ومدروس. ان الغوص موجود هنا كما انه موجود في اليابان, والقفف من السعف او سباق الجمال متوفر وباشكال شتى في نواحٍ مختلفة من العالم. ليس ذلك هو التراث اذن, ان التراث هو تلك الثقافة (الشفاهية) التي اقامها سكان هذه المنطقة بشكل فريد مع الحياة (مصائرهم وآلامهم من جهة) ومع بيئتهم (صحاريهم وجبالهم وشواطيهم) وان هذه الثقافة تحتاج الى جمع وتوثيق من البدء ودراسة نقدية لاحقاً. وانه بينما تنفق ملايين النقود على (الكليشيهات) السائدة في الاعلام والسطحية الفجة تموت يوما بعد يوم المصادر الرئيسية لجمع هذه الثقافة. ان فن (الشويبة) مثلاً على ذلك. لقد مات الجيل الذي كان يقدمها كفن, والبقية الباقية في الطريق, وهي قد وصلت الى مرحلة قد لا تتذكر, او قد تضنيها الاستعدادات الخاصة التي قد يتطلبها هذا الفن. سينتهي فن (الشويبة) ان لم يكن انتهى فعلاً. لكن وهذه رسالة الى جمعية المسرحيين. انكم تحتاجون فعلاً الى فقرة من برنامجك الثقافي السنوي. وهنا اقترح هذه الفقرة: ـ العمل على توفير فريق توثيقي يعمل على توثيق ما تبقى من فن (الشويبة) ـ عقد ندوة مقارنة بين (الشويبة) و(الباكت) وقراءة المفردات الدرامية في هذين الفنيين. اعتقد ان مثل هذا النشاط غير مكلف ابداً وانه اضافة وحقيقة. ليس لانها ستوثق حالة فريدة من (التراث الشعبي) بل وستثير مزيداً من الاسئلة العميقة, وذلك ما يهم المسرحيين هنا, عن علاقة انسان المنطقة بالفرجة. انني لكي ادعي كل من هب ودب لالقاء محاضرة او اقامة ندوة كما تحاول جمعياتنا الموقرة (ذات النفع العام) ان تفعل لكي تضطهدنا لاحقا بأنها ذات نشاط. كل هذا لا معنى له وهباء. واعملوا على الاهم. اسألوا اسألتكم. وكونوا على جدية ومسئولية ولو لمرة واحدة. اقول هذا وانا لا اغفر لاحد على الاطلاق ممن حاولت معهم. لا اغفر لهم عدم الاستجابة لتوثيق فن كـ (الشويبة) ومن الجانب الآخر لن يغفر احد لابناء هذا الجيل كيف اضاعوا اموراً وجوانب ثمينة وعميقة ومهمة كانت الى جوارهم وحولهم وفي داخلهم وخاضوا المصاعب من اجل السطحي والرخيص والمستهلك. بقلم: احمد راشد ثاني

Email