عن قصة الكاتب حسيب كيالي مسلسل تلك الايام : تكامل النص والتمثيل والإخراج

ت + ت - الحجم الطبيعي

مسلسل (تلك الايام) , الذي انتجه التلفزيون السوري مؤخرا, شكل رافعة اخرى للدراما السورية, مؤكدا على جديتها الفنية, بعد كثير من الاعمال الهابطة, التي عزفت على وتر الفانتازيا. اخرج المسلسل رياض ديار بكرلي عن سيناريو وحوار للقاص خطيب بدلة, والعمل مأخوذ عن قصة للكاتب الساخر المرحوم حسيب كيالي. وكان المكان, كبيئة للاحداث, والزمن الذي يضيء حقبه مهمة في تاريخ المجتمع السوري والعربي عموما, هما ما ميزا العمل في تناوله لفترة الخمسينيات اثناء تشكل التيار الوطني والقومي على نحو فاعل في إعادة بناء المجتمع. ان الاشكاليات التي تعرض لها المسلسل توضح بشكل غير مباشر التطورات الكثيرة التي ألمت بالمجتمع العربي, كالانفتاح وتنامي التعليم وتراجع الكثير من العادات السيئة كالأخذ بالثأر, والاحتكام لنظام العشائر والزعامات الفردية. ومع هذا فإن قصة (تلك الايام) تحتمل الاسقاط على الواقع الراهن وبالأخص قضية التعاطي مع الشأن السياسي والتمثيل في المجلس النيابي وعملية الانتخابات. فطرح العديد من التساؤلات الملحة المتعلقة بالهم الوطني العام, وضرورة الحوار والتضامن لصالح القيم الانسانية الحضارية, بعيداً عن الانتماءات المختلفة السياسية والفكرية والعائلية, بهدف النهوض بالمجتمع ونبذ كل ما من شأنه إعاقة التطور العام. المكان, قرية بلد الزيتون التابعة لمحافظة حلب, والزمان, الخمسينيات, والحدث, التنافس على مقعدين في المجلس النيابي, يتنازع عليهما ثلاثة اشخاص يمثلون شرائح المجتمع المختلفة. الاول مصطاوي آغا, وهو اسم الشهرة لمصطفى اللمبة, ويمثل الشريحة الغنية ذات النفوذ السلطوي والمادي, والثاني الطبيب عزمي البناوي الذي يمثل الشريحة المتنورة سليل عائلة غنية. اما الثالث فهو خالد العبيان نموذج المثقف الاعزل من السلطة والمال, وإلى حد ما عن الاصل العائلي العريق. يبدأ الصراع بين الثلاثة مع تجرؤ خالد العبيان على دخول المعركة الانتخابية, رغم افتقاره لمقومات الترشيح المتعارف عليها اجتماعيا, مستعينا بالقوانين الدستورية التي تؤهله للترشيخ, ومع هذا فقد أثار بترشيح نفسه سخرية أهل بلد الزيتون, وسرعان ما تحول إلى خطر حقيقي يهدد المصطاوي آغا الأهوج. إلا أن العبيان لم يشكل الخطر ذاته على الطبيب عزمي كون هذا يتعامل مع مسألة النيابة بوعي اجتماعي وفكري وسياسي متحضر. الطبيب عزمي البناوي معروف عنه الاخلاق العالية وتشجيع العلم, فمن خلال وجوده في مجلس الشعب سابقا, سعى الى افتتاح مدرسة اعدادية في بلد الزيتون, طامحا مع البعض من اهل البلد من خلال نفوذه النيابي الى افتتاح مدرسة أخرى للتعليم الثانوي الذي يتكبد طلابه عناء السفر اليومي الى المدينة (حلب). أما المصطاوي آغا فيعتبر العضوية في مجلس الشعب تدعيما لوجاهة شخصية ونفوذ عائلي, يتمكن من خلاله حل مشاكل أهل البلد العارضة عن طريق الوساطة. وقد اعتاد روتينيا الحصول على مقعد في المجلس لينوب عن شريحة ترتبط معه بعلاقات اجتماعية تحكمها المصالح الشخصية البحتة, لما يملكه من نفوذ سلطوي ومادي تمتد جذوره إلى ايام الانتداب الفرنسي على سوريا. وهو الامر ذاته الذي جعله غير مقبول لدى الشريحة الوطنية المتمثلة بعائلة ( حمدي) المعروفة بالعلم والدين والأخلاق, والتي يلتف حولها فئات من المجتمع تحمل لواء التحضر. التناحر بين الفئة الداعية للانفتاح والفئة المقابلة القائمة على نظام العوائل, يأخذ صفة الحوار الاجتماعي, تبرز خلالها شخصيات مساعدة كثيرة, تحرك الاحداث, مثل شخصية أبو نعمان, الرجل الانتهازي, الجشع وشخصية ابو نادر (صاحب المقهى) الذي يؤهله عمله ليكون أكثر اعتدالا فهو رجل دمت ثابت على مبادئه الموروثة. والحلاق عبدالحميد كعبرة الذي يمثل الفئة المحايدة البعيدة عن الهم العام والمشغولة بقضاياها الخاصة. الى جانب الشخصيات الذكورية التي تجسد الاحداث هناك المجتمع الداخلي المتمثل بالنساء, العلاقات الاجتماعية, العاطفية, المؤامرات البيتية الصغيرة.. الخ. وعلى هذا المجتمع تقوم مهمة صناعة الاحداث وتحريكها من الداخل, حيث تؤثر قصص الخطوبة والزواج على توزيع الادوار, فابنة شقيق المصطاوي تحب شابا من عائلة حمدي, وهي تدفع حبيبها للعمل ضد عمها في الانتخابات لتتخلص من نفوذه واصراره على تزويجها من ابنه. كما يحاول العبيان التقرب من عائلة حمدي بطلب يد ابنتهم التي تحب ابن عمها, لكسب دعم عائلة حمدي, ولكنه يمنى بالفشل. تتوالى الصراعات والمؤامرات وفي النهاية ينتهي المصطاوي الى الجنون, بينما يتقرر اعادة عملية الترشيح والانتخابات بناء على طلب التيار الوطني بعد تشكيكه بصحة النتائج, وما كان ذلك ليتم لولا تحالف الفئات التقدمية. تمكن مسلسل (تلك الايام) من ايصال رسالته الفكرية بقالب فني رفيع المستوى, أبدع فيه الفنان سليم صبري بتجسيد شخصية المصطاوي, وكذلك الفنان عمر حجو بدور أبو نعمان, وعلي كريم في دور الحلاق, ومحمد خير الجراح بدور يوسف, ومحمد الحريري بدور الطبيب, ورجاء قوطرش بدور فطوم, وجيهان عبدالعظيم بدور مريم. إلى جانب مجموعة مهمة من الممثلين بدا جهدهم واضحا في تقديم شخصيات مقنعة الى حد بعيد, من حيث الشكل واللغة. فقد ادهش الجمهور مجموعة من الممثلين بدوا وكأنهم مأخذون من الواقع مباشرة دون رتوش. ومن مميزات العمل انسجام اللغة مع بناء الشخصيات, رغم كثرة الملاحظات على عدم التمكن من اللهجة الحلبية الريفية. الا ان تلك الملاحظة تبدو غير ذات اهمية بالنسبة للعمل ككل. فقد أجاد كاتب السيناريو والحوار خطيب بدلة في نقل البيئة الريفية إلى الورق, كونه مع كاتب القصة حسيب كيالي ينتميان لمدينة إدلب التابعة لريف حلب, وهي ذاتها مكان العمل. بالإضافة إلى تمكن كاتب السيناريو خطيب بدلة من المحافظة على الروح الساخرة في قصة كيالي, ليأتي كل ذلك متكاملا مع الاخراج المميز لرياض ديار بكرلي, وهو مخرج عرفت عنه الشفافية والبساطة والتلقائية في إخراج الاعمال الاجتماعية. مسلسل (تلك الايام) جاء مؤكدا بشكل غير مباشر على أهمية الاستفادة من النتاج الادبي في الدراما, وكذلك على الاهمية الكبيرة للنص في العمل الدرامي, اذ يمكن القول, ان النص المتقن بإمكانه رفع سوية التمثيل والاخراج معا.

Email